أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واستن بسنته واقتفى أثره واهتدى بهداه أما بعد
فهذه رسالة مختصرة في مسألة السجود لغير الله تعالى والحكم فيها إذ ظن البعض أن السجود لغير الله تعالى بقصد التحية والتكريم قاصر على التحريم ولا يبلغ حد الإشراك إذ إنه كان مأذونا به في شرع من قبلنا متعللا بقوله تعالى:
( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) الشورى
قال الطبري في تفسيره: وعنى بقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض. أهـ

قلت: ومعلوم أن مقصود الآية هو بيان أن الله تعالى افترض علينا إقامة الدين وعدم التفرق فيه وأن هذا كان مما افترضه الله تعالى على الأمم من قبلنالا أن الشرائع متطابقة من كل وجه مع بعضها البعض فإن ما كان مأذونا به في شريعة من الشرائع قد يكون منهيا عنه في غيرها بعلم الله وحكمته وعدله وهذا لا ينافي تطابق الأديان في شأن العقيدة والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له.
قال تعالى: ( ... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ... (48) المائدة
قال الطبري في تفسيره: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يقول: سبيلا وسُنّة والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل.
قلت: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين خلا شيخ الطبري بشر بن معاذ وهو ثقة مترجم في التهذيب سعيد هو ابن أبي عروبة ويزيد بن زريع ممن حدث عنه قبل الإختلاط وقتادة هو بن دعامة السدوسي البصري.
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى , أَنْبَأَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ , ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ به
وصح عن عَنْ قَتَادَةَ , فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] , قَالَ: «الدِّينُ وَاحِدٌ , وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ». تفسير عبد الرزاق عن معمر به وذكره الطبري من طريقه.

فكون أن الزواج بالأخت كان حلالا مأذونا به في شريعة آدم عليه السلام لا يعني أن من تزوج بأخته لا يحكم عليه إلا بأنه ارتكب محرما لا يخرجه عن الملة بل قد ثبت في الشرع أن من تزوج بذات محرم فإنه يكون بمجرد الزواج كافراً وإن كان عالما بالتحريم ولا اعتبار لكون هذا الأمر كان جائزا مأذونا به في شرع من قبلنا لمَّا ثبت تحريمه في هذه الشريعة فثمة أفعال لا يكون فعلها إلا اعتقاداً وإن صدق فاعلها بالتحريم وهذا أمر بسطته في غير هذا الموضع.
فقد صح عند ابن ماجة في سننه عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أضرب عنقه وأصفي ماله.

وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: فَإِنَّ تَخْمِيسَ الْمَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا لَا فَاسِقًا وَكُفْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . مجموعة الفتاوى
وتأمل كيف أن الله تعالى أكفر إبليس بامتناعه عن السجود لآدم عليه السلام في حال أن السجود لآدم صار مأموراً به بعد إذ لم يكن مأموراً به.

ونظائر هذا كثير في شرع من قبلنا بل وفيما نسخ من شرعنا لذا سأصب التركيز على شأن السجود ليتبين الأمر على وجه الخصوص.
والتحقيق أن من سجد لغير الله تعالى سجوداً غير مأمور به ولا مأذوناً فيه فإنه ارتكب شركاً أكبر بقصده الفعل الشركي وهو صرف عبادة لا تنبغي الا لله واتخذ المسجود له من دون الله إلها يعبده ويتذلل ويتقرب إليه.

وهذه جملة من الأدلة على إفراد الله تعالى بالسجود من القرآن ومن السنة ومن كلام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) الأعراف
وفي الآية دلالة على الحصر والإفراد أفادها تقديم المعمول "له" بمعنى أنهم لا يسجدون لأحد سواه.
قال تعالى: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) الرعد

وقال تعالى: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) النحل

وفي الآيتين دلالة على الحصر والإفراد بتقديم المعمول "لله" وفي آية الرعد ما يدل على عمومها للعاقلين بدلالة "من" وفي آية النحل ما يدل على عمومها لغير العاقل بدلالة "ما"

وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فصلت

قلت: "إنَّ" شرطية وفعلها "كنتم" وجوابها محذوف تقديره: "فاسجدوا له" وفي خبر كنتم تقديم المعمول "إياه" للدلالة على الحصر أي إن كنتم لا تعبدون أحداً سوى الله فاسجدوا له.

فإذا تحقق توحيد الله في العبادة لزم السجود له سبحانه، وما كان لازما لتحقق التوحيد أولى بأن لا يصرف لغير من وحده بالعبادة وأحرى أن يكون صرفه لغيره نقضاً لهذا التوحيد من أساسه

وقال الآجري في كتابه الشريعة:

وأخبرنا الفريابي قال: قرأت على أبي مصعب وكتبت من أصل كتابه وقرأت عليه وهو ينظر في كتابه، قلت : حدثك عبد العزيز بن أبي حازم ، عن يزيد بن الهاد ، عن ثعلبة بن أبي مالك قال : اشترى إنسان من بني سلمة بعيرا ينضح عليه ، فأدخله المربد فحرب الجمل ، فلا يقدر أحد أن يدخل عليه إلا تخبطه ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر ذلك له ، فقال : « افتحوا عنه » فقالوا : إنا نخشى عليك يا رسول الله منه فقال : « افتحوا عنه » ففتحوا عنه ، فلما رآه الجمل خر ساجدا ، فقال القوم : يا رسول الله كنا أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة قال : « كلا لو انبغى لشيء من الخلق أن يسجد لشيء من دون الله عز وجل لانبغى للمرأة أن تسجد لزوجها ».

قلت: إسناده قوي رجاله ثقات رجال الشيخين خلا الفريابي شيخ الآجري وهو إمام حافظ ثبت وخلا صحابيه ثعلبة بن مالك فهو ممن أخرج له البخاري وقد اختلف في صحبته ورجح الحافظ ابن حجر في الإصابة أن له رؤية وسماعاً فالحديث من فوق الفريابي على شرط البخاري
والفريابي هو جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض أبو بكر الفريابي، القاضي مترجم في سير أعلام النبلاء للذهبي
وأبو مصعب: هو أحمد" بن أبي بكر واسمه القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف أبو مصعب الزهري المدني من رجال الستة وهو من رواة الموطأ المعروفين

والحديث فيه أتم الدلالة على إفراد الله تعالى بالسجود


وقال ابن أبي شيبة في المصنف:

حدثنا عبيد الله بن موسى , قال: أخبرنا إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن أبي بردة , عن أبي موسى , قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي , قال: فبلغ ذلك قومنا , فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد , وجمعوا للنجاشي هدية، فقدمنا وقدما على النجاشي , فأتوه بهديته فقبلها , وسجدوا , ثم قال له عمرو بن العاص: إن قوما منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك , فقال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالوا: نعم , فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد , أنا خطيبكم اليوم , قال: فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره , والقسيسون والرهبان جلوس سماطين , وقد قال له عمرو بن العاص وعمارة: إنهم لا يسجدون لك , قال: فلما انتهينا إليه زبرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك , فقال جعفر: لا نسجد إلا لله , فلما انتهينا إلى النجاشي قال , ما يمنعك أن تسجد؟ قال: لا نسجد إلا لله , قال له النجاشي , وما ذاك؟ قال: " إن الله بعث فينا رسوله , وهو الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم: {برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6] فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة , وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر " , قال: فأعجب النجاشي قوله....
قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم

فتأمل القول الذي كرره جعفر رضي الله عنه: " لا نسجد إلا لله" الدال أتم الدلالة على الحصر الجامع بين النفي والإثبات للدلالة القاطعة على توحيد الله وإفراده بالسجود.

وتأمل تعليل جعفر رضي الله عنه بعدم السجود للنجاشي بقوله: "فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا" وهذا من فقهه وفهمه الثاقب رضي الله عنه أن السجود الغير مأمور به أو مأذون فيه لغير الله وإن كان على سبيل التحية شرك في عبادة الله ينقض التوحيد الذي جائت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يتعلل بمجرد التحريم.

وجاء في معنى تعليل جعفر عن عائشة : رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له ، فقال أصحابه : يا رسول الله سجدت لك البهائم والشجر ، فنحن أحق أن نسجد لك قال : « اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم ، فإنه لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد ، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أسود إلى جبل أحمر ، ومن جبل أحمر إلى جبل أسود ، لكان نولها أن تفعل ».

قلت: رواه الآجري في الشريعة والإمام أحمد في مسنده وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف روى له مسلم مقروناً وقد تفرد بهذا الحديث بهذه السياقة وباقي رجاله رجال الشيخين في رواية أحمد في مسنده.

والسجود يتضمن غاية الحب وغاية الذل والتعظيم والخضوع والتذلل والانكسار والتأليه والعبادة للمسجود له فإن كان السجود لغير الله مأموراً به من الله أو مأذوناً فيه فُرِّغَ هذا السجود من هذا المحتوى والمضمون وانصرف لمعنى التكريم والتوقير للمسجود له من دون الله لا غير.

قال تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) البقرة

قال الطبري في تفسيره: حدثنا به بشر بن معاذ: قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم"، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَد له ملائكته.
قلت إسناده صحيح وقد مر الكلام على هذا الإسناد
قال تعالى: ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) يوسف

وقال الطبري في تفسيره: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (وخروا له سجّدًا) وكانت تحية من قبلكم، كان بها يحيِّي بعضهم بعضًا، فأعطى الله هذه الأمة السلام، تحية أهل الجنة، كرامةً من الله تبارك وتعالى عجّلها لهم، ونعمة منه.

قلت: وإسناده صحيح كسابقه.

وسجود الملائكة لآدم سجود بأمر الله وسجود إخوة يوسف لأخيهم سجود بإذن الله أما السجود الذي بغير أمر الله ولا إذنه فهو شرك

فقد روى ابن ماجة في سننه بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟» قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ، فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا، وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ».

وفي الحديث صيغة متضمنة للنفي والإثبات وهي دالة دلالة آكدة على الحصر وهي قوله صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا".

قال الشوكاني في نيل الأوطار: وفي هذا الحديث دليل على أن من سجد جاهلا لغير الله لم يكفر.

قلت: فمن سجد لغير الله بقصد التحية ظنا منه أن ذلك جائز في شرع الله بين له أنه محرم في شرع الله غير مأذون به فسجوده لغير الله بغير أمر أو إذن شرك وتأليه للمسجود له وصرف لحق من حقوق الله لغير الله وهذا ممنوع في هذه الشريعة بل وغيرها من الشرائع فبطل الاستدلال بما جاز في شرائع سابقة من تجويز للسجود لغير الله تحية إذ إنه يتضمن قياس المأمور به والمأذون فيه بالممنوع عنه وهو قياس فاسد الاعتبار من كل وجه.
ولم يكن في شرع من قبلنا سجود لغير مأذون بالسجود له أو مأمور بالسجود له.
فمن سجد لغير مأذون بالسجود له أو مأمور بالسجود له فقد خرج عن شرعنا وعن شرع من قبلنا بسجوده لمن لم يأذن له أن يسجد له فتأمل.
وقياس الشعيرة الغير مأذون بها أو المأمور بها يشبه قياس قتل المشركين أبنائهم سفها بغير علم بفعل نبي الله إبراهيم عليه السلام في شأن ذبح ولده إسماعيل عليه السلام وهو قياس فاسد الاعتبار من كل وجه.
قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) الأنعام

وقال تعالى: ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) الصافات

فالصورة وإن كان بها شيء من الاتحاد في الظاهر إلا أن التباين حاصل في موجبات الفعل ودوافعه وأسبابه ومقتضياته المبنية على حصول الإذن أو الأمر من عدمه.

وهذا أمر له نظائره الكثيرة في الشرع أذكر منها:
1. شعائر الحج ومنها الطواف والسعي والوقوف ورمي الجمار وغيرها
قال تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة

قلت: والشعائر مصدرها شعار وهو العَلَمُ بمعنى ان الشعائر المأذون بها معالم ومظاهر للعبودية لله وما ليس فيه إذن فليس من مظاهر العبودية له فما بالك إن توجه به لغير الله تعالى بغير إذن من الله فإنه والحالة هذه يكون علما ومظهرا من مظاهر العبودية لغير الله تعالى بلا ريب

وجاء في لسان العرب: والشَّعِيرة البدنة المُهْداةُ سميت بذلك لأَنه يؤثر فيها بالعلامات والجمع شعائر وشِعارُ الحج مناسكه وعلاماته وآثاره وأَعماله جمع شَعيرَة وكل ما جعل عَلَماً لطاعة الله عز وجل كالوقوف والطواف والسعي والرمي والذبح وغير ذلك. أهـ


2. التمسح والتبرك والاستلام للأحجار والأشجار وغيرها
فإن التمسح بحد ذاته يتضمن اعتقاد المنفعة بالمتمسح به من حجر أو شجر أو بشر وفي شرعنا شيء مأذون فيه من هذا الضرب كاستلام الركن اليماني واستلام الحجر الأسود وتقبيله فهذه كلها لما صار مأذونا فيها تفرغت من تضمن اعتقاد المنفعة بذاتها وصارت شعيرة من شعائر الله ومظهرا من مظاهر الخضوع والعبودية لله وبذا يتبين وجه قول الفاروق رضي الله عنه وأرضاه حين قبل الحجر الأسود.

ففي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: «إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك».

أما التمسح أو التبرك بغير ما أذن فيه شرعا فهو شرك لا ينفك عن تضمن اعتقاد ذاتية النفع والضر بالمتمسح به.

فقد صح عند ابن حبان وغيره عن أبي واقد الليثي يقول: لما افتتح رسول الله مكة، خرج بنا معه قبل هوازن، حتى مررنا على سدرة الكفار: سدرة يعكفون حولها، ويدعونها ذات أنواط، قلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم لتركبن سنن من قبلكم".

فتأمل كيف أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يقرهم على هذا الطلب بل عده شركا محضا لما فيه من مشابهة المشركين في فعلهم الذي مبناه على الخروج عن أمر الله وإذنه.

وتأمل أن سؤالهم يتضمن معرفتهم أن هذا الأمر لا يكون شركاً إن صدر فيه الأمر أو الإذن من الشارع.

ومعلوم أن هذه الشريعة مبنية على البراءة من المشركين بل ومخالفتهم وأن الشعائر لا تكون بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم ان نوافق أهل الإشراك بشعائرهم فهذا وجه خطأهم

أما سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم فعل شعيرة لا توافق فعل المشركين فقد جاء في قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]

فعن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، " وافقت ربي في ثلاث: فقلت يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125]. الحديث. رواه البخاري في صحيحه

وفي حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ .... وفيه: ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ - وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ.. الحديث

3. التشريع والطاعة

فإن تشريع الأحكام والأمر والنهي يتضمن العبودية للمشرع والإذعان والطاعة لأمره ومنه ما هو مأذون فيه كإذن الله للرسل بأن تطيعهم أقوامهم وتذعن لأمرهم إذ إن الطاعة لما تكون بإذن الله يتفرغ منها معنى العبودية للمطاع بل ينصرف معنى العبودية لمن أذن وأمر بها

وتأمل قول الله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) النساء

فتأمل كيف قدم الإذن من الله بطاعة الرسول على تقرير نفي الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ليفهم أن مبنى التحكيم على الإذن من الله تعالى لا على وجه الاستقلال فبذا يتبين الفرق في هذه المسائل.

وتأمل قول الله تعالى عندما عد من اتخذ مشرعين من دون الله بغير إذنه مشركين حيث قال في كتابه العزيز: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) الشورى

فالتشريع بغير إذن من الله لا ينفك عنه مضمون العبودية والإذعان للمشرع وهذا خلاف ما إذا كان بإذن الله أو أمره

وتأمل كيف أن مجرد طاعة المشركين في التحليل والتحريم عدها الله تعالى شركا به إذ إنها طاعة في خلاف امر الله ولغير مأذون له ان يطاع

قال تعالى: ( وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) الأنعام

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " أَتَى أُنَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118]- إِلَى قَوْلِهِ - {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}. سنن الترمذي

وتأمل كيف أن من شرعت طاعته لا يطاع في معصية الله تعالى ففي الصحيحين عن علي رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف».



4. طلب الشفاعة

فالشفاعة أيضا منها ما هو مأذون فيه ومنها ما هو شرك منهي عنه فما كان منها بإذن الله فهي محمودة وغير متضمنة لاعتقاد الحكم والملك والإلهية للمشفع

أما ما كان منها شرك فهو متضمن لاعتقاد استقلال الشافع بالحكم والقضاء في ملك الله جل وعلا

قال تعالى: ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) الزمر

والضابط فيها أن من توجه بها بالدعاء للمشفع الغائب فهو شرك غير مأذون فيه

وما كان منها مأذونا فيه قاصر على طلبها ممن يملكها على وجه الانفراد وهو الله تعالى وحده لا شريك له

قال الله تعالى: ( ... مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ... (255) البقرة
وقال الله عز وجل: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) النجم

فالله تعالى هو الشافع الذي تطلب منه الشفاعة والمخلوق ممن أذن الله تعالى له بالشفاعة هو المشفع والمشركون اتخذوا المخلوق شافعاً وغفلوا عن هذا الفرق بين الامرين


5. ادعاء القدرة على الخلق أو الإحياء أو الإماتة أو الشفاء أو الإتيان بالآيات

فما كان فيها مأذونا به من الله فهو غير متضمن للإلهية أو الربوبية وما كان فيها غير مأذون به ففيه استقلال بالألوهية وادعاء للشراكة في قدرة الله تعالى وفعله
فتأمل قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:

( وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) آل عمران

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) الرعد

وقوله تعالى: ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) إبراهيم

وتأمل قوله تعالى فيمن كانت منه مجرد دعوى القدرة على الإحياء والإماتة:

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

ولاحظ أن الله تعالى نعته بالكفر إذ أنه كفر بالوحدانية أي وحدانية الله وتفرده بالإحياء والإماتة وتفرده بالامر والإذن لمن شائه من خلقه أن يحيي ويميت

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) آل عمران

فتأمل ورود الإذن في هذا كله وتأمل النكير والحكم بالإشراك على من خلا عن الإذن في هذه المسائل كلها وما في معناها ينكشف لك سر المسألة.

فالتحقيق أن ماورد فيه الإذن أو الأمر فهو سجود تحية وتكريم وما لم يرد فيه إذن ولا أمر فهو سجود تأله وعبادة فيبين لفاعله حكمه فإن اصر عليه حكم عليه بالشرك الاكبر ولا كرامة.

فمجرد السجود ومجرد إلتزام الطاعة ومجرد التشريع ومجرد التمسح والتبرك وفعل الشعائر التعبدية من غير إذن أو أمر من الله تعالى لا يكون إلا عبادة لمن قصد بها من دون اللع تعال وهو شرك يناقض التوحيد من كل وجه ولا ينفك عنه تضمن العبودية لغير الله تعالى.

وقد نهى الله تعالى في هذه الشريعة المطهرة عن الشرك أكبره وأصغره وخفيه وسد ذرائعه وحرم أسبابه المفضية إليه صونا لشأن التوحيد ورحمة ببني البشر أن يقعوا في الشرك فيخسروا أولاهم وأخراهم ومن ذلك ما جاء في شأن السجود وسد ذرائع الشرك في ذلك فمنه:

1. النهي الوارد في القرآن الكريم عن السجود للشمس والقمر اللذان هما من أعظم المخلوقات التي تراها عيون البشر.
قال تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فصلت
وقال الله تعالى في شأن الهدهد: ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) النمل
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:

فحدث الهدهد، سليمان عليه السلام، بما رآهم يفعلونه من السجود لغير الله، والسجود نوع من أنواع العبادة؛ فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرف الهدهد ; فأنكروه، وعرفوا الإخلاص فالتزموه؛ وبالله التوفيق، وسبحان من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه، وأضل من شاء عنه، بعلمه وحكمته وعدله. [الدرر السنية في الأجوبة النجدية]

2. نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا» ، قَالَتْ: وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. متفق عليه

وعن عائشة أم المؤمنين، أن أم حبيبة، وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة». متفق عليه

قلت: فأي وعيد أشد وأي وصف أشنع من كون من اتخذ القبر مسجداً يعبد فيه الله من شرار الخلق عند الله يوم القيامة ناهيك عن اللعن الذي ورد في الحديث الذي قبله فكيف بمن سجد لغير الله تعالى؟

فهذا مما يؤكد أن السجود لغير الله تعالى من أبلغ الشرك وأكبره وأن فاعله من شرار الخلق على وجه الإطلاق.

قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء:
فَصْلٌ
الشِّرْكُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ

وَيَتْبَعُ هَذَا الشِّرْكَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَقْوَالِ، وَالْإِرَادَاتِ، وَالنِّيَّاتِ، فَالشِّرْكُ فِي الْأَفْعَالِ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِهِ، وَالطَّوَافِ بِغَيْرِ بَيْتِهِ، وَحَلْقِ الرَّأْسِ عُبُودِيَّةً وَخُضُوعًا لِغَيْرِهِ، وَتَقْبِيلِ الْأَحْجَارِ غَيْرِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ الَّذِي هُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، وَتَقْبِيلِ الْقُبُورِ وَاسْتِلَامِهَا، وَالسُّجُودِ لَهَا، وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ يُصَلِّي لِلَّهِ فِيهَا، فَكَيْفَ بِمَنِ اتَّخَذَ الْقُبُورَ أَوْثَانًا يَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ: «إِنَّ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» .

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» .

وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» .

وَقَالَ: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» .

وَقَالَ: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، كَانَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

فَهَذَا حَالُ مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ فِي مَسْجِدٍ عَلَى قَبْرٍ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ سَجَدَ لِلْقَبْرِ نَفْسِهِ؟

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» ، وَقَدْ حَمَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَانِبَ التَّوْحِيدِ أَعْظَمَ حِمَايَةٍ، حَتَّى نَهَى عَنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّشَبُّهِ بِعُبَّادِ الشَّمْسِ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهَا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.

وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ بِأَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ؛ لِاتِّصَالِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالْوَقْتَيْنِ اللَّذَيْنِ يَسْجُدُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِمَا لِلشَّمْسِ.
وَأَمَّا السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ» .
وَ " لَا يَنْبَغِي " فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ شَرْعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 92] .
وَقَوْلِهِ: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [سُورَةُ يس: 69] .
وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ - وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 210 - 211] .
وَقَوْلِهِ: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 18]. أهـ [الداء والدواء]

3. نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة لما في ذلك من التباس ومشابهة لفعل أهل الإشراك

عن أبى سعيد قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: « الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ». سنن أبي داود


4. نهيه صلى الله عليه وسلم أن يسجد له على وجه التحية والتكريم

عن قيسِ بنِ سعد، قال: أتيتُ الحِيرةَ فرأيتُهم يسجدون لِمرْزُبانٍ لهم، فقلتُ: رسولُ الله أحقُّ أن يُسجدَ له، قال: فأتيتُ النبي صلَّى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيتُ الحِيرَةَ فرأيتُهم يَسجُدُونَ لمرزبانٍ لَهُمْ، فأنت يا رسولَ الله أحقُّ أن نسجُدَ لك، قال: "أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ تَسجُدُ له؟ " قال: قلت: لا، قال: "فلا تَفْعَلُوا، لو كنتُ آمراً أحداً أن يَسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ النِّساءَ أن يسجُدْنَ لأزواجِهِنَّ، لِمَا جَعَل الله لهم عليهنَّ من الحق". سنن أبي داود

قال الأمير الصنعاني: (لو كنت آمراً أحداً) باجتهاد أو بوحي. (أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن) لكن السجود لا يكون لأحد إلا الله لما جعل الله لهم عليهن من الحق، وفيه أن السجود أعظم أنواع التعظيم. [التنوير شرح الجامع الصغير]

5. نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في وقت الكراهة معللا ذلك بمشابهة المشركين الذين يسجدون للشمس حال شروقها وحال غروبها
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَخْبِرْنِي عَمَّا عَلَّمَكَ اللهُ وَأَجْهَلُهُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ: «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ». صحيح مسلم

6. نهيه صلى الله عليه وسلم أن ينحني المسلم لتحية صديقه أو أخيه

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ». سنن الترمذي

7. نهيه صلى الله عليه وسلم عن قيام الناس على إمامهم في الصلاة حتى لا يشابهوا أهل الإشراك الذين يبالغون في تعظيم أئمتهم

عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: «إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ، وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا». صحيح مسلم وقد قال بعض أهل العلم بنسخ هذا الخبر

8. ذمه صلى الله عليه وسلم لمن يحب أن يمتثل الناس له قياماً

عن أبي مِجْلَز، قال: خَرَجَ معاويةُ على ابنِ الزبيرِ وابنِ عامر، فقام ابنُ عامر، وجلس ابنُ الزبير، فقال معاويةُ لابن عامر: اجلس، فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أحَب أن يَمْثُلَ له الرِّجَالُ قِياماً، فَلْيَتَبوَّأ مقعدَه مِن النَّارِ". سنن أبي داود

قلت: أما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في صون حمى التوحيد وسد ذرائع الشرك مطلقاً فكثير جداً لا تتسع له هذه الوريقات وقد بسطت فيه القول في رسالة أبواب الشرك وذرائعه بفضل من الله ومنه وكرمه

ولإن جائت كل هذه النصوص لسد أي ذريعة للسجود لغير الله تعالى فكيف بمن يتسور كل هذه السدود ويتجاوز كل هذه الموانع وينتهك كل هذه الحرمات فيسوغ لنفسه السجود لغير الله تحت أي ذريعة أو ادعاء فمثل هذا لا يفعله إلا على وجه التجوز والاعتقاد عياذ بالله تعالى وقد ذكرت أن من الأفعال والأقوال ما لا يكون إلا اعتقاداً بذاته واستحلالا بمجرده كسب الله عياذا بالله أو تشريع حكم يضاد حكم الله وكذا السجود لغير الله تعالى.

قال ابن القيم في زاد المعاد:

وَأَشْرَفُ الْعُبُودِيَّةِ عُبُودِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَاسَمَهَا الشَّيُوخُ وَالْمُتَشَبِّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْجَبَابِرَةُ، فَأَخَذَ الشَّيُوخُ مِنْهَا أَشْرَفَ مَا فِيهَا، وَهُوَ السَّجُودُ، وَأَخَذَ الْمُتَشَبِّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ مِنْهَا الرُّكُوعَ، فَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا رَكَعَ له كما يركع المصلي لربه سواء وَأَخَذَ الْجَبَابِرَةُ مِنْهُمُ الْقِيَامَ، فَيَقُومُ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ على رؤوسهم عُبُودِيَّةً لَهُمْ، وَهُمْ جُلُوسٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، فَتَعَاطِيهَا مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لَهُ، فَنَهَى عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ» . وَأَنْكَرَ عَلَى معاذ لَمَّا سَجَدَ لَهُ وَقَالَ: «مَهْ».

وَتَحْرِيمُ هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ دِينِهِ بِالضَّرُورَةِ، وَتَجْوِيزُ مَنْ جَوَّزَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ مُرَاغَمَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيَّةِ، فَإِذَا جَوَّزَ هَذَا الْمُشْرِكُ هَذَا النَّوْعَ لِلْبَشَرِ، فَقَدْ جَوَّزَ الْعُبُودِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: «لا» . قيل أيلتزمه ويقبلّه قَالَ: «لَا» . قِيلَ أَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ «نَعَمْ».

وَأَيْضًا: فَالِانْحِنَاءُ عِنْدَ التَّحِيَّةِ سُجُودٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً أَيْ مُنْحَنِينَ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ الدَّخُولُ عَلَى الْجِبَاهِ، وَصَحَّ عَنْهُ النَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ، وَهُوَ جَالِسٌ، كَمَا تُعَظِّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، حَتَّى مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا صَلَّى جَالِسًا أَنْ يُصَلُّوا جُلُوسًا، وَهُمْ أَصِحَّاءُ لَا عُذْرَ لَهُمْ، لِئَلَّا يَقُومُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ جَالِسٌ، مَعَ أَنَّ قِيَامَهُمْ لِلَّهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْقِيَامُ تَعْظِيمًا وَعُبُودِيَّةً لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ النُّفُوسَ الْجَاهِلَةَ الضَّالَّةَ أَسْقَطَتْ عُبُودِيَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَشْرَكَتْ فِيهَا مَنْ تُعَظِّمُهُ مِنَ الْخَلْقِ، فَسَجَدَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَرَكَعَتْ لَهُ، وَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قِيَامَ الصَّلَاةِ، وَحَلَفَتْ بِغَيْرِهِ، وَنَذَرَتْ لغيره، وحلقت لغيره، وذبحت لغيره، وطافت بغير بَيْتِهِ وَعَظَّمَتْهُ بِالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالطَّاعَةِ، كَمَا يُعَظَّمُ الْخَالِقُ، بَلْ أَشَدُّ، وَسَوَّتْ مَنْ تَعْبُدُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُضَادُّونَ لِدَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَهُمُ الَّذِينَ بِرَبَّهِمْ يَعْدِلُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ- وَهُمْ فِي النَّارِ مَعَ آلِهَتِهِمْ يخصمون ( تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ).

وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ).

هذا كُلُّهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَاللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. أهـ

قلت: وجاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
عَمَّنْ يَبُوسُ الْأَرْضَ دَائِمًا هَلْ يَأْثَمُ؟ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَبَبِ أَخْذِ رِزْقٍ وَهُوَ مُكْرَهٌ كَذَلِكَ؟
فَأَجَابَ: أَمَّا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ وَرَفْعُ الرَّأْسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ السُّجُودُ مِمَّا يُفْعَلُ قُدَّامَ بَعْضِ الشُّيُوخِ وَبَعْضِ الْمُلُوكِ: فَلَا يَجُوزُ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ الِانْحِنَاءُ كَالرُّكُوعِ أَيْضًا كَمَا {قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا} {وَلَمَّا رَجَعَ مُعَاذٌ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَيَذْكُرُونَ ذَلِكَ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ. فَقَالَ: كَذَبُوا عَلَيْهِمْ لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ أَجْلِ حَقِّهِ عَلَيْهَا يَا مُعَاذُ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ} . وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَمَنْ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا قُرْبَةً وَتَدَيُّنًا فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِينِ وَلَا قُرْبَةٍ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.

وَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَأَفْضَى إلَى ضَرْبِهِ أَوْ حَبْسِهِ أَوْ أَخْذِ مَالِهِ أَوْ قَطْعِ رِزْقِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ يُبِيحُ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ وَيَحْرِصَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ يُعَافَى بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِذَلِكَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُبِيحُ إلَّا الْأَقْوَالَ دُونَ الْأَفْعَالِ: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ قَالُوا إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ.
وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ فُضُولِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ فَلَا وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى مَثَلِ ذَلِكَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْخُضُوعَ لِلَّهِ تَعَالَى: كَانَ حَسَنًا مِثْلَ أَنْ يَكْرَهَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَيَنْوِيَ مَعْنًى جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مجموعة الفتاوى لابن تيمية
والذي يظهر من كلامه رحمه الله أنه يتحدث عن فعل يتضمن شكل السجود أو الانحناء وإن لم يقصد به فعل السجود صراحة وهو يشبه ما يفعله بعض الابناء في هذا الزمان مع آبائهم من تقبيل اليد ووضعها على الجبين احتراما وتوقيرا للآباء وهو فعل يتضمن شكل من أشكال السجود من غير قصد لفعل السجود لذا فحكمه التحريم ولا يبلغ الشرك.

والسائل كان يتحدث عن تقبيل الأرض وشيخ الإسلام بين وجه التحريم أنه يتضمن شكل السجود لا قصد فعله ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام آخر يبين فيه ان من تقصد فعل السجود لغير الله فقد أشرك ولم يعرج على قصد الفاعل أو نيته حيث قال رحمه الله:

فأمَّا ما يُسمِّيه كثيرٌ من الناس زيارةً هي من جنس الإشراكِ بالله وعبادة غيرهِ، مثل السجود لبعض المقابر التي يُقال إنها من قبور الأنبياء والصالحين وأهل البيت أو غيرهم ويسمُّونها المشاهد، أو الاستعانة بالمقبور ودعائِه ومسألتِه قريبًا من قبره أو بعيدًا منه، مثل ما يفعل كثير من الناس.

فهذا كلُّه من أعظم المحرَّمات بإجماع المسلمين، وهو من جنس الإشراك بالله تعالى، فإن المسلمين متفقون على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يدعوَ أحدًا ويتوكَلَ عليه ويرغبَ إليه في المغفرة والرحمةِ وتفريج الكُرباتِ وإعطاءِ الطلباتِ إلا الله وحده لا شريك له، ولا يسجد لغَيرِ الله لا لحيٍّ ولا لميّتٍ، حتى إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أمتَه عن اتخاذ القبور مساجدَ لئلاّ يُفضِي ذلك إلى الشرك.

ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال قبل أن يموتَ بخمسٍ: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، إلا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك".

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحذر ما فَعَلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا.

وفي الصحيحين أيضًا أنّ أم سلمة وأم حبيبة ذكرتَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كنيسةً رأينَها بأرض الحبشة، وذكرتَا حُسنَها وتصاويرَ فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن أولئك إذا ماتَ فيهم الرجل الصالح بَنَوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شرُّ الخلق عند الله يوم القيامة".

وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إنّ من شِرار الناس مَن تُدرِكهم الساعةُ وهم أحياءٌ، الذين يتخذون القبور مساجد".
وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لَعن الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُجَ". رواه أهل السنن ، وصححه الترمذي أو حسَّنَه.

فلَعَن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يتخذ القبور مساجد ويُسرج عليها سُرُجًا كالشمع والقناديل ونحو ذلك، مثل ما يفعله كثير من الناس، وهذا ما اتفقَ عليه أهلُ العلم، فلم يتنازعوا في أنَّ ذلك غيرُ مشروع، بل يُنهَى عنه. أهـ [جامع المسائل لابن تيمية]

فقصد فعل السجود الغير مأذون به بمجرده شعيرة من شعائر العبودية للمسجود له فلا يفرق بين من فعله تدينا أو من فعله على وجه التوقير والتكريم إلا من حيث اعتبار قصد من جهل حكم التحريم فيبين له أن السجود مختص لله تعالى غير مأذون به لغيره فإن لم ينته عنه فقد زال عذره بالجهل فلم يبق سوى إيقاع حكم الشرك على من فعله ويفرق بين ذلك وبين ما تضمن شكلا من أشكال السجود ولم يقصد فاعله السجود فهذا محرم منهي عنه لا يبلغ حد الشرك بالله تعالى.

فهاهنا أربع صور لمسألة السجود لغير الله:

1. من سجد لغير الله عبادة للمسجود له فهذا شرك أكبر لتضمنه معنى العبادة وشكلها.

2. من سجد لغير الله تحية بأمر من الله أو إذن منه تعالى فهذه عبادة وطاعة لله وتحية وتكرمة لمن أمره الله بالسجود له.

3. من سجد لغير الله تعالى تحية من غير أمر أو إذن من الله تعالى فهذا شرك أكبر إذ إنه تضمن شكلا من أشكال العبادة فمن فعله عالماً بتحريمه فقد أشرك شركاً أكبر أما معنى العبادة فهو ملازم لفعله ولا يلتفت إلى قصده بعد بلوغه التحريم فالقصد قصدان كما هو مقرر عند أهل السنة وهما قصد الكفر وقصد الفعل المكفر فمن قصد الفعل المكفر كفر بعد اجتماع الشروط وانتفاء الموانع.


4. من فعل فعلاً يتضمن أحد أشكال السجود لغير الله من غير قصد السجود أو العبادة لمن صرفه له كوضع اليد على الجبين أو تقبيل الأرض أو تقبيل القدمين فهذا محرم لا يبلغ حد الإشراك وفعله لم يتضمن قصد الشرك ولا قصد فعله لكن ينهى عن فعله لما جاء من عموم النهي عن السجود لغير الله سداً لذريعة الوصول لتقصد السجود لغير الله تعالى وحسما لمادة الشرك بالله عز وجل.

هذا والله تعالى أعلم وأحكم فإن أصبت فيما حررته وحققته فمن الله تعالى وحده فله الحمد والثناء والمنة وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان فأسأل الله العفو والغفران وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله صحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أبو يعقوب يوسف بن أحمد سمرين 8/رمضان/1435 هـ