فلتمطــــــر السمـــــــاء
السلاام عليكم ورحمة الله
اخواني الغالين على قلبي .. اعضاء منتدى غرابيل..
بصراحه بعد الصدى اللي شفته بعد كتابة قصتي الاولى " دروب كفيفة" تشجعت وايد اني اكتب قصة يديده تختلف في مضمونها وهدفها عن القصة الاولى .. اتمنى من كل قلبي ان تكون ارائكم صريحه مثل ما عودتوني , واتمنى ان القصه تكون احسن من مستوى القصه الاولى اذا ما كانت تماثلها ..
تحياتي لكم
-------------------
فلتمطــــــر السمـــاء
في بداية الأمر, هي مجرد قطرات متثاقلة من المطر .. تتكاثف وتتجمع لتشكل قطرة كبيرة تسقط على رف النافذة الخشبي .. سقوطها ! لقطة بطيئة تمنحك من الوقت لتتأمل صفائها .. ونقاءها .. لتذكرك بأنك رمز من رموز الطبيعة , وأن الطبيعة رمز من رموز الحياة !
ولكن ! لم يكن هذا ما يدور في خلد عامر وهو يتكئ بيد واحدة شاردا من خلال النافذة , هائما بفكره , يشارك قطرات الأمطار هبوطها المريح على نافذته, ويساعدها لتتكاثف وتسقط، بطَرْقِه ِعلى النافذة ! يراها تسقط ويبتسم .. ثم يعاود الطّرْقَ لتليها الأخرى وتزيد ابتسامته! لتبرز تجويفا كبيرا ورائعا ً في خده , فرحا برؤية شيء نقي آخر يسقط ويتلاشى ! كما سقط هو خلال أيام قليلة .
كان لدى عامر الكثير من الوقت للتفكير ! ورغم مكوثه الطويل في السجن .. إلا ان أفكاره لم تحمل لونا رماديا مائلا للسواد !مثلما هي الآن , في أحضان الحرية , وبين جنبات ذكرياته السعيدة ! كانت أفكارا تبعث في نفسه الراحة والاطمئنان .و كان الأروع بين أربعة مساجين غريبي الأطوار ! أحمد , سالم , صاغر , والملقب ب" الصقر" ! , عامر ! هو الاسم الأكثر شعبية في السجن المركزي , إنسان ذو مبدأ , خيالي , حالم , وأقرب الى البساطة . الا ان هذه السمعة الطيبة لم تدم طويلا , اذ لم يكن عامر حين دخوله السجن محبوباَ , الى ان أنهكته هذه الرفقة الرباعية بالتجارب والخطط !وأفقدته ما كان يملك من مبادئ شريفة وعينان تعكسان بريق الحياة !
دخل عامر السجن في لمحة بصر ! لمحة هي أشبه بكابوس استيقظ منه وثلاثة من الوجوه تنظر إليه بفضول ! كان أحمد وسالم وصاغر يجلسون حوله كما تجلس الضباع على بقايا غزال ميت ,,تنظر الى ما خلفته لهم الأسود ! فتح عامر عينيه ليجد أحمد ينفث في وجهه السيجار . ينظر إليه وآلاف الخطط تتطاير من عينيه !وابتسامة خبيثة تطالب بالخروج , وما أن مشى عامر بنظره للاثنين الباقيين , وجد صاغر ينظر الى ملابسه عاقدا حاجبيه وعيناه جاحظتان من الفضول . ظن عامر بأن سيلا من اللعاب سيمطره به صاغر خلال أجزاء من الثانية ! وكمحاولة أخيرة , أشاح عامر بنظره الى سالم ! ليجد به مواسيا أسوأ من الاثنين أحمد وصاغر , فقد استقبله سالم بلكمة على وجهه صائحا:
- أتظن بأنك في فندق يا هذا؟؟ قم وتناول طعامك .. أم أنك تفضل بأن نحضر لك أكواب من فضة , وحسناء تقوم بخدمتك؟؟
"يا الهي ! ما الذي كان ينتظرك يا أبي في مكان مثل هذا؟؟؟" قالها عامر في نفسه بخوف كبير , ممزوج بالندم والخيبة , والرضا في الوقت ذاته !
كان عامر راضيا عن نفسه , فقد أنقذ والده من نفسه , أنقذه من تهم كثيرة وكبيرة جدا بالنسبة لعامر , إلا أنها لم تكن كذلك لأبيه! صحيح بأن دخول عامر السجن لم يؤخر من وفاة والده ! إلا أنه قضى آخر أيامه بين عائلته وأقربائه , ولم يقضها بين أربع جدران ملوثة برائحة السجائر , وذكريات المساجين , وألوان الكآبة , ونفحات البرد القاتلة !
لطالما راود عامر إحساسا بأن والده لم يكن شريفا , وبأنه كان يتاجر بالممنوعات ! ولطالما أدرك عامر بأن ثروتهم ليست حلالا ! لسبب بسيط , لم يكن أبدا سعيدا بذلك الثراء , على عكس والده الذي كان فخورا بتأمين كل مستلزمات الحياة لأبنائه , عامر ومها .
مسكينة مها , لابد أنها تبكي بحرقة على وفاة والدها , وعلى دخول عامر السجن أيضا ! فتاة حساسة مثل مها , لا يجب أن تعلم سبب دخول عامر السجن , فهي المدللة من والدها , وكان تهيم به حبا , وتفخر به بين صديقاتها وأقرانها من الفتيات .
"آه يا مها , هنيئا لك ِ حبه لك , فقد أدركت للتو بأن أبي لم يحبني يوما ً !"
في ثورة أفكاره , لكمه سالم لكمة أخرى ! وأجبر عامر على الجلوس , الجلوس؟؟ بل هو أشبه بالجلوس , فقد كان الجزء الأكبر بين يدي هذا المتوحش , مذكرا عامر بأنه لن يقوم بخدمته أبدا , كما أمره الضابط المسئول .
إنه اليوم الأول لعامر في السجن المركزي , بعد نقله مباشرة من المستشفى الى هنا , إذ بعد حجزه في السجن لحين انتهاء الحكم , أبلغوه بالأمرين معاً ! وفاة والده والحكم بالسجن لمدة ثلاثة سنوات بتهمة المساعدة في تجارة الممنوعات ! وكنتيجة لذلك , أدخل عامر المستشفى لسوء حالته الصحية , ومن ثم , الى هنا ! الى هذه الضباع المتوحشة !
- لا بأس , أرجوك ابتعد عني , فلست بحاجة الى عناية من هذا النوع !
- عجبا! أيعرف صاحبنا أي عناية يتأمل بالحصول عليها هنا ؟
أغمض عامر عينيه منزعجاً . مهلا ً انه صوت بعيد ! ربما في الزاوية المستترة عن أعين الناس ! صوت هادئ , غامض , مسيطر . أدار عامر رأسه للزاوية التي يجلس عليها صاحب هذا الصوت الرخيم . ليجد رجلا في أواسط الأربعين من عمره , هزيل البنية , هزيل بشكل لا يصدق ! إلا أن لديه عينين كالصقر !
- من أنت؟؟
كان هذا عامر ,, يتساءل عمن يكون من يملك عينين مثل هذه , ويوجه له كلاما مسيطرا ! كأنه مالك قصر , أو دولة ما ؟؟ وليس سجيناً في مكان قذر كهذا !
قام هذا الأخير من زاويته متثاقلا , حتى بانت نحافته الغير طبيعية أكثر من قبل , واضطر عامر الوقوف لمجابهته , فهو على الأقل , يملك جسدا يفتخر بامتلاكه ! مدّ هذا الغريب يده اليسرى مصافحاً :
- مرحبا , أنا خالد , قاسم , جمال , كل ما لديك من أسماء , إلا أنني أٌلقّب بالصقر !
- إنه الاسم المناسب لك بدون شك .
حاول عامر اصطناع ابتسامة , إلا انه لم يستطع بسبب تلك الوجوه الغريبة التي تراقبه , كأن حالته الصحية والنفسية لا تكفيه ليواجه أشخاصا غريبي الأطوار ! نافث السجائر الخبيث , ومسيل اللعاب , والملاكم , وهذا الأخير ذو الأسماء المتعددة !
+++++++++++++++++++++++++++++++++++
توقف عامر عن الطرق على النافذة وإسقاط قطرات المطر , ولكنه بدأ بسلسلة من البحوث , عن ورقة كانت موجودة هنا قبل مجيء الشرطة لسحبه بذاك اليوم !
" أين وضعتها؟؟ لابد أنها في مكان ما " قال معاتبا نفسه على إهماله الذي اعتاد عليه , حسنا انه لشيء ٌ جميل بأن يبقى بيت العائلة متواجدا لمن لا مكان له . أمثال خريجي السجون !
" ها هي هنا " قالها فرحا , وأخيرا وجد هذه الورقة اللعينة التي أضاعت من حياته ثلاث سنوات ونصف , بين السجون وجدران الكآبة !
في ذلك اليوم , حينما طلب أباه الاتصال بهذا الرجل ومقابلته ليسلمه بضاعة مهمة مستعجلة , لأن أباه وقع مريضا في اليوم ذاته الذي سجن فيه عامر . وذهب عامر لملاقاته ظنا منه بأن يسدي خدمة كبيرة لأبيه , غير أن الشرطة كانت بالانتظار ليقبضوا عليه متلبسا بتهريب هذه الممنوعات لذلك الشخص الكريه .
ما هي إلا ثوان ٍ قليلة ’ ليرى أنوار الشرطة تتقدم نحوه , ليفر ذلك الرجل الصغير الجسم تاركا ما كان بيده بسرعة فائقة , كأنه مدرّب لمثل هذه الأمور , وكأن الهروب فطرة فُطر عليها منذ الصغر !
إلا ان بساطة عامر لم تسعفه للهروب , ومبدأه الغبي بأن البريء لا يخاف , جعله يقف شامخاً واثقا بانتظار من يخرج من تلك الدوريات المتلألئة في منتصف هذا الليل ! سحب بعدها بدون رحمة وبدون تحقيق إلى ذلك الجحيم المطبق .
وكأن العالم توقف عند هذه الورقة . نظر إليها عامر مطولا , يحلم بأنه ممثلا في أحد الأفلام التي يستطيع فيها البطل الرجوع للعدد الذي يريد من السنين , ويغير فيها الأحداث كما يشاء , ولكن ! هيهات بأن يستطيع عامر القيام بذلك .
تملكته رغبة عنيفة بتمزيق الورقة , للآن لا يعرف عامر لم كان يبحث عنها بعدما جلبته له من عناء !لابد بأن القاموس يحتوي كلمة أكبر تأثيرا من عناء , ربما ! السعادة مع عدد من أصفارها الشمال !
بالطبع , ليس من طبع عامر الانتقام , والسعي لإفساد حياة الآخرين ! إلا انه سيحتفظ بالرقم للضرورة, فقد علمته الحياة بأن كل ما لا يخطر ببال المرء قد يكون مهما ً .
نظر من حوله الى غرفة العزوبية التي انتهت باكراً , ودفن جسده الهزيل في كرسيه الوثير , بعد ان فقد الكثير من وزنه في السجن , وأخذ يقلب فكره على ما فات , والغريب بأنه لم يلم نفسه على الثلاث سنوات . بل لام نفسه على تلك المدة التي حكم عليه بها نظرا لما حدث معه بسبب الرباعي السجين .
__________________