مفهوم التوسل
يخطئ كثير من الناس في فهم حقيقة التوسل ولذا فإننا سنبين مفهوم التوسل الصحيح في نظرنا وقبل ذلك لابد أنا نبين هذه الحقائق :
أولاً:
أنا التوسل هو أحد طرق الدعاء وباب من أبواب التوجه إلى الله سبحانه وتعالى فالمقصود الأصلي الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى والمتوسَّل به إنما هو واسطة ووسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ومن اعتقد غير ذلك فقد أشرك .
ثانياً:
أنا المتوسل ما توسل بهذه الواسطة إلا لمحبته لها واعتقاده أن الله سبحانه وتعالى يحبها ولو ظهر خلاف ذلك لكان أبعد الناس عنها وأشد الناس كراهة لها.
ثالثاً:
أن المتوسل لو اعتقد أن من توسل به إلى الله ينفع ويضر بنفسه مثل الله أو دونه فقد أشرك.
رابعاً:
أن التوسل ليس أمراً لازماً أو ضروريا وليست الإجابة متوقفة عليه بل الأصل دعاء الله تعالى مطلقاً كما قال تعالى ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى).
المتفق عليه من التوسل
لم يختلف أحد من المسلمين في مشروعية التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحة فمن صام أو قرأ القرآن أو تصدق فإنه يتوسل بصيامه وصلاته وصدقته بل هو أرجى في القبول وأعظم في نيل المطلوب لا يختلف في ذلك اثنان . والدليل على هذا الحديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فتوسل أحدهم إلى الله ببره لوالديه وتوسل الثاني بابتعاده عن الفاحشة بعد تمكنه من أسبابها وتوسل الثالث بأمانته وحفظه لمال غيره وأدائه له كاملا وفرج الله عنهم ما هم فيه وهذا النوع من التوسل قد فصله وبين أدلته وحقق مسائله الشيخ ابن تيمية رحمه الله في كتبه وخصوصاً في رسالته
( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ).
محل الخلاف:
ومحل الخلاف في مسألة التوسل هو التوسل بغير عمل المتوسل .
كالتوسل بالذوات والأشخاص بأن يقول : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو أتوسل إليك بأبي بكر الصديق أو بعمر ابن الخطاب أو بعثمان أو بعلي رضي الله عنهم . فهذا هو الممنوع عند بعضهم.
ونحن نرى أن الخلاف شكلي وليس بجوهري. لأن التوسل بالذات يرجع في الحقيقة إلى توسل الإنسان بعمله وهو المتفق على جوازه
ولو نظر المانع المتعنت في المسألة بعين البصيرة لانجلى له الأمر وانحل الإشكال وزالت الفتنة التي وقع بسببها من وقع فحكم على المسلمين بالشرك والضلال.
وسأبين كيف أن المتوسل بغيره هو في الحقيقة متوسل بعمله المنسوب إليه والذي هو من كسبه .
فأقول : اعلم أن من توسل بشخص ما فهو لأنه يحبه إذ يعتقد صلاحه وولايته وفضله تحسيناً للظن به أو لأنه يعتقد أن هذا الشخص محب لله سبحانه وتعالى يجاهد في سبيله أو لأنه يعتقد أن الله تعالى يحبه كما قال تعالى ( يحبهم ويحبونه) أو لاعتقاد هذه الأمور كلها في الشخص المتوسل به .
وإذا تدبرت الأمر وجدت أن هذه المحبة وذلك الاعتقاد من عمل المتوسل لأنه اعتقاده الذي انعقد عليه قلبه فهو منسوب إليه ومسئول عنه ومثاب عليه وكأنه يقول : يارب إني أحب فلانا وأعتقد أنه يحبك وهو مخلص لك ويجاهد في سبيلك وأعتقد أنك تحبه وأنت راض عنه فأتوسل إليك بمحبتي له وباعتقادي فيه أن تفعل كذا وكذا . ولكن أكثر المتوسلين يتسامحون في التصريح بهذا الأمر مكتفين بعلم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. فمن قال : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك هو ومن قال: اللهم إني أتوسل إليك بمحبتي لنبيك (سواء) لأن الأول ما أقدم على هذه إلا لمحبته وإيمانه بنبيه.ولولا المحبة له والإيمان به ما توسل به . وهكذا يقال في حق غيره من أولياء الأمة. وبهذا ظهر أن الخلاف في الحقيقة شكلي ولا يقتضي هذا التفرق والعداء بالحكم بالكفر على المتوسلين وإخراجهم عن دائرة الإسلام ( سبحانك هذا بهتان عظيم ).
أدلة ما عليه المسلمون من التوسل
قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة )
والوسيلة : كل ما يجعله الله سببا في الزلفى عنده ووصلة إلى قضاء الحوائج منه والمدار فيها على أن يكون للوسيلة قدر وحرمة عند المتوسل إليه. ولفظ الوسيلة عام في الآية كما ترى فهم شامل للتوسل بالذوات الفاضلة من الأنبياء والصالحين في الحياة وبعد الممات وبالإتيان بالأعمال الصالحة على الوجه المأمور به وللتوسل بها بعد وقوعها. وفيما ستسمع من الأحاديث والآثار ما يجلي لك هذا العموم واضحاً فأق السمع وأنت شهيد لترى أنه قد ثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم قبل وجوده وبعد وجوده في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة .
التوسل بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده
1- توسل سيدنا آدم ( عليه السلام ) بالنبي صلى الله عليه وسلم:
وقد جاء في الحديث أن آدم عليه السلام توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال الحاكم في المستدرك : حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري حدثنا إسماعيل بن مسلمة أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن جده عن عمر - رضي الله عنه - قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما اقترف آدم الخطيئة قال : يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه ؟ قال : يارب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا اله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله : ادعني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك ).
أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ( ج2 ص 651) ورواه الحافظ السيوطي في الخصائص النبوية وصححه. ورواه البيهقي في دلائل النبوة وهو لا يروي الموضوعات كما صرح بذلك في مقدمة كتابه وصححه أيضاً القسطلاني والزرقاني في المواهب اللدنية (ج2 ص62) والسبكي في شفاء السقام قال الحافظ الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم(مجمع الزوائدج8ص253)
وجاء من طريق آخر عن ابن عباس بلفظ: فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار.
رواه الحاكم في المستدرك(ج2ص651) وقال :صحيح الإسناد .
وصححه شيخ الإسلام البلقيني في فتاويه . ورواه أيضا الشيخ ابن الجوزي في الوفا في أول كتابه ونقله ابن كثير في البداية (ج1ص180) .
وقد خالف في ذلك بعض العلماء فتكلم في درجة الحديث ورد وحكم بوضعه كالذهبي وغيره وبغضهم حكم بضعفه وبعضهم حكم بنكارته وبهذا يظهر أنه لم تتفق كلمتهم على حكم واحد وعليه فالمسألة يدور البحث فيها بين الإثبات والنفي والرد والقبول والتوقف بناء على اختلافهم في درجة الحديث وهذا من ناحية السند والثبوت . أما من ناحية المعنى فالنترك المجال لشيخ الإسلام بن تيمية ليحدثنا عنه .
رأي ابن تيمية في الحديث :
روى ابن تيمية حديثين في هذا الموضوع وأوردهما مستشهداً بهما فقال : روى أبو الفرج ابن الجوزي بسنده إلى ميسرة قال : قلت يا رسول الله متى كنت نبياً ؟ قال ( لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك فلما غراهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه )
روى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة ومن طريق الشيخ ابن فرج حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن رشيد حدثنا أحمد بن سعيد الفهري حدثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال : يا رب بحق محمد ألا غفرت لي فأوحى إليه وما محمد ؟ ومن محمد ؟ فقال : يا رب إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فذا عليه مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه أكرم خلقك عليك إذ قرنت اسمه مع اسمك فقال نعم قد غفرت لك وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك )
فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة ( اهـ من الفتاوى ج2 ص150)
قلت : فهذا يدل على أن الحديث عند ابن تيمية صالح للاستشهاد والاعتبار لأن الموضوع أو الباطل لا يستشهد به عند المحدثين وأنت ترى أن الشيخ استشهد به هنا على التفسير.
تصحيح ابن تيمية لمعنى هذه الخصوصية :
تكلم الشيخ ابن تيمية عن هذه المسألة كلاماً جيدا نفيسا يدل على عقل وبصيرة واتزان كبير فهو وإن كان قد نفى وجود حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى (وهذا حسب عليه في ذاك الوقت )
إلا أنه رجع فأيد المعنى وفسره تفسيرا معقولا وأثبت فيه صحة القول وهو بهذا يرد ردا واضحاً على من زعم أن ذلك شرك أو كفر وعلى من زعم أن المعنى فاسد وباطل وعلى من زعم أن فيه قدحا في مقام التوحيد والتنزيه وما هو إلا الهوى والعمى وسوء الفهم وضيق العقل فالله ينور بصائرنا ويرشدنا إلى الحق والصواب وهو الهادي إلى سواء السبيل .
قال الشيخ الإمام ابن تيمية في الفتاوى (ج11ص96)
ومحمد سيد ولد آدم وأفضل الخلق وأكرمهم عليه ومن هنا قال من قال : إن الله خلق من أجله العالم أو أنه لولا هو لما خلق عرشا ولا كرسيا ولا سماء ولا أرضا ولا شمسا ولا قمرا، ولكن ليس هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحيحا ولا ضعيفا ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا يعرف عن الصحابة بل هو كلام لا يدرى قائله ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله تعالى ((سخر لكم ما في السموات وما في الأرض )) وقوله تعالى ((وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وآتاكم من كل ما سألتم وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )) وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبني آدم ما فيها من المنفعة وما أسبغ عليهم من النعمة.
فإذا قيل :فعل كذا لكذا لم يقتض أن لا يكون فيه حكمة أخرى وكذلك قول القائل لولا كذا ما خلق كذا لا يقتضي أن لا يكون فيه حكم أخرى عظيمة , بل يقتضي إذا كان أفضل صالحي بني آدم محمد وكانت خلقته غاية مطلوبة وحكمة بالغة مقصودة (أعظم) من غيره صار تمام الخلق ونهاية الكمال حصل بمحمد صلى الله عليه وسلم (1هـ من الفتاوى)
حاصل البحث في درجة الحديث:
والحاصل أن هذا الحديث صححه ونقله جماعة من فحول العلماء وأئمة الحديث وحفاظه الذين لهم مقامهم المعروف ومكانتهم العالية وهم الأمناء عل السنة النبوية فنهم الحاكم والسيوطي والسبكي والبلقني .
ونقله البيهقي في كتابه الذي شرط فيه أن لا يخرج الموضوعات والذي قال فيه الذهبي : عليك به فإنه كله هدى ونور .( كذا في شرح المواهب وغيره)
وذكره ابن كثير في البداية واستشهد به ابن تيمية في الفتاوى وكون العلماء اختلفوا فيه فرده بعضهم وقبله البعض ليس بغريب لأن كثيرا من الأحاديث النبوية جرى فيها الخلاف بأكثر من هذا وانتقدها النقاد بأعظم من هذا .
وبسبب ذلك ظهرت هذه المؤلفات العظيمة وفيها الاستدلالات والتعقبات والمراجعات والمؤاخذات ولم يصل ذلك إلى الرمي بالشرك والكفر والضلال والخروج عن دائرة الإيمان لأجل الاختلافات في درجة حديث من الأحاديث وهذا الحديث من جملة تلك الأحاديث.
فوائد مهمة في الحديث :
قبل أن يتشرف العالم بوجوده صلى الله عليه وسلم وأن المدار في صحة التوسل على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند الله عز وجل وأنه لا يشترط كونه حياً في دار الدنيا ، ومنه يعلم أن القول بأن التوسل لا يصح بأحد إلا وقت حياته في دار الدنيا قول من اتبع هواه بغير هدى من الله .
2- الحديث الذي رواه الترمذي وصححه ( إن النبي صلى الله عليه وسلم علم شخصاً أن يقول ( اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فيجلي حاجتي فشفعه في ) ...
يتبع