المزاح بين المشروع والممنوع
الحـمـد لله رب الـعـالـمـيـن، وصلى الله وسلم
وبـارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. وبعد:
فإن للأعمـال ضوابط تُضبَط
ومتى فُقِدَت هذه الضوابط كان
ذلك العمـل ممنوعاً. وكم من
فوقع في الممنـوع من حـيث يشعر
من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(1).
ومن تلك الأعـمـــال التي لا بـد أن تضـبط بضوابط الشرع المزاح الذي يكثر في هذه
الأزمنة المتأخرة؛ ويقل من يضبطه
معنى المزاح: المزاح ـ بضم
الميم ـ: وسيلة يراد بها المباسطة؛
بحيث لا يفضي إلى أذى، فإذا بلغ
الإيذاء فإنه يفضي إلى السخرية.
والمزاح ـ بكسر الميم ـ: مصدر. من فوائد
أولاً: أن يكون على سبيل الملاينة والمباسطة
وإدخال السرور على قلبه. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وتبسمك
وعـن عـبـد الله بـن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: "
ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم"(3). ثانياً:
أنه أنس للـمـصـاحـبـيـن وطـــرد للوحشة
وتأليف للقلوب ومظهر من مظاهر
ثالثاً: التخلص من الخوف والغضب والقلق
الإنسان إذا مزح أدخل على نفسه شيئاً من السرور والتسلية، وأزال ما يخاف
رابعاً: الـتـخـلـص من السأم والملل،
طلابه سؤالاً أو لغزاً كي يُذهِب الملل عنهم.
مشكاة النبوة: لـقــد كـان
الـرســـول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الرفق في كل أمر من أمور الحياة،
إلا مـن الـرفـق بها ليكون
الإنسان في الحياة؛ حتى ليُربَط الرفق
بصفات الخالق الرحيم الرفيق بخلقه.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: "إن الله
رفـيـق يـحـب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي
والرفق: "هو لين الجانب بالقول والفعل
وما الانبساط والـمـزاح ومــا يـتبع
والتبسم وانشراح الصدر إلا مظهر
من مظاهر الرفق. ولـعـل أشهر ما ورد في
المزاح ما أورده البخاري في باب
(الانبساط إلى الناس) حديث: "يا أبا عمير
وكذلـك أبــو داود فـي سـنـنه من حديث أنس:
"أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله احملني. فـقــال النبي
إنا حامـلـــوك على ولد ناقة" قال:
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "
وربما مازح صلى الله عليه وسلم
أصحابه بـعــد طـلـــوع الشمس،
ودليله ما رواه سِمَاك بن حرب قال:
"قلت لجابر بن سَمُرَة: أكنت تجالس
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم"(8).
ومن الأوقات بعد صلاة العشاء،
الحديث قبل النوم. وأورد البـخـاري حديـثـيـن
ذكرهما في باب (السمر في العلم)
واستنبط منهما جواز السمر في العلم
والقياس على ذلك في الـمـؤانـسـة مـــع الأهـــل،
ويزداد استحبابها إذا كانت لمصلحة
وإيجاد أجواء الحب والتعارف.
مـن الــراحة فيما لا يكون
حراماً ليستعين به على العمل
والأداء حسب ما تقتضيه الفطرة البشرية،
أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقول:
"إني أستجم ببعض الباطل؛ ليكون أنشط
ويقول ابن تيمية معلقاً على هذا القول:
استعان بالمباح الجميل على الحق
فهذا من الأعمال الصالحة"(11). الصحابة
والمزاح: أورد أبو داود في سننه:
"عـــن أسيد بن حضير قال: بينما رجل من
الأنصار يحدِّث القوم وكان فيه
مزاح بَيْنَا يضحكهم فطـعنه النبي صلى الله
عليه وسلم في خاصرته بعود،
فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه
وجعل يـقـبـل كَـشْـحَـه. قـال:
إنمــا أردت هذا يا رسول الله"(12).
من أشـهـر الـصـحـابـــة نُعيمان بن عمر
ودعاباته، وهو صحابي جليل:
"شهد بدراً، وكــان مــن قـدمـــاء الصحابة
وكبرائهم، وكانت فيه دعابة زائدة،
وله أخبار طريفة في دعاباته.. وكان
نعيمان مضحكاً مزاحاً"(13).
ولقد كان المزاح نوعاً من طرد السَّأَم والهم
والابتـعـاد عن مشاغل الدنيا وترويح للنفس؛
تتجدد فيها الطاقة وتبعث فـيـهــــا الهـمــة؛
لأن القلوب إذا كلَّت عميت؛
بل إن ذلك قد يكون مظهراً من مظاهر
الرجولة في البيت ومع الزوجة
والأولاد،إذا كان دون إسراف أو جنــوح،
لا كما يظن بعضٌ أن الرجولة
"قال ابن عمر: إنـه ليعجبني أن
يكــون الرجل في أهله مثل الصبي،
ثم إذا بُغي منه وُجِدَ رجلاً. وكان زيد
بن ثابت من أفكه الناس في بيته،
فإذا خرج كان رجلاً من الرجال"(14).
مــن خُلُق الشاب الملتزم أو الداعيــة التبسم
خــارج البيت وتصنُّع الغلظة والجفوة في بيتــه،
التكلف المذموم أيضاً. التوازن مطلب أساس:
لـقـد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعيش بين الصحابة
وفيهم الحازم من أمثال عمر بن الخـطاب ـ رضي
الله عنه ـ فقد كان رجلاً مهيباً.
وفيهم صاحب الدعابة الذي يستلقي على
قفاه، ولم ينكر على أحد منهم. والأصل
هـو في إنكار الضحك المتكلَّف في
القهقهة، أو الضحك في مواطن الجد،
أو الإفراط فيه. "ولقد سئل ابن عمر ـ
هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟
نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبل.
وقــال بلال بن سعد: أدركتهم
يشتدون بين الأعراض ويضحك بعضهم إلى بعض،
رهباناً"(15). وهـكـــذا ظل الصحابة أوفياء للمنهــج النبــوي دون أن يؤثر
أو على تفويت المصالح. ولا
شـك أن الإفـــــــراط يقود إلى أمور
تنافي مقاصد الشريعة ومراتب المروءة،
وتتعارض مع المقامات السامية،
كما أنها قد تكون حسنة بذاتها ولكنها تقود
إلى مفسدة، ولقد قال علي ـ رضي الله عنه
ـ في توضـيـح هـــذا الميزان
وتثبيته: "خير هذه الأمة النمط الأوسط:
يرجع إليهم الفاني، ويلحق بهم
وعلى منهج الصحابة سار السلف
استراحة؛ فتكاد ألاَّ تجد كتاباً يخلو
من مُـلَح وطرائف لشيخ التابعين
الإمام الشعبي ـ رحمه الله ـ.
قيل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة؟ قال: بل
سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه
وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح
وفق ضوابطه وفي أوقاته من المروءة،
والتقصير فيه من خوارم المروءة، وشددوا
وفي هذا يقول ربيعة الرأي: "
إن المروءة من خصال: ثـلاثة
فـي الحـضر، وثلاثة في السفر،
والتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق،
وكثرة المزاح من غير معصية"
(17). وإيراد ما ورد عن التابعين وسلف الأمة
وجميعهم على هذا المذهب في جواز المزاح وفق الضوابط الشرعية. يقول
الـمـزاح المـنهـي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم
عليه؛ فإنه يورث الضحك وقسوة القلب،
ويشغل عن ذكـر الله ـ تـعـالى ـ،
ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة
فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يفعله"(18).
الضوابط الشرعية في المزاح: 1 - ألا يكون فيه
: (ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ
قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ)) [التوبة: 65، 66].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "
ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه"(19)
ويجعل الإمام ابن قدامة ذلك ردة
وهذه كالاستهزاء ببعض السنن
على سبيل المزح، وببعض الأحكام
الشرعية كتقصير الثوب وإعفاء اللحية أو الصلاة والصوم وغيرها. يقـول ابن
عـبـاس ـ رضي الله عنهما ـ:
"من أذنـب ذنـبــاً وهــو يضحـك دخل النار
يبكي"(20). 2 - ألا يكون إلا صدقاً ولا يكذب:
لذكر الطرائف الكاذبة بقصد إضحاك الناس.
روى الإمام أحمد في مسـنده أن
الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
"ويل للذي يحدِّث فيكذب ليُضحِكَ به القوم
وقولــه صلى الله عليه وسلم: "
ليُضحِك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا"(22).
أنـهــم وقـعوا في ذلك بسبب الفراغ
وضعف الإيمان والبعد عن ذكر الله ـ
تعالى ـ، ومصاحبتهم لجلساء السوء الذين يزينون لهم بعض المحرمات. 3 –
السخرية والاستهزاء بالآخرين:
فتلك محرمة وتعد من الكبائر، يقول ـ تعالى
ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى
خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن
يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْـقَــــابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ
يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [الحجرات: 11].
المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعد من
(23). ويقول الطبري: "اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان"
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
لَـيُفْـتَـحُ لأحـــدهم باب الجنة فيقال:
هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا
ويُخشى على المستهزئ أن تعود عليه تلك الخصلة التي يسخر من غيره فيها فيتصف بها ويـبـتـلـى بـفـعـلـهـــا؛ لقوله صلى الله
لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك"(26). ولـقــد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السخرية بالمسلمين فقال:
"المسلم أخو المسلم لا يظـلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره
ثلاث مرات ـ بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على
المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"
(27). 4 - ألا يروِّع أخاه: فـقد أورد أبو
داود في سننه عن ابن أبي ليلى قال:
"حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه
وسـلـم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم
فانطلق بعضهم إلى حـبـل معه فأخذه ففزع"
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً"(28).
لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً"(29). 5 - عدم الانهماك والاسترسال والمبالغة والإطالة:
يـنـبـغـي ألاَّ يداوَم على المزاح؛ لأن
وفسحة لاستمرار النفس في أداء
واجبها. فبعض الناس لا يفرق بين وقت الجد واللعب. وبذلك نبه الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله: "
من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة"
إن العالم والكبير لهم من المهابة والـوقـــار
ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً فينبغي الابتعاد عن المزاح مـعـهـما خشية الإخلال
بتوجيه النبي صلى الله عليه
إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم"
ونقل طاووس عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قـال:
"مــن الـسـنـة أن يـوقَّـر
وكذلك من آداب الإسلام ألاَّ يمزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس المازح؛
فـهــــذا يؤدي إلـى اسـتـحقار المازح والاستخفاف به؛ فهذا
عمر بن عبد العزيز يرسل إلى
عدي بن أرطأة فيقول: "اتقوا المزاح؛ فإنه
ألا يكون مع السفهاء: قال سعد بن أبي وقاص لابنه: "اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفهاء". 8 –
الـغـيـبـة وحليفتها النميمة كلتاهما تصبان في
ولا يخلو مَنْ كَثُرَ مزاحه من هذه الآفــــة العظيمة؛
لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فهو لا يشعر أنه وقع في الإثم أصلاً؛ لأنه ـ في
زعمه ـ إنما يقول في فلان مازحاً غير قاصد ذلك.
الله عليه وسلم للغيبة بقوله: "
التـرمــذي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كـلـهــا تـكــفـر اللــسـان فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما
نحن بك: فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا"(33).
سواء كانت في البدن أو الخلق وغيرها.
هذا ونسأل الله أن يؤدبنا بآداب
الإسلام، وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين
منقول للفائدة