بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
قال تعالى : " وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً " [ الكهف :60 ] .
قوله تعالى: " وَإِذْ " مفعول لفعل محذوف والتقدير " اذكر إذ قال "، يعني واذكر إذ قال موسى لفتاه .. أي : غلامه يوشع بن نون ..
وكان موسى - عليه الصلاة والسلام - ابن عمران قام يخطب يوماً في بني إسرائيل فقام أحدهم وقال :
هل على وجه الأرض أعلم منك ؟
قال موسى : " لا " ، وذلك بناء على ظنه أنه لا أحد أعلم منه ، فعتب الله عليه في ذلك ، لماذا لم يكل العلم إلى الله ..
فقال الله عز وجل إنَّ لي عبداً أعلم منك وإنَّه في مجمع البحرين ، وذكر له علامة وهي أن تفقد الحوت ، فاصطحب حوتاً معه في مِكْتَل .
المكتل : شبه الزنبيل الذي يحمل فيه تمر أو العنب، يسع خمسة عشر صاعاً .
وسار هو وفتاه يوشع بن نون ، جاء ذلك في البخاري ، لينظر من هذا الذي هو أعلم منه ثم ليتعلم منه أيضاً ..
كان الحوت في المكتل ، فلما استيقظا مع السرعة لم يفتشا في المكتل ، وخرج الحوت بأمر الله من المكتل ودخل في البحر .
" لا أَبْرَحُ " أي لا أزال ، والخبر محذوف والتقدير " لا أزال أسير " .
" مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ " قيل : إنه مكان الله أعلم به ، لكن موسى يعلم ، وقيل : إنه ملتقى البحر الأحمر مع البحر الأبيض ، وكان فيما سبق بينهما أرض ، حتى فتحت القناة وهذا ليس ببعيد ، وسبب ذلك أن الله أوحى إليه أن عبداً في مجمع البحرين أعلم منك .
" أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً " أو هنا للتنويع ، يعني إما أن أبلغ مجمع البحرين أو أمضي في السير حقباً أي : دهوراً طويلة ..
وقيل : " أَوْ " بمعنى " إلاَّ " أي حتى أبلغ مجمع البحرين إلاَّ أن " أَمْضِيَ حُقُباً " أي : دهوراً طويلة قبل أن أبلغه ، لكن الوجه الأول أسد ، فتهيئَا لذلك وسارا ، وسبب قوله هذا أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن عبداً لنا هو أعلم منك عند مجمع البحرين ، فسار موسى إليه طلباً للعلم .
" فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً " [ الكهف :61 ]
قوله تعالى: " فَلَمَّا بَلَغَا " أي : موسى وفتاه .
" مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا " أي : بين البحرين .
" نَسِيَا حُوتَهُمَا " أضاف الفعل إليهما مع أن الناسي هو الفتى وليس موسى ..
ولكن القوم إذا كانوا في شأن واحد وفي عمل واحد ، نسب فعل الواحد منهم أو القائل منهم إلى الجميع ..
ولهذا يخاطب الله عز وجل بني إسرائيل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: " وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ " [ البقرة:50 ] .
" وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة " [ البقرة: الآية55] ، مع أنهم ما قالوا هذا ، لكن قاله أجدادهم .
" نَسِيَا حُوتَهُمَا " نسيان ذهول وليس نسيان ترك ..
وهذا من حكمة الله عز وجل ، أن الله أنساهما ذلك لحكمة ، وهذا الحوت قد جعله الله سبحانه وتعالى علامة لموسى ، أنك متى فقدت الحوت فثَم الخضر ..
وهذا الحوت كان في مِكْتَل وكانا يقتاتان منه ، ولما وصلا إلى مكان ما ناما فيه عند صخرة ، فلما استيقظا وإذا الحوت ليس موجوداً ، لكنه أي : الفتى لم يتفقد المكتل ونسي شأنه وأمره ، هذا الحوت - سبحان الله - خرج من المكتل ، ودخل في البحر وجعل يسير في البحر، والبحر ينحاز عنه .
" فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً " أي اتخذ الحوت طريقه في البحر.
" سَرَباً " أي مثل السرب ، والسرب هو السرداب يعني أنه يشق الماء ولا يتلاءم الماء ، وهذا من آيات الله ، وإلا فقد جرت العادة أن الحوت إذا انغمر في البحر يتلاءم البحر عليه ، لكن هذا الحوت من آيات الله ..
أولاً : أنه قد مات ، وأنهما يقتاتان منه ، ثم صار حياً ودخل البحر !
ثانياً : أنه صار طريقه على هذا الوجه ، وهذا من آيات الله تبارك وتعالى .
" فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً " [ الكهف :62 ] .
قوله تعالى: " فَلَمَّا جَاوَزَا " الفاعل موسى وفتاه " جَاوَزَا " يعني تعديا ذلك المكان ، قال موسى لفتاه :
" آتِنَا غَدَاءَنَا " وكان ذلك ، لأن الغداء هو الطعام الذي يؤكل في الغداة .
" لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً " أي تعباً .
وقوله : " مِنْ سَفَرِنَا هَذَا " ليس المراد من حين ابتداء السفر ولكن من حين ما فارقا الصخرة ، ولذلك طلب الغداء ..
قال أهل العلم وهذا من آيات الله فقد سارا قبل ذلك مسافة طويلة ولم يتعبا ، ولما جاوزا المكان الذي فيه الخضر، تعبا سريعاً من أجل ألا يتماديا في البعد عن المكان .
" قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً " [ الكهف :63 ]
قوله تعالى: " قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ " أي : قال الفتى لموسى : " أَرَأَيْتَ " أي ما حصل حين لجأنا إلى الصخرة ، والمراد بالاستفهام التعجب أو تعجيب موسى .
" فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ " يعني نسيت أن أتفقده أو أسعى في شأنه أو أذكره لك ، وإلا فالحوت معروف كان في المكتل .
" وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ " قوله : " أَنْ أَذْكُرَهُ " هذه بدل من الهاء في " أنسانيه " ، يعني ما أنساني ذكره إلا الشيطان .
" وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً " أي اتخذ الفتى أو موسى سبيل الحوت في البحر .
" عَجَباً " يعني محل عجب ، وهو محل عجب ، ماء سيال يمر به هذا الحوت ، ويكون طريقه سرباً ، فكان هذا الطريق للحوت سرباً ، ولموسى وفتاه عجباً ، ولنا أيضاً عجب ، لأن الماء عادة يتلاءم على ما يمر به لكن هذا الحوت – بإذن الله – لم يتلاءم الماء عليه .
" قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً " [ الكهف :64 ]
قوله تعالى : " قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ " أي قال موسى عليه الصلاة والسلام : " ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ " أي : ما كنا نطلب ، لأن الله أخبره بأنه إذا فقد الحوت ، فذاك محل اتفاقه مع الخضر .
" فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً " يعني رجعا بعد أن أخذا مسافة تعبا فيها ، ارتدا على آثارهما ، يعني يقصان أثرهما ، لئلا يضيع عنهما المحل الذي كانا قد أويا إليه .
وللحديث بإذن الله بقية .
[align=left]تفسير سورة الكهف / ابن عثيمين رحمه الله .[/align]