بكاء لكن على حــي
ماذكْر به حــيٍّ بكا حيّ ياذيب
واليوم انا ببكيك لو كنت حيـّا
***
انا اشهد انك بيننا منقع الطيب
والطيب عسر مطلبه ماتهيّا
هما نفثتان شعريتان للأمير الفارس شالح بن هدلان من الخنافر’ من آل محمد’ من قحطان.
دمعت بهما عيناه وتلعثمت بهما شفتاه حينما أقبل ولده " ذيب " وقبّله على راسه باحترام مهيب.
إحساس أبوي جارف تجاوز مسافات الواقع إلى مفاجأت المجهول ’ بكاءٌ وجدانيٌّ مباغت تمرد على أبجديات المجلس الرجالي تمردا ساميا يستشعر الحزن المؤجل.ما إن عاتبه أحد جلسائه على عبرته المتشائمة تفجر القلق المكبوت في أطواء روحه بهذه الكلمات الآهات.
لامس شالح في ولده الشجاعة اللامحدودة ’ والعضد المعين على غوائل الزمن وأغلال الحياة
ولم يزل ذيب فارسا فتيا يندفع إلى مغامرات الفروسية بما تنطوي عليه من بشائر الظفر واشتهار الخبر
واحتمالات النهاية أيضا!
كيف يتهافت الأسى وكيف يتجلّى البكاءلو بكاه ميتا ؟ .. هذا الأمير المثقل بفدائح المسؤولية ومعاضل المشيب
يستشعر الخطر المحتمل على ذيب الذي كان جديرا ببكاء أبيه عليه حيا وميتا.
أليس هو ذيب الموغل في برّه بوالديه بمشهدية انسانية تكاد لاتلتمسها إلا في القصص الاسطورية.
كان يمسك بالإناء الملئ باللبن ويظل واقفا طوال الليل ’ وربما تجول قليلا في المكان مهللا ومسبحا حتى تأتي قوافل الفجر منتظرا استيقاظ والديه ليسقيهما اللبن بوجه يهمي بشاشة وتلطفا.
هاهو يتفادى الانتظار جالسا كي لايتسلل النعاس إلى عينيه فتفوته نظرات الرضا من عيون والديه.
إذا مضوا راحلين كان ذيب يستبق القوم بحثا عن الصيد حتي يكون الصيد مهيئا لأبيه حين يلقون الرحال ليستريحوا.
هذه المرة حاول ذيب البحث عن صيد يستحق فطال بحثه دون العثور على شئ ..ماذا يفعل ؟..كان معتادا
على ايقاد النار وتهيئة الطعام لوالده من دون تباطئ.. عادة سامية لايريدها أن تتعطل مهما تكن الظروف غير مواتية.
من سيفكر بما فكر فيه ذيب؟
قليل أو نادر من سيقوم بما قام به ذيب
عمد إلى ناقته التي برفقته وذهب بها إلى مكان صاد لايراها فيه أحد ونحرها واستخرج أطيب وألين مافيها من لحم الشواء. أشعل النار وأعد الطعام منتظرا قدوم القوم وما إن اقترب شالح حتى نهض له ذيب باحترام شديد محيّيا ومرحبا وكأنه ضيف كبير جاء للتو.
بفطنته علم شالح بقصة هذه الوجبة : ذبحتها ياذيب ؟!
ابتسم ذيب راضيا: تفداك يابوي
ياله من حرص وتفان في خدمة والديه’’ أيّ برٍّ نادر وأيّ رحمة جمة ينبضان في عروق ذلك الشاب المدهش
فهل نتعجب من بكاء والده عليه حـيـًّا ؟