&& عندما رحلت يا أبي .. !! &&
في كل يوم جديد تصحو على صوته الهاديء .. يوقظها لصلاة
الفجر فقد كان حريصاً كل الحرص عليها .. كان يثق بها ثقة عمياء
ويردد لها دوماً مقولته الشهيرة : (( لوأن كل البنات يرتكبن
الأخطاء فأنت لن تقعي في الخطأ أبداً )) يقولها لأنه يعرف ابنته
جيداً فهو الذي قام على تربيتها ورباها أحسن تربية .. وقد أعطاها
من الحب أنقاه .. ومن المال أزكاه .. فماذا ينقصها ؟؟ لا شيء ..
فقد ملأ قلبها الصغيرحباً وحناناً .. فلم تعد بحاجة غيره .. فعندما
يضمها على صدره .. تشعر بأنها تملك الدنيا ومافيها ..
كانت تدرس في الصف الثالث الثانوي .. وعندما تحكي قصتها
لصديقاتها .. يشعرن بالغيرة .. ومنهن من يشعر بالحسد .. فقد
حصلت ريما على كل ماتتمناه أي فتاة .. حصلت على الحب
والحنان .. حصلت على السكينة والاطمئنان .. المال تطلبه فتجده
.. بينما يشعر غيرها بالحرمان .. فهناك من حرمت من الحنان ..
وهناك من قصر عليها الوالدان .. فلا مال يشبع .. ولا عاطفة تشبع
.. وياله من حرمان ....!!
وتدور عجلة الزمان .. وريما تنعم بالخير الوفير .. وتغرد في
الصباح مع كل طير .. تغرد أجمل الألحان .. وتتنزه في كل مكان ..
حاملة معها قلب صغير ولسان .. يلهج بالشكر والعرفان .. للرحيم
الرحمن ..
وما أن حل ذاك المساء .. حتى تغيرت الأحوال وتبدلت ..
خرجت ريما من غرفتها على أصوات غريبة في المنزل .. أصوات
لم تعتد سماعها .. ترى ما هذه الأصوات ..!!!
تنزل من الدرج مسرعة .. وتتوقف عند آخر عتبة منها ..!!!
لتقف مذهولة .. حيرانة .. مالذي يحدث ؟؟ وكيف حدث ؟؟
ومتى حدث ؟؟!!!
أسئلة كثيرة تتسارع في ذهنها الصغير .. فقد كان الموقف أكبر من
أن تتحمله روحها الطاهرة .. وجسدها النحيل ..
تتقدم بخطوات ثقيلة نحو أمها .. تنزل بسكينة عند قدميها ..
فتلامس قطرات من الدموع يديها الصغيرتين ..
تهمس بصوت حزين .. يكاد لا يسمعه من حولها ..
قائلة : أماه .. مالذي حدث ياأماه ؟؟ !!
لم تنبس الأم ببنت شفة .. أرادت أن تتحدث ولكن شيئاً ما يلجم
لسانها .. فهي تعرف أن ريما متعلقة جداً بوالدها .. وأن خبراً كهذا
قد يصعقها ....!!!
شعرت ريما بيد حانية تلمس كتفها .. إنها خالتها لطيفة ..
رفعت ببصرها إليها .. أرادت أن تقف ولكن بالكاد تحملها قدماها
.. أمسكت خالتها بيدها .. وساعدتها على السير إلى غرفة مجاورة
الخالة لطيفة : ابنتي الحبيبة ريما ..
لكل بداية نهاية .. ومهما طال بنا العمر أو قصر .. فلابد أن نخرج
من هذه الحياة الفانية .. لننتقل إلى حياة أكبر منها ..
ننتقل إلى جوار الرحمن الرحيم .. وهو أرحم بنا من أمهاتنا ..
وآبائنا .. وإخواننا ..
بنيتي .. لقد كان والدك من أفضل الرجال خلقاً .. كان يحافظ على
صلاته في المسجد .. ولا تفوته تكبيرة الإحرام أبداً ..
ومن يفعل ذلك يرجى له كل خير برحمة الله ..
ريما .. لقد انتقل والدك إلى رحمة الله .. ونسأل الله تعالى أن يبدله
داراً خيراً من داره .. وأهلاً خيراً من أهله ..
.. توفي اليوم في المسجد .. وهو ساجد .. وصائم
فادعي له بالرحمة .. ولوالدتك بالصبر والسكينة ..
نزلت كلمات الخالة لطيفة عليها كالماء العذب الزلال ..
لم تتوقع ريما يوماً أن تتحمل خبر وفاة والدها .. كانت دوماً تقول
لمن حولها : روحي متعلقة بروح والدي .. ولو جاءني خبر وفاته
فحتماً سيكون هذا آخر يوم لي بعمري ..
وقفت ريما على قدميها وكأنها تحاول استعادة توازنها العاطفي
والجسدي .. توضأت وصلت ركعتين دعت فيهما لوالدها ..
ثم خرجت إلى والدتها لتقبل رأسها .. ويديها ..
وتجلس عند قدميها .. بكل سكينة وهدوء ..
وضعت الأم يدها على رأس ابنتها .. وأخذت تمسح بحنان على
شعرها .. وقطرات من الدموع تنهمر من عينيها بصمت حزين ..
وعندما حان وقت النوم .. توجهت ريما إلى غرفتها .. و أمسكت
بقلمها ودفترها .. وفتحت صفحة بيضاء جديدة ..
كتبت فيها :
(( عندما رحلت يا أبي .. تغيرت بعدك الألوان .. تغير طعم الحياة
.. تغيرت رائحة الريحان ..
كنت أشم للورد عطراً .. وأسمع للطيور صوتاً ..
ولكن... بعد رحيلك يا أبي .. فقدت طعم الحياة ..
فقدت صدراً حنوناً كان يضمني كل صباح ..
فقدت عطراً كنت أستنشق عبيره كلما لاح ..
فقدت نظرة عينيك .. ولمسة يديك ..
إلى جنة الفردوس يا أبي ..
وأسأل المولى أن يجمعني بك .. في روض يحوي روحاً وريحان ..
في جنة الرحمن ..
اللهم اجمعني به في مستقر رحمتك .. وأنهار جنتك ..
يامن لا يخيب برجائه السائلون ..
..اللهم آمين ..
أختكم
~ ~ أم تركي ~ ~