أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





كان قتالُ المسلمين أعداءهم الكافرين في مكة دفاعاً عن أنفسهم، محرّماً عليهم على الرغم من شدة الاعتداء عليهم كما مضى، وعندما فكّروا في ردّ الاعتداء عن أنفسهم أمرهم الله بكفِّ أيديهم. كما قال تعالى: {ألم تَر إلى الذين قيل لهم كُفُّوا أيديَكم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يَخْشَون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا ربَّنا لِمَ كتبت علينا القتال؟ لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب؟ قل متاع الدنيا قليل والآخرة خيرٌ لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً} [النساء: 77].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، وإن لم تكن ذات النُّصُب، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين، والصبر إلى حين، وكانوا يتحرَّقون ويودُّون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة، منها قلة عددهم إلى كثرة عدد عدوهم" [تفسير القرآن العظيم (1/525)].

فالآية مدنية تحكي ما كان من أمر المسلمين في مكة، من رغبتهم واشتياقهم لإذن الله تعالى لهم في قتال عدوهم، دفاعاً عن دينهم وأنفسهم وأعراضهم، وتُعَجِّب الآية من فريق منهم - وليس كلهم - تَقاعَس عندما فرض الله القتال في المدينة.

ويعقب سيد قطب رحمه الله على تعجيب الله من هذا الفريق المتحمِّس قبل فرض القتال، المتقاعس بعد فرضه فيقول: "وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان،وهو ذو عزة، فيندفع يطلب من الرسول صَلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة، والرسول صَلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمرَ ربه، بالتريُّث والانتظار والتربية والإعداد وارتقاب الأمر في الوقت المقدّر المناسب، فلمَّا أن أمِن هذا الفريق في المدينة، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال … لم يعد يرى للقتال مبرراً … وقد يكون هذا الفريق مؤمناً فعلاً بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى. وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا فالإيمان الذي لم يتضح بعد … ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر والاستماع فقط إلى أمر الله واعتباره هو العلة والمعلول والسبب والمسبِّب والكلمة الأخيرة، سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له … لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف الذي يصوِّره السياق القرآني هذا التصوير، ويعجب منه هذا التعجب، وينفِّر منه هذا التنفير" [في ظلال القرآن (5/712،713) طبع دار الشروق، مع تصرف واختصار].

حكمة الأمر بكف المسلمين أيديهم عن القتال في مكة:

وأمر المسلمين بكف أيديهم عن القتال في مكة – على الرغم من تعدي المشركين عليهم وإيذائهم بكل ألوان الأذى – كان هو المناسب صدوره من العليم الحكيم. وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى ما ظهرله من الحكمة في ذلك، فقال: "ولم يكن الحال – أي الأمر بالقتال – إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة: منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم. ومنها كونهم كانوا في بلدهم، وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً كما يقال، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لمّا صارت لهم دار ومنعة وأنصار …" [تفسير القرآن العظيم (1/525)].

وقد تعرض سيد قطب لذلك في كتاب "في ظلال القرآن" – بعد أن بيّن أنه يجب على المسلم أن يتأدب مع القرآن، فلا يجزم أن هذه هي الحكمة أو تلك، وأنها أمور اجتهادية تخطئ وتصيب - فبيّن أن الفترة المكية كانت فترة إعداد وتربية للفرد على الصبر وضبط النفس، والبقاء ضمن مجتمع منظم وقيادة تطاع، في بيئة كان ذلك مفقوداً فيها.

وأن الدعوة السلمية في المجتمع الجاهلي، كانت أشد تأثيراً من الصراع المسلح، وأنه لو أذن للمسلمين في القتال، لقامت معركة بين القريب وقريبه في كل بيت، لعدم وجود سلطة نظامية متميّزة، وقد يكون ذلك سبباً في نفور الناس من الإسلام، كما أن الله تعالى قد علم أن كثيراً من المعاندين الذين كانوا يفتنون المؤمنين سيكونون بعدُ، من جنود الإسلام. يضاف إلى ذلك أنه كان يوجد في المجتمع الجاهلي من ينصر المظلوم، وقد كان أبو طالب، بل وغيره من بني هاشم وبني عبد المطلب، يحمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نقض الصحيفة الآثمة ما يدل على ذلك، وكان عدد المسلمين قليلاً وعدد عدوهم كثيراً. وأخيراً فإن المرحلة كانت مرحلة دعوة إلى الله، وهي محققة دون قتال، فقد كان الرسول صَلى الله عليه وسلم يعرض دعوته على الناس في كل مكان [انظر في ظلال القرآن (5/513-514)].

والخلاصة:

أن الفترة المكية كانت مرحلة دعوة وابتلاء وصبر، وكان جزء منها مرحلة إعداد لإقامة الدولة الإسلامية، ويبدأ هذا الجزء من بدء إسلام أول فوج من الأنصار في منى، أما القتال فكان في ذلك الوقت محرماً، لما سبق ولغيره مما لا يعلمه إلا الله، وفي أول نزول الرسول صَلى الله عليه وسلم في المدينة باشر تأسيس قيام الدولة وقد مضى الكلام على ذلك كله مفضلاً.

الإذن بقتال المسلمين عدوهم في المدينة

وبعد أن قامت الدولة الإسلامية، أذن الله للمسلمين المظلومين بأن يُقاتلوا الكافرين الظالمين، الذين أخرجوهم بغير حق سوى أنهم يقولون: {ربنا الله}، ووعدهم سبحانه في الآية بنصره فقال: {أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير} [الحج: 39].

وكون هذا الإذن وقع في المدينة بعد الهجرة هو الصواب، لا كما قال ابن هشام من أن الإذن وقع في مكة، وبعده أمر الرسول صَلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة [انظر السيرة النبوية (2/79-80)].

وقد ردّ هذا الرأي شمسُ الدين ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فقال: "فلما استقر رسول الله صَلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره وبعباده المؤمنين وألّف بين قلوبهم، بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم، فمنعه أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر، وبذلوا نفوسهم دونه وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج، وكان أولى بهم من أنفسهم، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح، حتى قويت الشوكة واشتد الجناح، فأذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم.
فقال تعالى: {أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير} [الحج: 39]. وقالت طائفة: "إن هذا الإذن كان بمكة والسورة مكية. وهذا غلط لوجوه:

الأول: أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال، ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة.

الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [الحج: 40] وهؤلاء هم المهاجرون.

الثالث: قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج:19]، نزلت في الذين تبارزوا في يوم بدر من الفريقين.

الرابع: أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} والخطاب بذلك كله مدني، فأما الخطاب بـ {يا أيها الناس} فمشترك.

الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعمّ الجهاد باليد وغيره ولا ريب في أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة. فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به} أي بالقرآن {جهاداً كبيراً …} [الفرقان: 52].

السادس: أن الحاكم روى في مستدركه من حديث الأعمش … عن ابن عباس قال: "لما خرج رسول الله صَلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن فأنزل الله عزّ وجلّ: {أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} وهي أول آية نزلت في القتال" وإسناده على شرط الصحيحين [زاد المعاد (2/65)].

فهذه المرحلة هي مرحلة إباحة الله للمؤمنين بأن يقاتلوا عدوهم لظلمهم إياهم.

فرض القتال على المسلمين:

كانت المرحلة الأولى من مراحل القتال – الذي هو جزء من الجهاد في سبيل الله – هي الإذن والإباحة، كما مضى.

أما المرحلة الثانية، فهي فرض القتال على المسلمين.

كما قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثَقِفْتُموهم، وأخرجوهم من حيثُ أخرجوكم، والفتنة أشدُّ من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين، فإن انتهَوا فإن الله غفورٌ رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكونَ الدين كله لله، فإن انتهَوا فلا عدوان إلا على الظالمين. الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرماتُ قِصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة: 190-194].

وللعلماء في هذه المرحلة رأيان:

الرأي الأول: أن الله تعالى فرض على المسلمين أن يقاتلوا أعداءهم الكفار، إذا بدأ هؤلاء بقتال المسلمين فقط، مستدلين بأدلة من نفس هذه الآيات.

منها: قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} أي الذين يبدءونكم بالقتال.

ومنها: قوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} والمراد بالاعتداء المنهي عنه على هذا الرأي، أن يبدأ المسلمون بقتال الكافرين الذين لم يقاتلوهم.

ومنها: قوله تعالى: {فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم} أي إذا انتهى الكافرون من قتال المؤمنين.

ومنها: قوله تعالى: {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}.

وبالجملة فالآيات تدل بظاهرها على وجوب رد العدوان الذي يبدأ به الكافرون على المؤمنين، وعلى هذا فقد كان القتال فرضاً على المسلمين في حالة بدء الكفار بقتالهم، ومحظوراً عليهم بالنسبة لمن سالمهم ولم يقاتلهم.

ويـبـني أهل هذا الرأي عليه أن هذه المرحلة – التي كان محظوراً فيها قتال من لم يبدأ المسلمين بالقتال – نُسخت بالآيات التي نزلت بعد ذلك، وهي صريحة في الأمر بقتال الكفار حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون، كما في سورة التوبة، وعلى هذا الرأي الربيع وابن زيد وابن القيم، فتكون مراحل القتال عندهم أربعاً:

المرحلة الأولى: حظره على المسلمين عندما كانوا في مكة.

المرحلة الثانية: إباحته لهم في أول الأمر بالمدينة.

المرحلة الثالثة: فرضه عليهم بالنسبة لمن بدأهم بالقتال.

المرحلة الرابعة: فرضه عليهم مطلقاً وهي المرحلة الأخيرة.

الرأي الثاني: أن فرض القتال كان عاماً في قتال الكفار، من بدأ منهم بالقتال ومن لم يبدأ، فكل من كان في حالةِ مَن يقاتل المسلمين يجب قتاله، لأن الأصل فيهم عدم المسالمة، بل المقاتلة والفتنة، ولا يقفون عن هذا الأصل إلا إذا عجزوا، وذلك لا يقتضي كف المسلمين عنهم حتى يعدوا العدّة وتقوى شوكتهم على المسلمين.

والدليل على أن الكفار لا يسالمون المسلمين، قوله تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217].

ويفسر أهل هذا الرأي الاعتداء المنهي عنه، بتجاوز المسلمين القادرين على القتال من الكفار، إلى غيرهم ممن لا يقاتلون ولا يعينون على القتال، كالنساء والصبيان والشيوخ والرهبان الذين انقطعوا للعبادة، فإن قتال هؤلاء لا يجوز كما ورد النهي عنه في نصوص أخرى ستأتي في مكانها.

ويفسرون الانتهاء في قوله: {فإن انتهَوا فإن الله غفور رحيم} وقوله: {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} بترك الكفر والدخول في الإسلام، أو إعطاء الجزية والكفّ عن محاربة الله ورسوله.

وعلى هذا الرأي لا يوجد نسخ، وإنما زيد حكم الجزية الذي لم تتعرض له سورة البقرة، في سورة التوبة. وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز، واختاره ابن جرير الطبري وابن كثير في تفسيريهما.

وتكون مراحل القتال على هذا الر أي ثلاثاً فقط:

الأولى: الحظر عندما كان المسلمون في مكة.

الثانية: الإباحة في أول الأمر بالمدينة.

الثالثة: فرضه مطلقاً [راجع هذه الأقوال في: جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري (2/189-200) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/237-260) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/226)، وزاد المعاد لابن القيم (2/65). وفي ظلال القرآن لسيد قطب (2/187) والآية 192من سورة البقرة]

والظاهر أنّ هذا هو أرجح الأقوال، لأن الاعتداء المنهي عنه في الآيات، فسّر بنصوص السنة التي نهت عن قتال النساء والصبيان والشيوخ والرهبان.

والكفار الذين ليسوا من هذه الأصناف، هم في حالة من يقاتل المسلمين، ولا يكفّون عن ذلك إلا لعجز، وعجزهم لا يسوغ كفّ المسلمين عنهم حتى يستعدوا لقتالهم، بل يجب مبادرتهم لإعلاء كلمة الله وخضد شوكة أعدائه، ما استطاعوا.

وإن ما يقوم به الصليبيون واليهود والوثنيون، من عدوان سافر على المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، لدليل واضح أن أعداء المسلمين، لا يهادنونهم ولا يسالمونهم، إلا إذا فقدوا القوة التي تغريهم بالعدوان، ورأوا بأم أعينهم قوة المسلمين التي ترهبهم، فلا يفكرون في العدوان عليهم...

[هذه السطور الأخيرة سجلتها بتاريخ الخامس عشر من شهر شعبان، لعام 1423هـ الحادي والعشرين من شهر أكتوبر لعام 2002م، واليهود يدمرون فلسطين، ويقتلون كل من استطاعوا قتله، بدون تفريق بين كبير وطفل ورجل وامرأة... وأمريكا تنشر قواتها الجوية والبرية والبحرية، في بلدان المسلمين من جاكرتا إلى المغرب، وتستعد للهجوم على الشعب العراقي، وحكام الشعوب الإسلامية يتوسلون إليها، لقبول الحلول السلمية بين اليهود وبينهم، وهي لا تكف عن تأييد اليهود بكل ما أوتيت من قوة، وأضيف إلى ذلك ما حصل ويحصل هذه الأيام في هذا العام 1435ه/2014م في غزة.]

وتتضمن آيات سورة التوبة هذه المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد وتوضحها أكمل توضيح. قال تعالى: {براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غيرُ مُعْجزي الله وأن الله مُخْزي الكافرين. وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريءٌ من المشركين ورسولُه، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غيرُ مُعْجزي الله، وبشِّر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخُذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم. وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمعَ كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يؤمنون. كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} [التوبة:1-7].

وأضيفت الجزية في قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله، ولا يَدينون دينَ الحقِّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة: 29].

فأصبح المسلمون مكلَّفين أن يقاتلوا كفّار أهل الأرض حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية – على خلاف في أخذها من الوثنيين.

تلخيص ابن القيم لمراحل الدعوة والجهاد في سبيل الله

وقد لخّص ابن القيم رحمه الله مراحل الجهاد – بمعناه العام – من حين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن لقي ربه، فقال:

"أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: {يا أيها المدّثر قم فأنذر} فنبّأه بقوله: {اقرأ} وأرسله بقوله: {يا أيها المدثر}.

ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حوله من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح.

ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره الله أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله".

ثم بين رحمه الله أقسام الكفار بعد الأمر بالجهاد، وأحكامهم في الإسلام بعد توضيح آخر مرحلة من مراحل الجهاد، فقال: "ثم كان الكفار معه بعد الجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهودهم، ولما نزلت سورة براءة نزلت بيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمر فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب، حتى يعطوه الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليه"

إلى أن قال: "فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول سورة براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة، فصار أهل الأرض معه ثلاث أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب" [زاد المعاد (2/90-92)].

ففرض المسلمين إذاً أن يجاهدوا حتى يحققوا هذه المرحلة من مراحل الجهاد في سبيل الله، اقتداء برسول الله صَلى الله عليه وسلم، وامتثالاً لأوامر الله ولا يجوز لهم الوقوف عند المراحل السابقة عليها.

قال سيد قطب رحمه الله: "والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام بأمر من الله، لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها، ولقد انتهت هذه المرحلة كما يقول الإمام ابن القيم: "فاستقر أمر الكفار معه". [في ظلال القرآن (9/1446) ويراجع أيضاً (10/1581) من نفس الكتاب] إلى آخر الفقرة التي سبق ذكرها في كلام ابن القيم رحمه الله.

الفرع الثالث: حكم المراحل الجهادية

بدأت الدعوة بعد البعثة النبوية سراً، ثم أمر صَلى الله عليه وسلم بالجهر بها، فبلغ ما أمره به ربه، وأمر خلال ذلك بالصبر على الأذى والصفح والكفّ عن القتال، إلى أن هاجر هو وأصحابه إلى المدينة، ثم أذن لهم في قتال الظالمين، ثم فرض عليهم قتالهم – إذا بدأوا بالقتال، أو مطلقاً كما مضى – وكانت آخر مراحل الجهاد – بمعناه الخاص – قتال الكفار كافة، ونبذ عهودهم إليهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون – على خلاف في غير أهل الكتاب – فما حكم هذه المراحل الجهادية التي مرّت بها الدعوة الإسلامية؟

عندما يمر القارئ بنصوص القرآن المتضمنة للمراحل المذكورة، يجد أن كثيراً من المفسرين والمؤرخين، وغيرهم من العلماء، ينصون على نسخ المراحل كلها بنصوص المرحلة الأخيرة التي يطلقون عليها آية السيف.

ومعنى هذا أنه يجب على المسلمين أن يقاتلوا كفار الأرض كلهم، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم صاغرون، لأن هذه هي المرحلة الأخيرة وقد نسخت ما قبلها من المراحل، والمنسوخ لا يجوز العمل به.

ولكن رجح كثير من المحققين عدم النسخ لأي مرحلة من المراحل الجهادية، وهو الظاهر [راجع جامع البيان للطبري (10//34) والجامع لأحكام القرآن (8/39)، (20/37) وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/322)].

وبناء على ذلك فإن للمسلمين أن يعملوا بحكم أي مرحلة منها، إذا كانت ظروفهم فيها مشابهة للظروف التي نزلت فيها آياتها، والقول بغير هذا يؤدي إلى مواجهة الواقع بما لا يكافئه، وبالتكليف بما هو فوق الطاقة.

فالمسلمون القادرون على الدعوة سراً فقط، لا يجوز تكليفهم الجهر بها جهرا كما هو الحال في الدول الشيوعية، وغيرها من الدول الكافرة التي لا تأذن بالدعوة إلى الله، بل تنزل العقاب على من يتصدى لذلك.

وإذا كانت بعض الدول تأذن بتبليغ بعض أمور الإسلام، كالعبادات الظاهرة، مثل الصلاة والصيام والحج، وتحظر غيرها، كالزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الجهاد، وعدم موالاة الكافرين وتحكيم شرع الله، فيجب على الدعاة إلى الله أن يدعوا جهراً إلى الأمور المأذون فيها، ويدعوا إلى غيرها سراً.

فإذا آذاهم أعداء الله وامتحنوهم بسبب دينهم، فإن كانوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم بدون إلحاق الضرر القاضي عليهم وعلى أهليهم، فعليهم أن يدافعوا، وإذا لم يكونوا قادرين، لقلة عددهم وسيطرة عدوهم على أجهزة الدولة، فعليهم أن يصبروا حتى يحكم الله بينهم وبين عدوهم.

فإذا أصبحوا قادرين على قتال الكافرين وإخضاعهم لكلمة الله تعالى، بأن قامت لهم دولة، فيجب أن يبدءوا أعداء الله بالقتال وهكذا … كل مرحلة يحتاج المسلمون إلى تطبيقها جاز لهم ذلك، بحسب طاقتهم، ولكن يجب عليهم السعي المتواصل لتطبيق المرحلة الأخيرة.

قال سيد قطب رحمه الله: "ولكنا فقط نبادر فنقول: إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة، بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة، بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة، ذلك لأن الحركة في الواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد، عن طريق الاجتهاد المطلق، أيُّ الأحكام هو الأنسب للأخذ به في ظرف من الظروف … مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يُصار إليها، متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام، كما كان حالها عند نزول سورة التوبة وما بعدها، ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب…" [في ظلال القرآن (10/1580)].