ولــــــيس بعـــــامر بنــــــيان قـــــــــوم اذا أخــــلا قـــهـــم كـــا نــت خـــــر ابا
لا يمكن لأى حضارة أن تقوم دون سند أو رصيد من قيم وأخلاق.. ولا يمكن أن تنال أمة عزة أو شرفاً أو مكانة إلا إذا كان حظها ونصيبها من الأخلاق عظيماً.. وقد عبر «شوقى» عن ذلك فى بيته المشهور عن الأخلاق بقوله: «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، وقد أكد هذا المعنى فى كثير من روائع قصائده.. مثل قوله: وإذا أصيب القوم فى أخلاقهم.. فأقم عليهم مأتما وعويلا»، وقوله: «وما السلاح لقوم كل عدتهم.. حتى يكونوا من الأخلاق فى أهب»، وقوله: «على الأخلاق خطوا الملك وابنوا.. فليس وراءها للعز ركن»، وقوله: «وليس بعامر بنيان قوم.. إذا أخلاقهم كانت خرابا»، وقوله: «المجد والشرف الرفيع صحيفة.. جعلت لها الأخلاق كالعنوان».وقد كان النبى محمد، صل الله عليه وسلم، على الذروة فى مكارم الأخلاق.. ولا عجب فى ذلك فقد مدحه المولى تعالى بقوله: «وإنك لعلى خلق عظيم».. وقال عن نفسه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».. من ذلك وفاؤه، صل الله عليه وسلم، بالعهود والعقود، مصداقا لقوله تعالى: «وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم» (النحل: ٩١)، وقوله: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا» (الإسراء: ٣٤)، وقوله: «أوفوا بالعقود» (المائدة: ١).. وقد تجلى ذلك فى حياته كلها، مع أهل بيته وأصحابه.. حتى مع أعدائه.. فقد عقد صلى الله عليه سلم صلحا تاريخيا، هو «صلح الحديبية»، مع قريش فى العام السادس للهجرة، وكان من بنوده أن من جاء من قريش مسلما ليلحق بالرسول فى المدينة فإنه يرد إلى مكة ثانية، ومن أراد أن يرتد من المسلمين فى المدينة ويعود إلى مكة لا يمنعه المسلمون من ذلك.. وقد رأى الصحابة فى هذا إجحافا شديدا، حتى إن عمر رضى الله عنه قال: «أولسنا على الحق يا رسول الله؟ قال: بلى.. قال عمر: فلِمَ نُعطى الدنية فى ديننا»؟! والتزاما بما تم الاتفاق عليه قام النبى، صل الله عليه وسلم، بتسليم شابين مسلمين إلى أهلهما المشركين، ولما يجف المداد الذى كتبت به وثيقة الصلح، بالرغم من أنهما سوف يعودان إلى العسف والقهر والتعذيب على يد زبانية قريش.. وقد ذكر البخارى فى صحيحه قصتهما؛ قصة أبى بصير (عتبة بن أسيد الزهرى)، وقصة أبى جندل بن سهيل بن عمرو، وهذا الأخير هو الذى أبرم وثيقة الصلح مع النبى، صل الله عليه وسلم، نيابة عن قريش، ومن العجيب أنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.فى قصة أبى بصير دروس وعظات وعبر.. إذ بعد أن تسلمه حارسان من قريش ليعودا به مقيداً إلى مكة، احتال أبوبصير على أحدهما ليعطيه سيفه، فلما أخذه هوى به عليه فقتله، وانطلق يطارد الآخر الذى فر هاربا إلى المدينة.. حين وصلها أبوبصير، دخل على النبى، صل الله عليه وسلم، وهو فى المسجد، وقص عليه ما حدث.. ثم قال: يارسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك.. أسلمتنى بيد القوم، وقد امتنعت بدينى أن أفتن فيه أو يعبث بى.. فلم يكرهه النبى، صلى الله عليه وسلم، على العودة إلى مكة، لكنه لم يسمح له بالبقاء والإقامة فى المدينة، حيث يناقض ذلك اتفاقية «الحديبية»، وقال له: «اذهب حيث شئت»، [السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٥١].. ولما طلب أبوبصير من النبى، صلى الله عليه وسلم، اعتبار سَلَب الحارس المشرك المقتول وبعيره غنيمة حرب، فيخمسها كما تخمس الغنائم، رفض النبى، صل الله عليه وسلم، ذلك وقال: «شانك بسلب صاحبك».. ثم أردف قائلا: «ويل أمه، مسعر حرب لو كان معه رجال» [تاريخ الطبرى ج ٢ ص ٦٣٩].هذا مثل من السيرة المطهرة نسوقه لكل إنسان فالنبى، صل الله عليه وسلم، كان حريصا على أن يضرب المثل والقدوة فى الالتزام بالعهود، حتى فى أشد المواقف حرجا، إلا أن ينقض الطرف الآخر عهده.. ثم هو ينأى بنفسه، وبمن معه من المسلمين، أن يكونوا موضع شبهة بالنسبة للاتفاقية المبرمة بينه وبين أعدائه.. كما أنه، صل الله عليه وسلم، لم يجامل واحدا من أتباعه على حسابها، رغم شروطها المجحفة.. وهكذا يجب أن تكون القيادة.. إنه من الضرورى والحتمى على مستوى القيادة والمؤسسة والمجتمع أن يسود خلق الالتزام بالعهود والمواثيق، حتى وإن كانت كلمات غير مكتوبة، وألا يستهان بذلك، وإلا ضاعت هيبة القيادة والمؤسسة وانعدمت الثقة فيهما، وتحللت الروابط بين الناس على المستوى المجتمعى العام، فلا أحد يصدق أحدا، ولا أحد لديه استعداد للتفاهم أو التحاور أو التعاون مع الآخر، وبالتالى نجد أنفسنا أمام مجتمع مفكك، مشرذم، متصدع، بل متناحر أيضا.. مثل هذا المجتمع لا يمكن أن يستقيم له أمر، فضلا عن أن يشهد نهضة أو رقيا أو تقدما.

هـــــــــمـــــســٍـــــ ــه

قف ﻋِﻨْد ﺍﻷﺟْﻤَﻞ ..
وﺘَﺠَﺎﻫَﻞ ﺍﻟﺴَﺨِﻴﻒ .. ﻭَ ﻤَﺰِﻕ
السَّيِّئِ


والسلام عليكم.
اخوكم ابو خاااااااالد