أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم




وفيه ثلاثة فروع:


الفرع الأول: ذكر أقوال العلماء وبيان الراجح منها بأدلته.

الفرع الثاني: ذكر الحالات التي يتعين فيها الجهاد في سبيل الله.

الفرع الثالث: بيان الأعذار المبيحة للتخلف عن مباشرة الجهاد.

الفرع الأول

ذكر أقوال العلماء في حكمه وبيان الراجح منها بأدلته

اختلف العلماء في حكم الجهاد على ثلاثة أقوال:

القول الأول: إنه فرض كفاية، وفرض الكفاية هو الذي لا يتعلق بكل مكلف عيناً، وإنما الفرض القيام به قياماً كافياً من طائفة منهم، فإذا قامت هذه الطائفة بهذا الفرض قياماً كافياً، سقط عن الباقين، وإن لم تكف هذه الطائفة وجب على المسلمين أن يُخرِجوا من يكفي، ولو لم يكف إلا المسلمون جميعاً ـ لقلتهم مثلاً ـ وجب عليهم القيام به جميعاً، ويأثمون كلهم بتركه، فيصبح في هذه الحالة فرض عين لا فرض كفاية، وعلى هذا القول عامة المذاهب وجمهور علماء المسلمين.

قال السرخسي رحمه الله ـ وهو من علماء الحنفيين: "ثم فريضة الجهاد على نوعين: أحدهما عينٌ على كل من يقوى عليه بقدر طاقته، وهو ما إذا كان النفير عاماً، قال تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة: 41]. وقال تعالى: {مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} إلى قوله: {يعذبكم عذاباً أليماً} [التوبة: 38ـ39].
ونوع هو فرضٌ على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود، وهو كسر شوكة المشركين وإعزاز الدين. [المبسوط (10/3)].

وقال محمد أمين بن عابدين في حاشيته: "هو فرض كفاية. كل ما فُرِض لغيره فهو فرض كفاية، إذا حصل المقصود بالبعض، وإلا ففرض" [حاشية ابن عابدين (4/122)].

أدلة القائلين بأن الجهاد فرض كفاية

وقد استدل أهل هذا القول بالقرآن والسنة من وجهين:

الوجه الأول: ورود نصوص دالة بعمومها على وجوب الجهاد.

الوجه الثاني: ورود نصوص تدل على أن ذلك الوجوب كفائيٌّ وليس عينياً.

(1) النصوص الدالة على الوجوب بعمومها:

نصوص من القرآن:

من ذلك قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} [التوبة: 5]

وقوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون…} الآية [البقرة: 216].

وقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم، كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلى على الظالمين} [190-193].

وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليلٌ، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً، ويستبدل قوما غيركم، ولا تضروه شيئاً، والله على كل شيء قدير} [التوبة: 38- 39]

وقوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [التوبة:41]

وقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} [التوبة 36] وغيرها كثير من الآيات.

أما الأحاديث فكثيرة أيضا، ومنها:

أن الرسول صَلى الله عليه وسلم، كان يقوم بالغزو بنفسه، كما هو معروف في غزواته التي ذكرها علماء الحديث، وكان يؤمر قادة للجهاد في سبيل الله، إلى أن توفاه الله، ومن ذلك حديث بُرَيْدةُ رَضي الله عنه، قال: كان رسولُ الله صلى الله عَليه وسلم، إذا أمَّرَ أميرا على جيشٍ، أو سريَّةٍ ، أوْصَاهُ في خاصَّته بتقْوى الله ، ومَنْ معهُ من المسلمين خيرا ، ثم قال: اغْزُوا باسْمِ الله في سبيل الله ، قاتِلوا مَنْ كفر بالله ، اغزوا الحديث... [مسلم].

ومنهاحديث أبي هريرة رضيَ الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عَليه وسلم: (الجهاد واجب مع كل أمير، براً كان أو فاجراً) [أخرجه أبو داود (3/40) إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس، وقال: هذا منقطع، مكحول لم يسمع من أبي هريرة، وقال عبد القادر الأرناؤوط: ورجاله ثقات إلا أن أبا العلاء بن الحارث كان قد اختلط، ومكحول لم يسمع من أبي هريرة، لكن للجملة الأولى، وهي "الجهاد…" شاهد عن أبي داود رقم 2533 من حديث أنس تتقوى به.. "جامع الأصول (2/564) حاشية1].

ومنها حديث أنس بن مالك رَضِي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عَليه وسلم، قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم) [رواه أبو داود، قال المحشي: وأخرجه النسائي، والدارمي، وأحمد، وإسناده قوي، وصححه ابن حبان.. والحاكم في المستدرك، وصححه النووي في رياض الصالحين، أبو داود (3/22ـ23) حاشية رقم1].

ومنها حديث أبي هريرة رَضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عَليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو ماتت على شعبة من نفاق). [مسلم (3/1517) وراجع جامع الأصول (2/563) وما بعدها]. وغيرها كثير.

قالوا: هذه النصوص واضحة في أن الجهاد فرض يأثم المسلمون بتركه، لأنها وردت بصيغ لا تحتمل إلا ذلك، كصيغ الأمر في قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين. وقاتلوا في سبيل الله. واقتلوهم حيث ثقفتموهم. فإن قاتلوكم فاقتلوهم.} والكفار لا يكفون عن قتال المسلمين إلا لضعف طارئ، أو خضوع المسلمين لهم {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة. انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا…}

وصيغة التوبيخ والإنكار كما في قوله {مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم من الحياة الدنيا بالآخرة.. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم}. [التوبة: 38ـ39].

ووجه الاستدلال بهذه النصوص أمر لا يجوز الجدال فيه.

أما الوجه الثاني من الاستدلال بالقرآن والسنة لهذا القول، فهو أن هذه النصوص العامة الدالة على أن الجهاد فرض على المسلمين، وردت بإزائها نصوص أخرى من القرآن والسنة تدل على أن هذا الوجوب ليس عينا،ً وإنما هو فرض كفاية.

ومن هذه النصوص في القرآن الكريم:

قول الله عز وجل: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة: 122]

ودلالة الآية على المقصود من وجهين:

الوجه الأول: في قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} أي ما صح ذلك ولا استقام، أن يَهُبَّ جميعُ أفراد المؤمنين القادرين على الجهاد للغزو، لما في ذلك من ضياع من وراءهم من العيال، ومن ترك السعي للرزق وحرث الأرض وعمارتها التي لا يتم الجهاد إلا بها.

قال القرطبي رحمه الله: "وفيه ست مسائل: الأولى قوله تعالى: {وما كان المؤمنون} وهي أن الجهاد ليس على الأعيان، وأنه فرض كفاية كما تقدم، إذ لو نفر الكل لضاع من وراءهم من العيال، فليخرج فريق منهم للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين، هذا على رأي من قال: إن الفريق الباقي هو الذي يتفقه في الدين، وهناك قول آخر رجحه ابن جرير الطبري أن الفريق الذي يتفقه في الدين هو الفريق النافر ويحفظون الحريم". [الجامع لأحكام القرآن (8/293) وراجع كلام الطبري الذي نسبه إليه القرطبي في تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" (11/70)]]

وقال السرخسي رحمه الله: "ونوع هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود وهو كسر شوكة المشركين وإعزاز الدين، لأنه لو جعل فرضاً في كل وقت على كل أحد، عاد على موضوعه بالنقض، والمقصود أن يأمن المسلمون ويتمكنوا من القيام بمصالح دينهم ودنياهم، فإذا اشتغل الكل بالجهاد لم يتفرغوا للقيام بمصالح ديناهم، فلذلك قلنا: إذا قام به البعض سقط عن الباقين". [المبسوط (10/3)].

الوجه الثاني: يؤخذ من قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة طائفة منهم ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}

فإنه ظاهر بأن الله تعالى كما نفى في أول الآية أن ينفر المسلمون للجهاد كافة، حض في آخرها على أن ينفر من كل جماعة من المسلمين طائفة، لتقوم الطائفة النافرة بفرض الجهاد الذي يسقط عن الباقية، وتقوم الباقية بالمصالح التي لا بد منها … وإلا تعطل الجهاد وعاد على موضوعه بالنقض كما قال السرخسي.


ومن الآيات الدالة على أن الجهاد فرض كفاية، قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} [النساء: 95]

وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى فضل المجاهدين على القاعدين بدون عذر، ووعدهم جميعا بالحسنى، فالقاعد عن الجهاد بدون عذر، لا يأثم إذا قام به غيره قياما كافيا، ولم يُستَنفَر القاعدُ.

قال الفخر الرازي رحمه الله: "ثم قال: {وكلاً وعد الله الحسنى} أي وكلاً من القاعدين والمجاهدين فقد وعده الله الحسنى، قال الفقهاء: وفيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية، وليس على كل واحد بعينه، لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين، ولو كان الجهاد واجباً على التعيين لما كان القاعد أهلاً لوعد الله تعالى إياه الحسنى". [التفسير الكبير (11/9)].

وقال ابن قدامة رحمه الله ـ بعد أن استدل بالآية ـ: "وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم" [المغني (9/169)].

وقال الكاساني رحمه الله ـ بعد أن استدل بنفس الآية ـ: "وعد الله عـز وجل المجاهدين والقاعدين الحسنى، ولو كان الجهاد فرض عين في الأحوال كلها لما وعد القاعدين الحسنى، لأن القعود يكون حراماً". [بدائع الصنائع (9/4300)].

وقال في المهذب: "وهو فرض على الكفاية، إذا قام به من فيه كفاية، سقط الفرض عن الباقين، لقوله عـز وجل: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلاً وعد الله الحسنى} ولو كان فرضاً على الجميع لما فاضل الله بين مَن فعل وبين مَن ترك، ولأنه وعد الجميع بالحسنى، فدل على أنه ليس بفرض على الجميع" [تكملة المجموع لمحمد حسين العقبي (18/47)].

ومنها قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران 104]

والجهاد في سبيل الله، هو قمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما فرض كفاية، وليسا فرض عين.

قال السرخسي رحمه الله: "فأما بيان المعاملة مع المشركين فنقول: الواجب دعاؤهم إلى الدين وقتال الممتنعين منهم من الإجابة، لأن صفة هذه الأمة في الكتب المنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبها كانوا خير الأمم، .قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] الآية، ورأس المعروف الإيمان بالله تعالى، فعلى كل مؤمن أن يكون آمراً به داعياً إليه، وأصل المنكر الشرك، فهو أعظم ما يكون من الجهل والعناد، لما فيه من إنكار الحق من غير تأويل، فعلى كل مؤمن أن ينهي عنه بما يقدر عليه". [المبسوط (10/2)].

وقوله: فعلى كل مؤمن …… إلخ …. أي إذا لم يقم بالأمر والنهي من يكفي فيهما، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا فرض عين، وإنما هما فرض كفاية كما مضى.

دِلالة السنة على أن الجهاد فرض كفاية


أما السنة فدلالتها على أن الجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، من وجهين:
الوجه الأول: دلالة الأحاديث القولية الصحيحة، ومنها الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رَضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عَليه وسلم، بعث بعثاً إلى بني لحيان من هذيل، فقال: (لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما) وفي رواية: (وليخرج من كل رجلين رجل) ثم قال للقاعد: (أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) [رواه الإمام مسلم 3/1507].

فالحديث صريح في أن الجهاد ليس فرضا على الأعيان، بل هو فرض كفاية، وإلا لما قال: (لينبعث من كل رجلين أحدهما) ولمَا أثبت للقاعد الذي يخلف الخارج أجراً (والأجر بينهما)

ومنها ذلك حديث زيد بن خالد الجهني رَضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عَليه وسلم، أنه قال: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله وماله بخير فقد غزا) مسلم أيضا نفس الجزء والصفحة.

الوجه الثاني: دِلالة الأحاديث الصحيحة الفعلية:

فقد كان صلى الله عَليه وسلم، يخرج في الغزوات تارة، ويبقى في المدينة تارة، ويؤمر غيره على الغزوة أو السرية، كما في حديث بريدة عن، أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، وصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: (اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله …) الحديث. [رواه مسلم3/1357]

ولم يكن يأمر جميع أصحابه بالخروج، بل يأمر بعضهم دون بعض، إلا أ ن يكون نفيرا عاما،كما في غزوة تبوك، وهذا من أقوى الأدلة على أن الجهاد ليس فرض عين وإنما هو فرض كفاية.

المعنى يقتضي كون الجهاد فرض كفاية.

ومما يدل على أن الجهاد فرض كفاية المعنى الذي شرع له، وهو إعلاء كلمة الله، فإذا قامت به طائفة من المسلمين حتى تحقق هذا المعنى، فعلت كلمة الله في الأرض، وقُهِر أعداء الإسلام المحاربون له بتلك الطائفة، فقد حصل المقصود الذي شرع له الجهاد، فلا محل لجعله فرض عين على كل المسلمين كالصلاة مثلا.

تنبيه مهم:

وهنا لا بد من التنبيه على معنى فرض الكفاية الذي لا يفقهه كثير من الناس، ولو فقهه المسلمون حق الفقه، لكان للجهاد في هذا العصر شأن آخر، غير ما أصيب به المسلمون من ذلة وصغار في كل أنحاء الأرض.

ففرض الكفاية الذي يَسقُط عن الأمة بقيام طائفة به، هو أن تكون تلك الطائفة كافية في القيام به، وليس المراد مجرد قيام طائفة مجاهدة، ولو لم يكن جهادها كافيا، فلا يصح إسقاط الجهاد عن الأمة الإسلامية كلهم بقيام طائفة منهم في جزء من الأرض، ولو كانت كافية في ذلك الجزء، مع بقاء أجزاء أخرى ترتفع فيها راية الكفر، فإن كل جزء من تلك الأجزاء يجب على المسلمين القريبين منه أن يجاهدوا – ما داموا قادرين - من حارب الله ورسوله وعباده المؤمنين، أو وقفوا عقبة لصد الناس عن الدعوة إلى الله حتى يقهروهم، فإذا لم يقدروا على قهرهم، وجب على من يليهم من المسلمين أن ينفروا معهم، وهكذا حتى تحصل الكفاية.

ولهذا قال في حاشية ابن عابدين: "وإياك أن تتوهم أن فرضيته "يعني الجهاد" تسقط عن أهل الهند، بقيام أهل الروم مثلاً، بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية، فلو لم تقع إلا بكل الناس فُرِض عينا، كصلاة وصوم "

قلت: والذي يتأمل أحوال المسلمين مع أعداء الله المحاربين للإسلام، يجد أن الجهاد اليوم فرض عين على كل قادر عليه من أفراد المسلمين، وليس فرض كفاية، لأن بعض طوائف المسلمين التي تقوم بالجهاد ضد عدوان الكفار على أرضها وعرضها ومقدساتها في عقر دارها، لا تكفي لقهر عدوها، بل العدو هو الذي يقهرها، بل ينصر العدو عليها كثير ممن يدعون الإسلام، وما قضية المسلمين في فلسطين بخافية على المسلمين !!!
[راجع في تفسير الآيات الكتب الآتية: الجامع لأحكام القرآن [3/293] جامع البيان عن تأويل آي القرآن [11/70] التفسير الكبير للرازي [11/9]

وراجع في كتب الفقه: المبسوط [10/3] والمغني لابن قدامة [9/196] وبدائع الصنائع [9/4300] وتكملة المجموع للعقبي [18/ 47] وحاشية ابن عابدين [4/124)]

القول الثاني في حكم الجهاد أنه فرض عين.

وهو رأي سعيد بن المسيب رحمه الله، وبه قال بعض الشافعيون، وذكره ابن قدامة في المغني ورد عليه، وذكره ابن رشد عن عبد الله بن الحسن.

واستدل هؤلاء بأدلة فرض الجهاد المطلقة، وقد ذكر كثير منها في القول الأول من الكتاب والسنة، ومضى ذكر ما عارضها من النصوص الدالة على أنه فرض كفاية، وبهذا يعلم أن رجحان القول بأن الجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، والله أعلم.
مراجع هذا القول: فتح القدير لابن الهمام (5/439) المغني لابن قدامة (9/196) حواشي تحفة المحتاج (9/439) بداية المجتهد(1/396)

القول الثالث: أن الجهاد مندوب.

أي إن الجهاد في سبيل الله، ليس واجبا عينا ولا كفاية، ونقل هذا القول عن ابن عمر وعطاء والثوري وابن شبرمة رحمهم الله.

ويفهم من عبارات بعض العلماء أنهم قد يحتجون بدخول التخصيص على النصوص العامة التي تدل على وجوب الجهاد، لأن النص إذا دخله التخصيص، يصبح ظني الدلالة، فيضعف الاحتجاج به على الوجوب، فيبقى على الندب.

ولكن هذا الاستدلال في غاية الضعف، لأن الصحيح أن العام إذا دخله التخصيص عند أهل الأصول قصر تخصيصه على بعض أفراده …وقد حمل بعض العلماء مراد ابن عمر ومن ذكر معه على أنهم أرادوا أن الجهاد ليس بفرض عين، وإنما هو فرض كفاية، فإذا قامت به طائفة كافية أصبح في حق غيرها مندوباً.

ولهذا قال الجصاص رحمه الله في أحكام القرآن (3/114): "ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم، أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم، حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم، ولكن موضع الخلاف بينهم أنه متى ما كان بإزاء العدو مقاومين له، ولا يخافون غلبة العدو عليهم، هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية؟ فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة إنه جائز للإمام والمسلمين أن لا يغزوهم، وأن يقعدوا عنهم. وقال آخرون: على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية".

تأمل قول الجصاص: "ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم، أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه بين الأمة..."

فهو يتكلم عن أهل الثغور، أي حدود بلدان المسلمين، التي يوجد بها مرابطون، إذا خافوا من العدو، وليس لهم قدرة على صده، فالجهاد فرض عين على كافة المسلمين، حتى يحققوا لهم الأمان من عدوهم، فكيف والمسلمون اليوم يعتدى عليهم في داخل بلدانهم بل في أرضهم المباركة، بل تحت قبة قبلتهم الأولى "المسجد الأقصى" وفي كل مكان في أرض الإسلام؟!

قلت: وحمل قول هؤلاء – إذا صح عنهم – على هذا الوجه وهو أن الجهاد مندوب على من قعد عنه، لقيام طائفة به قياما كافيا، هو حمل متعين، وإلا فلا وجه له، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك، غير الرسول المعصوم صلى الله عَليه وسلم.

وإذا لم تكن نصوص القرآن والسنة الواردة في فريضة الجهاد، وإجماع الأمة الإسلامية على مضمونها، والواقع التاريخي لسيرة الرسول صلى الله عَليه وسلم، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، إذا لم تكن كافية في الدلالة على أن الجهاد في سبيل الله فريضة، فأي فريضة بعد ذلك ستثبت بنصوص هي أقل من نصوص الجهاد عددا، وأضعف دلالة؟!

وعلى هذا فالقول بأن الجهاد مندوب وليس بفرض عين ولا فرض كفاية قول ساقط لا يجوز التعويل عليه …

الخلاف السابق خاص بالجهاد بمعناه الخاص

وينبغي أن يعلم أن هذا الخلاف إنما هو في الجهاد بمعناه الخاص، وهو قتال الكفار، والراجح فيه ما مضى من أنه فرض كفاية.

أما الجهاد بمعناه الشامل الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه فرض عين في الجملة، بمعنى أن المسلم لا يخلو في وقت من الأوقات من جهاد واجب عليه، إذ ليس الجهاد مقصورا على قتال الكفار، بل يشمل جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان، وجهاد الأسرة لاستقامتهم على طاعة الله، وجهاد كثير من المسلمين الذين لا يلتزمون بطاعة الله، بدعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم أمور دينهم، وجهاد ولي الأمر بنصحه وإرشاده، وكلمة الحق عنده، وإعداد العدة لجهاد العدو الكافر.

ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم – زاد المعاد (2/65): "ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وكان محرماً، ثم مأذوناً فيه، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين، إما فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور، والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع".

ولعل هذا المعنى الذي أشار إليه ابن القيم يفهم من قوله تعالى {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [الحج: 78].

فقوله تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده} ثم أمْرُه بعد ذلك بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله، يدل على شمول الجهاد لكل ما كلفه الله عباده.