أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


انقل لكم كلاما قرأته لهذا الرجل وقد اعجبني
ولكني متردد في تبنيه فان رأيت منكم رأيا ومشورة عملت به
وان كان منكم توجيه وضبط فهمته على حقيقته


إن السلفية نشأة وارتياض ودراسة ؛ فالنشأة أن ينشأ في بيئة أو بيت كل ما فيها يجري على السُّنة عملا لا قولا ؛ والدّراسة أن يدرس من القرآن والحديث الأصول الاعتقادية ، ومن السيرة النبوية الجوانب الأخلاقية والنفسية ؛ ثم يروض نفسه بعد ذلك على الهَدْي المعتصر من تلك السيرة وممن جرى على صراطها من السَّلف ؛ وعبدُ الحي مُحَدِّثٌ بمعنى آخر ، فهو (رواية) بكل ما لهذه الكلمة من معنى . تتصل أسانيده بالجن والحن و رَتَن الهندي ، وبكل من هب ودب ، وفيه من صفات المحدثين أنه جاب الآفاق . ولقي الرجال ، واستوعب ما عندهم من الاجازات بالروايات ، ثمّ غلبت عليه نزعت التجديد فأتى من صفات المحدثين (بالتخفيف) بكل عجيبة ، فهو مُحَدِّثٌ مُحْدِثٌ في آن واحد ؛ وهمُّه وهمُّ أمثاله من مجانين الرواية حفظ الأسانيد ، وتحصيل الإجازات ، و مُكاتبة علماء الهند والسند للاستجازة ، وأن يرحلَ أحدهم فَيَلْقَى رجلا من أهل الرواية في مثل فَواق الحالب ، فيقول له : أجَزْتُك بكل مروياتي ومؤلفاتي إلى آخر(الكليشي) ؛ فإذا عجز عن الرحلة كتبَ مُسْتَجيزا فيأتيه عِلم الحديث بل علوم الدنيا كلها في بطاقة ...أهذا هو العلم ؟ . وإنما هو شيئ اسمه جنون الرواية .
وقد أصاب كاتب هذه السطور مسٌّ من هذا الجنون في أيام الحداثة ، ولم أتبيَّن منشأه في نفسي إلا بعد أن عافاني الله منه وتاب عليّ ؛ ومنشؤه هو : الإدلال بقوة الحافظة ، وكان من آثار ذلك المرض أنني فُتنت بحفظ أنساب العرب ، فكان لا يُرضيني عن نفسي إلا أن أحفظ أنساب مضر وربيعة بجماهرها ومجامعها ، وأن أنسُب جماهيرَ حِمير وأخواتها ، وأن أعرف كل ما أثر عن دغفل في أنساب قريش ، وما اختلف فيه الواقدي و محمد بن السائب الكلبي ؛ ثمّ فُتِنْتُ بحفظ الأسانيد ، و كدتُّ ألتقي عبد الحي في مستشفى هذا الصنف من المجانين بالرواية ، لولا أن الله سَلَّمَ ، ولولا أن الفطرة ألهمتني: أن العلم ما فُهِمَ وهُضَمَ ، لا ما رُوِيَ وطُوِيَ.
زُرْتُ يوما الشيخ أحمد البرزنجي -رحمه الله- في داره بالمدينة المنورة وهو ضرير ، وقد نُمي إليه شيئ من حفظي و لزومي لدور الكتب ، فقال لي بعد خوض في الحديث : أجزتُك بكل مروياتي من مقروء ومسموع بشرطه...إلخ. فألقى في روعي ما جرى على لساني وقلت له : إنك لم تعطني علما بهذه الجُمَلِ ، وأحْر أن لا يكون لي ولا لك أجر ، لأنك لم تتعب في التلقين وأنا لم أتعب في التلقِّي ؛ فتبسم ضاحكا من قولي ولم ينكر ، وكان ذلك بدأ شفائي من هذا المرض ، وإن بقيت في النفس من عقابيل ، تَهيج كلَّما طاف بي طائف العُجب والتعاظم الفارغ إلى أن تناسيته متعمدا ؛ ثم كان الفضل لمصائب الزمان من نسيان البقية الباقية منه ؛ وإذا أسفت على شيئ من ذلك الآن فعلى تناسيّ لأيام العرب ، لأنها تاريخ ، وعلى نسياني أشعار العرب ، لأنها أدب .
وحضرت بعد ذلك طائفة من دروس هذا الشيخ في صحيح البخاري على قلَّتها وتقطعها ؛ وأشهَد أني كنت أسمع منه علما وتحقيقا ؛ فقلت له يوما : الآن أعطيتني أشياء وأحْرِ بنا أن نوجَرَ معا، أنت وأنا ؛ فتبسَّم مبتهجا وقال لي : يا بني هذه الدراية ، وتلك الرواية .فقلت له : إنَّ بين الدراية والعلم نسباً قريباًََ في الدلالة ، تُرادفه أو تقف دونه ؛ فما نسبة الرواية إلى العلم ؟ وقطع الحديث صوت المؤذن ،وقال لي بعد الصلاة : حدثني بحديثك عن نسبة الرواية إلى العلم ، فقلت له ما معناه : إن ثمرة الرواية كانت في تصحيح الأصول وضبط المتون وتصحيح الأسماء ، فلما ضُبطت الأصول وأُمن التصحيف في الأسماء خفّ وزن الرّواية وسقطت قيمتها ، وقلت له : إن قيمة الحفظ -بعد ذلك الضبط - نزلت إلى قريب من قيمة الرواية ، وقد كانت صنعة الحافظ شاقة يوم كان الاختلاف في المتون فكيف بها بعد أن تشعب الخلاف في أفاظ البخاري في السند الواحد بين أبي ذر الهروي ، والأصيلي ، وكريمة ، والمستملي ، والكشميني ، وتلك الطائفة ، وهل قال حدثني أو حدثنا أو كتاب أو باب ؛ إن هذا التطويل ما فيه طائل .ولا أراه علما بل هو عائق عن العلم ؛ وقلت له : إن عمل الحافظ اليونيني(كذا!) على جلالة قدره في الجمع بين هذه الروايات ضرب في حديد بارد ، لا أستثني منه إلا عملَ ابن مالك ؛ وإن ترجيح ابن مالك لإعراب لفظة لأدلُّ على الصحة في اللفظ النبوي من تصحيح الرواية ، وقد يكون الراوي أعجميا لا يقيم للإعراب وزنا ؛ فلماذا لا نعتمد إلى تقوية الملكة العربية في نفوسنا ، وتقويم المنطق العربي في ألسنتنا ، ثم نجعل من ذلك موازين لتصحيح الرواية ، على أن التوسع في الرواية أفضى بنا إلى الزهد في الدراية ، وقلت له : إنك لو وقفت على حلق المحدّثين بهذا الحرم ، محمد بن جعفر الكتاني ومحمد الخضر الشنقيطي وغيرهما لّسمعت رواية وسردا ، لا دراية ودرسا ، وإن أحدهم ليقرأ العشرين والثلاثين ورقة من الكتاب في الدولة الواحدة فأين العلم ؟ وقلت له : إن من قبلنا تنبهوا إلى أن دولة الرواية دالت بضبط الأصول وشهرتها فاقتصروا على الأوائل ، يعنون الأحاديث الأولى من الأمهات وصاروا يكتفون بسماعها أو قرائتها في الإجازات ؛ وما اكتفاء القدماء بالمناولة والوجادة إلا من هذا الباب .
قلت له هذا وأكثرَ من هذا وكانت معارفُ وجهه تدل على الموافقة ولكنه لم ينطق بشيئ.؛وأنا أعلم أن سبب سكوته هو مخالفة ما سمع لما ألفَ-رحمه الله-
ولقيت يوما الشيخ يوسف النبهاني-رحمه الله- بباب من أبواب الحرم فسلّمت عليه فقال لي : سَمعت آنفا درسَك في الشمائل ، وأعجبني إنحيازك باللوم على مؤلفي السِّير في اعتنائهم بالشمائل النبوية البدنية ، وتقصيرهم في القضايا الروحية ، وقد أجزتك بكل مؤلفاتي ومروياتي وكل مالي من مقروء ومسموع من كا ما تضمنه ثبتي ...إلخ. فقلت له : أنا شاب هاجرت لأستزيد علما وأستفيد من أمثالكم ما يكملني منه ، وما أرى عملكم هذا إلا تزهيدا لنا في العلم ؛ وماذا يفيدني أن أروي مؤلفاتك وأنا لم أستفد منك مسألة من العلم ؛ ولماذا لم تنصب نفسَك لإفادة الطلاب ؛ فسَكتَ ، ولم يكن له -رحمه الله- درس في الحرم ، وإنما سمعت من خادم له جَبَرْتي أنه يتلقى عنه في حجرته درسا في فقه الشافعية.
وكان بعد ذلك يُؤثر محلي على ما بيننا من تفاوت كبير في السن ،وتباين عظيم في الفكرة .رحم الله جميع من ذكرنا وألحقنا بهم لا فاتنين ولا مفتونين .
أما أولئك السلف الأبرارفعنايتهم بالرواية والرجال راجعة كلها إلى الجرح والتعديل الذين هما أساس الاطمئنان إلى الرواية ، وقد تعبوا في ذلك واسترحنا ؛ وما قولكم -دام فضلكم -لو فرضنا أن محدث القرن الرابع عشر ومسندَه عبد الحي عُرضَ بعُجَره وبُجَره على أحمد بن حنبل ، أو على يحي بن معين ، أو عليّ بن المديني ، أو على من بعدهم من نقَّاد الرجال الذين كانوا يجرحون بلحظة ، ويسقطون العدالة بغمزة في العقيدة ،أو نَبْزَة في سيرة ، أو بغير ذلك مما يُعَدُّ في جنب عبد الحيّ حسنات وقُرُبات -فماذا نراهم يقولون فيه ؟وبماذا يحكمون عليه ؟ خصوصا إذا عاملوه بقاعدة (الجرح لا يُقبَل إلا مفسَّرًا).
وبعدُ (فقد أطال ثنائي طول لابسه) فليعذرنا عبد الحي ؛ ووالله ما بيننا وبينه تِرَةٌ ولا حسيفة ؛ ووالله ما في أنفسنا عليه حقد ولا ضغينة ؛ ووالله لوددنا لو كان غيرَ من كان ،فكان لقومه لا عليهم ، وإذاً لأفاد هذا الشمال بالكنوز النبوية التي يحفظ متونها ، ونفع هذا الجيل الباحث الناهض المتطلع بخزانته العامرة ، وكان رُوّاد داره تلامذةً يتخرجون ، لا سُيَّاحاً يتفرَّجون؛ وعلماء يتباحثون ، لا عوامَّ يتعابثون ، ولكنه خرج عن طوره في نصر الضلال فخرجنا عن عادتنا من الصبر والأناة في نصر الحق ؛ وجاء يُؤَلِّبُ طائفة من الأمة على مصالح الأمة ، فهاج الأمة كلها ، وهاج معها هذا القلم الذي يمج السمام المُنقَع ، فنفثت هذه الجُمل ، وفي كل جملة ،حَملة ، وفي كل فقرة ، نقرة ؛ فإن عاد بالتوبة ، عدنا بالصفح ؛ وإن زاد في الحَوْبَة ، عدنا على هذا بالشرح ؛ ولعل هذا الأسبوع هو أبرك الأسابيع على الشيخ ، فقد أملينا فيه مجالس في مناقبه جاءت في كُتَيّب ، سميناه -بعد الوضع-(نشر الطيّ ، من أعمال عبد الحي) فإن تاب َوأَدْناهُ ، ووفيناه بما وعدناه ، وإلا عممناه بالرواية ، وأذنّا لعبد الحي في روايته عنا للتبرك واتصال السند ؛ وهو أعلم الناس بجواز رواية الأكابر عن الأصاغر.اهـ.