أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إن الإنسان خلقه الله سبحانه من قبضة من طين، ونفخ فيه من روحه، فهو جسم، وهو روح، يحتاج إلى تناول مقومات جسمه، من طعام وشراب ونكاح وغيرها. وهو روح، يحتاج إلى تعاطي ما يغذي روحه، من عبادة الله المشتملة على الصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن وغيرها.

وينبغي أن يعتدل في ذلك، فلا يأخذه الإفراط في تغذية الروح حتى يقتل الجسم أو يضعفه، ولا يأخذه التفريط في تغذية الجسد حتى تضمر الروح أو تموت. وبهذا الاعتدال جاء الإسلام: يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، بالعبادة والطاعة ويؤكد ذلك كثيراً، نظراً لعزوف أكثر الناس عن تغذية الروح إلى تغذية الجسد.


ويدعو إلى تناول الطيبات التي تغذى الجسد، ولكنه لا يؤكد ذلك مثل تأكيده تغذية الروح؛ لأن في الجبلة ما يدعو إلى التغذية الجسمية فلا تحتاج إلى تأكيد، فالاعتدال هو المطلوب، وغذاء الروح أكثر حاجة إلى الاجتهاد.


ولكن بعض الناس ممن يجتهدون في طاعة الله، يرغبون في المزيد من الطاعة، ويرون أن الجسد إذا قوي وأُعطي حاجاته قد يعوقهم عن الوصول إلى ما يرغبون فيه من الإكثار من الطاعة.

فيأخذون في الابتعاد عن تلبية رغباته لتقوى بذلك الروح، فيعزفون عن ملذات الحياة، ومنها النكاح، وقد بدأ هذا العزوف يظهر في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.


كما روى أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، يسألون عن عبادة النبي عليه الصلاة والسلام.

فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ‘، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟

قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً.

وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.

وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.

فجاء رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) [البخاري (6/116).].

وبالغ بعض هؤلاء، فجاء يستأذن رسول الله ‘عليه الصلاة والسلام، في التبتل والانقطاع للعبادة. وكان وراء المستأذن من ينتظر الجواب، فإن كان إذناً أماتوا شهوة النكاح بالاختصاء. ولكن رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي كان يحب بقاء النسل لمحبة الله إياه أوصد عليهم الباب فمنعهم من ذلك. كما روى سعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه، قال: "لولا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، رد على عثمان بن مظعون التبتل لاختصينا" [البخاري (6/118-119) ومسلم (2/1030).].

في هذا الحديث ما يدل على شدة حرصه عليه الصلاة والسلام، على تعاطي النكاح، والكراهة الشديدة لتركه والزهد فيه، فقد منع من أراد الغلو في العبادة بالقضاء على وسيلة النكاح وآلته، مع أن الذين يغلون في ذلك يكون عددهم قليلاً في الغالب، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام، حرص أن لا يوجد في أمته هذا القليل لئلا يكون قدوة لغيره.

المبحث الخامس: تحريم قتل الأولاد وإجهاض الحوامل


إن هبة الله تعالى للوالدين أولاداً، نعمة من نعمه عليهما وعلى المجتمع، وهؤلاء الأولاد أمانة عندهم، يجب أن يشكروه سبحانه على وجودهم.

كما يجب أن يحفظوا تلك النعمة من الأضرار المؤدية إلى فقدها، وحفظ الولد عبادة إذا قصد به طاعة الله تعالى.

والطفل الصغير الذي قد لا يحفل به أهله، قد يكون في يوم من الأيام إمام أمة، أو قائد جيش، أو عالماً من كبار العلماء في أي علم ينفع الأمة، أو غير ذلك مما يعود بالخير على المجتمع.

ولكن المستقبل غيب والغيب مجهول، والمقدر عند الله كائن لا محالة.

ولقد جاء الإسلام والمشركون يقتلون أولادهم لأحد سببين:

السبب الأول: التخفيف من أعباء نفقات الأسرة خشية الفقر.

كما قال سبحانه ناهياً عن ذلك: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرمَ ربُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألا تُشْركُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ولا تَقْربُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَر مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151)}} [الأنعام].

قال القرطبي، رحمه الله: "وقد كان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر. كما
هو ظاهر الآية، أملق أي افتقر" [الجامع لأحكام القرآن (7/132).]. وقال تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيراً(31)} [الإسراء].

السبب الثاني: نَظَرْة كثير منهم للأنثى وكراهتهم لها، خشية العار بالزنا أو السبي. كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّر أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّر بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ألا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}(59) [النحل].

والآية تشير إلى الجريمة التي كانوا يرتكبونها، وهى دفن الأطفال وهم أحياء في الأرض، وهى الموءودة التي هددهم الله بالسؤال عن سبب قتلها يوم القيامة. بقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير] [9].

فلما جاء الإسلام نهى الله سبحانه عن قتل النفس بغير حق عموماً، ونهى عن قتل الأولاد خصوصاً. فأصبح المسلمون يحتفلون بالولد الجديد ذكراً كان أو أنثى، ويذبحون لقدومه الذبائح شكراً لله، ويتصدقون بوزن شعر رأسه ذهباً ويختنونه وهو صغير ويربونه تربية رحيمة كريمة.

وقد أُلِّفَتْ في أحكامه كتبٌ تناولته قبل الولادة وبعدها، ولا يخلو كتاب من كتب الفقه من أبواب تتعلق به [ومن المؤلفات الخاصة بالأجنة والأطفال: كتاب "تحفة المودود في أحكام المولود" وكتاب "جامع أحكام الصغار لمحمد بن محمود الأسروشني" وكتاب "الجنين والأحكام المتعلقة به لمحمد سلام مدكور".].

ويدخل في النهي عن قتل الأولاد العزل عند بعض العلماء - أي عزل الرجل ماءه عن المرأة عند الجماع - لأنه منع لأصل النسل، ولكنهم حملوا النهي في ذلك على الكراهة، لا على التحريم [راجع كتاب الجامع لأحكام القرآن (7/132)للقرطبي.].

قال النووي، رحمه الله: "العزل هو أن يجامع، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وهو مكروه عندنا في كل حال وكل امرأة، سواء رضيت أم لا؛ لأنه طريق إلى قطع النسل.

ولهذا جاء في الحديث الآخر تسميته: "الوأد الخفي" لأنه قطع طريق الولادة، كما يقتل المولود بالوأد. وأما التحريم فقال أصحابنا: لا يحرم في مملوكته، ولا في زوجته الأمة - سواء رضيت أم لا - لأن عليه ضرراً في مملوكته بمصيرها أم ولد، وامتناع بيعها، وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقاً، تبعاً لأمه.

وأما زوجته الحرة، فإن أذنت فيه لم يحرم، وإلا فوجهان: أصحهما لا يحرم. ثم هذه الأحاديث مع غيرها، يجمع بينها بأن ما ورد في النهي محمول على كراهة التنـزيه، وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام، وليس معناه نفي الكراهة" [شرح النووي على صحيح مسلم (10/9-10).].

والذي يتأمل الأحاديث الواردة في العزل يبدو له كراهة الرسول عليه الصلاة والسلام له، ومع تلك رخَّص فيه للحاجة مع كراهته له.

والحديث الذي أشار إليه النووي رحمه الله الذي سمى فيه: "الوأد الخفي" [وهو في مسلم "ثم سألوه عن العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفي)"، شرح النووي على مسلم (10/17).]. واضح في ذلك، وقد ذهب ابن حزم، رحمه الله إلى تحريمه مطلقاً [المحلى (10/70-71) وراجع في ذلك كتاب تحديد النسل لمحمد سعيد رمضان البوطي، في أول الكتاب.].

وإذا علم حكم العزل، سواء قيل فيه بالكراهة أم بالتحريم، بان لنا حرص الشريعة على حفظ النسل وبغض التسبب في قطعه، ولو بإلقاء النطفة خارج الرحم قبل أن تستقر فيه.

ويجب التنبيه هنا إلى أن ترخيص الرسول عليه الصلاة والسلام، في العزل لبعض الأفراد مع الكراهة، لا يجوز أن يؤخذ منه إباحة اتخاذ وسائل منع الحمل لعامة الناس، ولا أن يجعل الحاكم ذلك قانوناً يسري على رعيته كلهم، أو أغلبهم؛ لأن ذلك مناف لمقصود الشارع، وهو حفظ النسل واستمراره، بخلاف تنظيم النسل عندما تدعو حاجة الأسرة إليه. ولأن الإذن للفرد للحاجة مع الكراهة أو بدونها، لا يدل على إباحة اتخاذ قوانين لتعميمه، فهي رخصة تخالف الأصل [راجع كتاب البوطي السابق ص33.]ٍ.

بل لا يجوز للناس كلهم، أن يعزلوا ولو بدون قانون؛ لما في ذلك من الإطباق على مخالفة قصد الشارع من النكاح.

هذا ما يتعلق بالعزل، فما حكم الإجهاض؟

الإجهاض هو إسقاط الحمل من رحم المرأة. وقد اختُلف في ذلك:

فذهب بعض فقهاء الحنفية إلى جوازه قبل نفخ الروح فيه لعذر [حاشية ابن عابدين (3/176).].

وأوجب فيه الشافعية الضمان إذا أسقط مضغة لم يتبين فيه عضو من أعضاء الآدمي، ولكن شهد أربع من ذوات الخبرة الثقات أوطبيبان ثقتان أن فيه تخطيطاً لآدمي [تكملة المجموع للمطيعي (17/382-383).].

ومعلوم أن الجنين يبلغ أوج نشاطه عند الأطباء الآن في تكون الأعضاء في الأسبوع السادس راجع خلق الإنسان بين الطب والقرآن، لمحمد بن علي البار ص377-395 الطبعة الثانية، الدار السعودية. [راجع خلق الإنسان بين الطب والقرآن، لمحمد بن علي البار ص377-395 الطبعة الثانية، الدار السعودية.]. ويرى المالكية أن الإجهاض لا يجوز ولو قبل أربعين يوماً [الشرح الكبير على الدردير، نقلاً عن كتاب الجنين والأحكام المتعلقة به لمحمد سلام مدكور ص302.]. ويرى الحنابلة ضمان الجنين إذا سقط ميتاً دون تفريق [المغني (8/432).].

قال محمد سلام مدكور - بعد عرض المذاهب الفقهية -: "ومن كل ما عرضنا في هذا الموضوع، يتبين أن الاتجاه الفقهي لا تختلف فيه وجهات النظر، في أن الإجهاض بعد نفخ الروح عمداً بلا عذر محرم شرعاً. وأما قبل ذلك فقد اختلفت وجهات نظرهم على ما بيَّنَّا، وقد أوردنا وجهة نظرناً من ترجيح القول بمنع الإجهاض قبل نفخ الروح وبعده ما لم يكن هناك عذر يقتضى ذلك" [الجنين والأحكام المتعلقة به في الفقه الإسلامي ص305-306، وراجع أيضاً كتاب تحديد النسل لمحمد رمضان البوطي.].

والذي يظهر أن هذا هو الصواب؛ لأن النطفة بعد أن استقرت في قرارها المكين لا يجوز الاعتداء عليها بدون عذر شرعي. وبهذا يظهر حرص الإسلام على حفظ النسل وأنه من الضرورات التي يحرم الاعتداء عليها.