أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


هل الحلف بغير الله شرك؟
- المقالة الأولى -
بقلم الأستاذ سيد علي اسماعيل الجزائري

حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلَّى الله عليه وسلم:"مَنْ حلفَ بغير الله فقد أشركَ" أو بلفظ :" إنَّ اللَّهَ يَنْهاكم أنْ تَحْلِفوا بآبائِكُم، فَمَنْ كان حالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّه، أو لِيَصْمُتْ" حديثٌ واحدٌ وليس حديثين؛ رواه أحدُ الرواةِ عنه باللفظ الأول، وراوه جماعةٌ عنه باللفظ الثاني، وفي كلا الطريقين يَذكرُ ابنُ عمرَ سببَ ورودِ الحديثِ، وهو أنّ أباه عمر رضي الله عنه حَلَفَ بأبيه فَسَمِعَه النّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فنهاه، فمن الرواة من ذكرَ اللفظَ الأولَ، ومنهم مَنْ ذكرَ الثاني، ولا ريب أنّ بينهما اختلافا بيّنًا وفرقًا كبيرًا؛ فلا بدّ مِنْ ترجيحِ أحدِ اللفظين، فأيهما أرجح؟
هذا ما سنحاول معرفته في هذا المقام بتوفيق من الله وتسديده، فأقول ومنه أستمدّ العون:
من رواه عن ابن عمر بلفظ :" من حلف بغير الله فقد أشرك" ؟
رواه عنه سعد بن عبيدة وقد اختلف عنه:
فرواه الأعمش وسعيد بن مسروق عنه عن ابن عمر.
وفيه :" هذه كانت يمين عمر" وفي لفظ:"كان عمر يحلف وأبي " فنهاه النبي وقال: من "حلف بغير الله فقد أشرك".
ورواه أيضا على هذا الوجه الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة به؛ لكن ليس فيه ذكر سبب ورود الحديث أن عمر حلف بأبيه.
ورواه منصور بن المعتمر عن سعد بن عبيدة وزاد بينه وبين ابن عمر رجلا.
وقد سُمِّيَ في بعض الطرق بمحمد الكندي.
وهو رجل مجهول كما قال أبو حاتم في الجرح والتعديل.
وفي روايته:" فإن عمر كان يحلف بأبيه، فقال له رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: " مَنْ حلف بغير اللَّه فقد أشرَكَ".
وقد رجّح الطحاويُّ والبيهقيُّ روايةَ منصور التي فيها الواسطةُ بين سعد بن عبيدة وابن عمر.
قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار 2/300 بعد ذكره طرق الحديث: "فوقَفْنَا على أنَّ منصورَ بنَ المعتَمِر قد زادَ في إسنادِ هذا الحديثِ على الأعمشِ، وعلى سعيدِ بنِ مسْروقٍ، عن سعدِ بنِ عُبَيْدَةَ رجلًا مجهولًا بينه وبين ابنِ عمرَ في هذا الحديثِ فَفَسَدَ بذلكَ إسنَادُهُ".
وعلى هذا؛ فروايةُ سعدِ بنِ عُبيدة عن ابن عمر بلفظ:" من حلف بغيرِ اللَّهِ فقد أشْرَكَ" معلولةٌ ؛ لأنّ سعد بن عبيدة لم يسمعه من ابن عمر.
وإذا اختلف منصور والأعمش قدّم منصور.
قال ابن أبى حاتم: سئل أبى عن الأعمش ومنصور؟ فقال: الأعمش حافظ يخلط ويدلس، ومنصور أتقن لا يخلط ولا يدلس.
وقال ابن معين: إذا اجتمع منصور والأعمش فقدم منصورًا.


قلت: وعلى التسليم بأنّ روايةَ الأعمش ومَنْ معه أرجحُ، فهو معلولٌ من جهة أخرى وهي مخالفةُ سعدِ بنِ عُبيدة لأصحابِ عبدِالله بن عمر الذين رووه عنه بلفظ:
"إنّ اللَّهَ يَنْهاكم أنْ تَحْلِفوا بآبَائِكُم، فمنْ كان حالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّه، أو لِيَصْمُتْ" وهم: نافع مولاه، وسالم ابنه، وعبد الله بن دينار، ورواياتهم عنه في الصحيحين وغيرهما، وهؤلاء أثبت أصحابه.
تنبيه: روى هذا الحديثَ بذلك اللفظ عن سالم بن عبد الله : الحافظُ الزهري. وخالفه موسى بنُ عقبةَ؛ فرواه عن سالمٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ مرفوعا بلفظ: " من حلف بغيرِ اللهِ " فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا
أخرجه الإمام أحمد رقم5346 من طريق عبد الله بن المبارك عن موسى بن عقبة به.
وموسى هذا هو صاحب المغازي وهو ثقة؛ لكنه ليس هو في القوَّةِ عن سالمٍ كالزّهري،: والزُّهْرِيُّ، عن سالِمٍ، عن أبيه أصحُّ الأسانيدِ كما قال الإمامان أحمدُ وابنُ راهُوَيْه.


قلت: وقد تابع الزّهريَّ: عبيدُ الله بن عمر؛ فرواه عن سالم بلفظ الجماعة.
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 13179 من طريق جُنادَةُ بن سَلْمٍ، عن عُبيدِ الله بن عمر، عن سالمٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: بينما عمرُ بنُ الخطَّابِ يَسِيرُ في رَكْبٍ فَسَمِعَهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يَحْلِفُ بأبِيهِ، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أن تَحْلِفُوا بآبَائِكُم، فمن حلفَ فلْيَحْلِفْ باللهِ أو لِيَصْمُتْ".
لكن جنادة بن سلم ضعيف، ضعّفه أبو زرعة وأبو حاتم.
ولا يمكن الاعتبار به هنا لما قاله أبو حاتم فيه: " عَمَدَ إلى أحاديث موسى بن عقبة، فحدّث بها، عن عبيد الله بن عمر".
فيعود إلى حديث موسى بن عقبة نفسه، والله أعلم.
ورواه أيضًا يحيى بنُ أبي إسحاقَ الحضرمي عن سالمٍ بلفظِ الجماعة.
أخرجه أحمد رقم5089 والنسائي رقم 3765 من طريق إسماعيل بن علية، والبزار رقم 6084 من طريق بِشْر بن المُفَضَّل كلاهما عن يحيى بن أبي إسحاقَ، عن سالِمٍ، عن أبيه؛ أنّ رسولَ الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال: " إنّ اللَّه تبارك وتعالى يَنْهَاكُم أن تَحْلِفُوا بآبائِكُم
وإسناده صحيح، وفي مسند الإمام أحمد قصّة.
وبالجملة؛ فالصوابُ في رواية سالم ما رواه عنه الزهريُّ ويحيى بنُ أبي إسحاقَ، لا روايةُ موسى بن عقبة، والله أعلم.


وقد اغترّ بعضُ الأفاضل من أهل العلم والحديث برواية موسى بن عقبة هذه؛ فجعلها شاهدةً لرواية سعد بن عبيدة " من حلف بغير الله فقد أشرك".
وقال رحمه الله تعالى عن رواية موسى بن عقبة "من حلف بغير الله. فقال فيه قولا شديدا" :" كأنّه يشير إلى قوله فقد أشرك". أي الذي جاء في طريق سعد بن عبيدة.


تنبيه آخر: عن رواية الزهري عن سالم.
رواه عن الزهري جماعةٌ كبيرةٌ من أصحابه. منهم سفيان بن عيينة،
ورواه عن سفيان أيضا جماعةٌ كبيرةٌ، منهم: الشافعي وقتيبة وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب..
كلّهم رووه عن سفيان عن سالم بلفظ الجماعة.
وخالفهم عبدُالرحمن بن بشر؛ فرواه عن سفيان، عن سالمٍ بلفظ:" إنّ اللَّه عزّ وجلّ يَنْهَاكُم أن تَحْلِفُوا بآبائكم، فإنَّه كُفْرٌ بكم"
فزاد في روايته عن سفيان " فإنَّه كُفْرٌ بكم "
وعبدالرحمن بن بشر هو أبو محمّد النيسابوري، وهو ثقة؛ لكنه تفرّد بهذه الزيادة دون بقيّةِ أصحابِ سفيان، وهم نحو ستة عشر راويا منهم أحمد والشافعي والحميدي وقتيبة وزهير بن حرب.
فهي زيادة شاذة، والله أعلم.


قلت: وهو بهذا اللفظ قريبٌ من لفظِ حديثِ ابنِ عباس عن عمرَ أنَّه قال: " كنَّا نقرأُ: وَلَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فإنَّه كُفْرٌ بكم".
وهو من رواية سفيان، عن الزهري، عن عبيدالله عنه به.
أخرجه أبو بكر الخلال في السنة رقم 1253
فلعله اشتبه عليه هذا بهذا، والله أعلم.


الخلاصة: أن الحديث واحدٌ كما سبق بيانُه، وسببُ ورودِه يدلُّ على ذلك، وهو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمرَ بنَ الخطاب يحلف بأبيه؛ فنهاه عن ذلك، وقال:" لا تحلفوا بآبائكم..." كما رواه جماعةٌ من الثقات من أصحاب ابن عمر رضي الله عنهما عنه، ولا يصحّ باللفظ الآخر "من حلف بغير الله فقد أشرك" الذي رواه سعد بن عبيدة مخالفا لرواية الجماعة.
وهذا على التسليم بأن إسناده صحيح غير معلول.


ومما يؤكد على أنه حديثٌ واحدٌ لا يمكن حملُه على التعدّد أمران:
الأول: أن مخرجه واحدٌ كما سبق.
الثاني: أننا لو حملناه على التعدد وقلنا إنهما حديثان؛ فإنه يلزم من ذلك أن يكون عمرُ رضي الله عنه حلفَ بأبيه فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عادَ مرّةً أخرى إلى الحلف بأبيه فنهاه أيضا، وهذا مما لا يليق بمقام عمر رضي الله عنه.
ولا سيما وقد قال بعد أن سمع نهيَ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إياه عن ذلك:
"ما حلفتُ بها منذُ سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَنْهَى عنها، ولا تكلَّمْتُ بها" عند مسلم.
وفي لفظٍ:" فواللَّهِ ما حلفتُ بها منذ سمِعتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهَى عنها ، ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا" عند البخاري ومسلم.
وفي لفظٍ آخر:" فَمَا عُدْتُ لَه" عند البزار.
فهذا مما يدلّ على غَلَطِ القولِ بالتعدد.
ويؤكد ذلك أيضا: أن هذه القصة قد راواها عن عمرَ رضي الله عنه غيرُ ابنِه عبدِالله، وهو ابنُ عباس رضي الله عنهما.
فقد أخرج أحمد رقم 116 و214 و240 و294 ، وعبد الرزاق رقم 15925، وابن أبي شيبة رقم 12279، وعبد بن حميد في مسنده رقم36 ، والبزار رقم 204 ، والطحاوي في مشكل الآثار رقم 814 ، والذهبي في معجم الكبير 2/126 من طرق عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس، قال قال عمرُ: كنتُ في رَكْبٍ أسيرُ في غَزَاةٍ مع النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَحَلَفْتُ، فقلتُ: لا وأبِي، فَنَهَرَنِي رَجُلٌ مِنْ خلفي، وقال: " لا تَحْلِفُوا بآبَائكُم " فَالْتَفَتُّ، فإذا أنا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال الحافظ الذهبي عقبه" إِسنادُهُ صالحٌ ولمْ يخرِّجوه".
قلت: وذلك لأجل رواية سماك عن عكرمة؛ فإنها مضطربَةٌ، لكنه هنا لم يتفرّد.
هذا ما تيسر ذكره في هذه الحلقة الأولى وللحديث بقيّة إن شاء الله.


كـــتبه أخوكم إسماعيل بن محمد سيدعلي
الجزائر في يوم الأربعـــاء 26/3/2014