[FONT=Arial Narrow][SIZE=5]الاتجاهات النفسية الاجتماعية وعلاقتها العضوية بالسلوك البشري
يعتبر المفكر الإنجليزي"هربرت سبنسر"من أوائل علماء النفس الذين استخدموا اصطلاح الاتجاهات(Attitudes).فهو الذي قال أن الوصول إلى الأحكام الصحيحة في المسائل المثيرة للجدل"يعتمد إلى حد كبير على الاتجاه الذهني للفرد الذي يصغي إلى هذا الجدل أو يشارك فيه".وقد استعمل هذا المصطلح بمعان مختلفة قليلاً أو كثيراً.كما يعتبر المفكر الأمريكي"جوردون ألبورت"أن مفهوم الاتجاهات،هو أبرز المفاهيم وأكثرها إلزاماً في علم النفس الاجتماعي الأمريكي المعاصر،،فليس هناك اصطلاح واحد يفوقه في عدد مرات الظهور في الدراسات التجريبية.ويرجع ألبورت سبب شيوع هذا الاصطلاح إلى العوامل التالية(1):
(1)إن هذا الاصطلاح لا ينتمي إلى أي من المدارس السيكولوجية التي كان يسود بينها النزاع،وهي مدرسة الغرائز السلوكية،مدرسة الجشطلت.وعليه فمن الطبيعي أن يتلقفه غالبية علماء النفس الذين كانوا يقفون خارج هذه المدارس.
(2)إن هذا الاصطلاح يساعد المتبني له،أن يتهرب من مواجهة مشكلة البيئة والوراثة التي كان الجدل حولها محتدماً طوال العقدين الثالث والرابع من هذا القرن.
(3)أن لهذا الاصطلاح قدر من المرونة،يسمح باستخدامه في نطاق الفرد وعلى نطاق الجماعة.وقد استخدم فعلاً في كل من هاتين الوجهتين،مما جعله نقطة التقاء بين علماء النفس وعلماء الاجتماعي،تتيح بينهم المناقشة والتعاون في البحث.
(4)الرغبة الملحة لدى علماء النفس بوجه عام،وخاصة في أمريكا في أن يتمكنوا من استخدام المقاييس في دراستهم.فالقياس في أذهان الكثيرين هو الذي يجعل البحث جديراً بأن يسمى بحثاً علمياً.
وفي هذا السياق،سنتعرض بالدراسة والتحليل لهذا الموضوع الذي اعتبره علماء الدراسات السلوكية والنفسية،أنه من أهم مواضيع علم النفس الاجتماعي،بل لقد ذهب البعض إلى اعتباره أنه هو الميدان الوحيد لذلك العلم.ويستند أصحاب هذه الآراء،إلى أن جميع الظواهر النفسية الاجتماعية،بسيطة كانت أم مركبة،خاصة أو عامة،تخضع في أساسها لمحددات السلوك الإنساني الذي يواجهه ويسيطر عليه تركيب خاص يسمى"الاتجاه النفسي Psychology Attitude"بالإضافة إلى أن القيم والاهتمامات تؤثر بشكل واضح وفعال على هذا السلوك،فالقيمة هي تلك الدينامية التي تدفع الفرد إلى سلوك معين في موقف معين،وبمعنى آخر فهي ذلك التنظيم الخاص للخبرة الناتجة عن مواقف الاختيار والمفاضلة والذي يدفع إلى أن يتصرف بصورة محددة في مواقف حياته اليومية.
وترتبط القيمة ارتباطاً وثيقاً بسلوك الفرد طالما هي التي تكمن وراءه، فمثلاً، عندما يصدق الطفل في حديثه-ولو أنه سوف يشعر بشيء من الألم نتيجة اعترافه صدقاً بما فعل-فإنما يؤكد ذلك،أن الطفل لم يصدر عنه مثل هذا السلوك إلا لقوة التنظيم الخاص للخبرة،والذي نسميه في هذه الحالة"قيمة الصدق" وبالتالي فإن السلوك أو الأداء يكون جزءاً من التفاعل الاجتماعي للأفراد،والذي يبني شبكة العلاقات البشرية أو الاجتماعية داخل الجماعة.هذه العلاقات البشرية بطبيعتها وتكوينها تحدد مواقف الاختيار والتفاضل التي تنشأ فيها القيم من جيل إلى جيل،ومن بيئة إلى أخرى.
وحينما يتم تعميق القيمة وتأكيدها تصبح في موقف يتطلب منها تبرير أنماط من التفاعل والسلوك والدوافع عنها أو العكس،بحيث يمكن للقيمة من أن تؤكد أو تلغي نوعاً آخر من السلوك الإنساني تدخله وتثبته في شبكة العلاقات الإنسانية أو تخرجه منها،ويأتي بعد ذلك ما يعرف"بالاهتمامات"أو"الميول" بحيث يبدو وكأن هناك تشابهاً قائماً بينها وبين"الاتجاهات"،وذلك لأن الاهتمام أو الميل إلى شيء ما يعبر في مضمونه عن الاتجاه نحو هذا الشيء،ورغم هذا يمكن أن نضع خطاً فاصلاً-إلى حد ما-بين الميل والاتجاه ويتضح ذلك حينما نقول أن"فلان"يميل إلى…أو مهتم بالموسيقى،كما نقول أيضاً أن"فلان"لديه اتجاه مضاد نحو الغرباء أو أهل الريف،أو لديه اتجاه نحو التدين والمسائل الروحية وما إلى ذلك.وبذلك يمكن أن نستخلص أن الميل أو الاهتمام هو خليط من الاحساسات والمشاعر الذاتية وبعض الأنماط السلوكية الموضوعية.وعليه فإن الميل أو الاهتمام يختلف عن الاتجاه.
تعريف مفهوم الاتجاه النفسي:
إن أدق وأشمل تعريف للاتجاه النفسي هو تعريف عالم النفس"جوردون ألبورت" الذي يصف الاتجاه بأنه"إحدى حالات التهيؤ والتأهب العقلي العصبي التي تنظمها الخبرة،وما يكاد يثبته الاتجاه حتى يمضي مؤثراً وموجها لاستجابات الفرد للأشياء والمواقف المختلفة فهو بذلك ديناميكي عام".ويعرف"بوجاردس" الاتجاه قائلاً:بأنه"ميل الفرد الذي ينحو سلوكه تجاه بعض عناصر البيئة أو بعيداً عنها متأثراً في ذلك بالمعايير الموجبة أو السالبة تبعاً لقربه من هذه أو بعده عنها"وهو يشير بذلك إلى مستويين للتأهب هما:أن يكون لحظياً،أو قد يكون ذات أمد بعيد(2).
وسنحاول فيما يلي مناقشة كل مستوى من هذين المستويين على حدة بشيء من الإيجاز:
(أ)التأهب المؤقت أو اللحظي:وينتج بطبيعة الحال من التفاعل اللحظي بين الفرد وعناصر البيئة التي يعيش فيها،ويمثل ذلك،اتجاه الجائع نحو الطعام في لحظة إحساسه بالجوع وينتهي هذا التهيؤ المؤقت بمجرد إحساس الجائع بالشبع.
(ب)التهيؤ ذا المدى الطويل:ويتميز هذا الاتجاه بالثبات والاستقرار،ويمثل ذلك اتجاه الفرد نحو صديق له،فهو ثابت نسبياً،لا يتأثر غالباً بالمضايقات العابرة، ولذلك فمن أهم خصائص هذا النوع من الاتجاهات أنه تأهب أو التهيؤ،له صفة الثبات أو الاستقرار النسبي الذي يتبع بطبيعة الحال تطور الفرد في صراعه مع البيئة الاجتماعية والمادية.وعليه فالاتجاهات هي حصيلة تأثر الفرد بالمثيرات العديدة التي تصدر عن اتصاله بالبيئة وأنماط الثقافة،والتراث الحضاري للأجيال السابقة،كما أنها مكتسبة وليست فطرية(3).
مراحل تكوين الاتجاهات:
يمر تكوين الاتجاهات بثلاث مراحل أساسية هي(4):
1-المرحلة الإدراكية أو المعرفية:يكون الاتجاه في هذه المرحلة ظاهرة إدراكية أو معرفية تتضمن تعرف الفرد بصورة مباشرة على بعض عناصر البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية التي تكون من طبيعة المحتوى العام لطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه،وهكذا قد يتبلور الاتجاه في نشأته حول أشياء مادية كالدار الهادئة والمقعد المريح،وحول نوع خاص من الأفراد كالأخوة والأصدقاء،وحول نوع محدد من الجماعات كالأسرة وجماعة النادي وحول بعض القيم الاجتماعية كالنخوة والشرف والتضحية.
2-مرحلة نمو الميل نحو شيء معين:وتتميز هذه المرحلة بميل الفرد نحو شيء معين،فمثلاً أن أي طعام قد يرضي الجائع، ولكن الفرد يميل إلى بعض أصناف خاصة من الطعام،وقد يميل إلى تناول طعامه على شاطئ البحر،وبمعنى أدق أن هذه المرحلة من نشوء الاتجاه تستند إلى خليط من المنطق الموضوعي والمشاعر والاحساسات الذاتية.
(3)مرحلة الثبوت والاستقرار:ان الثبوت والميل على اختلاف أنواعه ودرجاته يستقر ويثبت على شيء ما عندما يتطور إلى اتجاه نفسي،فالثبوت هذه المرحلة الأخيرة في تكوين الاتجاه.
عوامل تكوين الاتجاهات النفسية:
هناك عدة عوامل يشترط توافرها لتكوين الاتجاهات النفسية الاجتماعية نذكر منها(5):
(1)قبول نقدي للمعايير الاجتماعية عن طريق الإيحاء:يعتبر الإيحاء من أكثر العوامل شيوعاً في تكوين الاتجاهات النفسية،ذلك أنه كثيراً ما يقبل الفرد اتجاهاً ما دون أن يكون له أي اتصال مباشر بالأشياء أو الموضوعات المتصلة بهذا الاتجاه.فالاتجاه أو تكوين رأي ما،لا يكتسب بل تحدده المعايير الاجتماعية العامة التي يمتصها الأطفال عن آبائهم دون نقد أو تفكير،فتصبح جزءاً نمطياً من تقاليدهم وحضارتهم يصعب عليهم التخلص منه،ويلعب الإيحاء دوراً هاماً في تكوين هذا النوع من الاتجاهات فهو أحد الوسائل التي يكتسب بها المعايير السائدة في المجتمع دينية كانت أو اجتماعية أو خلقية أو جمالية،فإذا كانت النزعة في بلد ما ديمقراطية فإن الأفراد فيه يعتنقون هذا المبدأ.
(2)تعميم لخبرات"والعامل الثاني الذي يكون الإنسان من خلاله اتجاهاته وآرائه هو"تعميم الخبرات"فالإنسان دائماً يستعين بخبراته الماضية ويعمل على ربطها بالحياة الحاضرة فالطفل(مثلاً)يدرب منذ صغره على الصدق وعدم الكذب أو عدم أخذ شيء ليس له،أو احترام الأكبر منه عمراً..الخ.والطفل ينفذ إرادة والديه في هذه النواحي دون أن يكون لديه فكرة عن أسباب ذلك،ودون أن يعلم أنه إذا خالف ذلك يعتبر خائناً وغير آمن،ولكنه عندما يصل إلى درجة من النضج يدرك الفرق بين الأعمال الأخرى التي يوصف فاعلها بالخيانة،وحينما يتكون لديه هذا المبدأ(أي المعيار)يستطيع أن يعممه في حياته الخاصة والعامة.
(3)تمايز الخبرة:إن اختلاف وحدة الخبرة وتمايزها عن غيرها،يبرزها ويؤكدها عند التكرار،لترتبط بالوحدات المشابهة فيكون الاتجاه النفسي،ونعني بذلك أنه يجب أن تكون الخبرة التي يمارسها الفرد محددة الأبعاد واضحة في محتوى تصويره وإدراكه حتى يربطها بمثلها فيما سبق أو فيما سيجد من تفاعله مع عناصر بيئته الاجتماعية.
(4)حدة الخبرة:لا شك أن الخبرة التي يصحبها انفعال حاد تساعد على تكوين الاتجاه أكثر من الخبرة التي يصحبها مثل هذا الانفعال،فالانفعال الحاد يعمق الخبرة ويجعلها أعمق أثراً في نفس الفرد وأكثر ارتباطاً بنزوعه وسلوكه في المواقف الاجتماعية المرتبطة بمحتوى هذه الخبرة وبهذا تتكون العاطفة عند الفرد وتصبح ذات تأثير على أحكامه ومعاييره.
.......................... يتبع