سراب
[align=right]لاذت بغرفتها من جديد, حيث عالمها السحري, اعتدلت في جلستها, وضعت فنجان القهوة على الطاولة بعد أن ارتشفت منه القليل..حملت القلم بين يديها فضاعت بين دروبه..
انهمرت الكلمات, سال نهر الأحرف سيلاناً جارفاً فجرفها لأقصي مداه.. أحست بذاتها تتلاشى لتغرق في بحور وسماوات.. هي الآن نجمة في كبد الأفق.. نسمة مع ذرات الهواء.. ساحت بعيدا.. هامت على وجهها في ملكوت الطبيعة و الكون.. تبحث لا تدري عم ولم ولا كيف تبدأ, كل ما تدريه أن شيئا ما ينتظرها على تلك الربوة.. على حافتها الحادة يوجد شيء طالما انتظرها وطالما نقبت عنه..
أخدت رشفات أخرى من فنجان قهوتها المرة وعادت لتغير الورقة المتخمة بالبياض..أنغرزت من جديد بين الأسطر تتأمل الأطلال.. وتتمعن في القصور..
قصور هي شيدتها لبنة لبنة.. لكن لم تعد تخصها لوحدها فقد جادت بها على الكل, كل من هب يتطلع وكل من دب يسكن ويستكين.
فاجأتها رفقة من حيث لا تدري:
- ما أنت؟
-أنا الفارس المغوار.
- وماتريد؟
- أريد حماية قصورك.. جودي علي بقصر فأحوله لك لجنة تكونين مليكته.
- لا أحب أن أصير ملكة قصر, أحب أن أغدو فراشة..
- فراشة ؟ لن تستطيعي.
- ولم لا؟
لا إجابة.
- أترغبين أن تصيري نبضة؟ تعالي أسكني قلبي وأنتِ ستكونين نبضاته..
- أحب الأماكن الرحبة.. وأعاني رهاب الأماكن الضيقة.
- مقلبي واسع رحب هو بحجم الكون لن تحسي فيه ضيق.
تعالي .. ارتشفي أنفاسي وستعلمين أن هواء حياتك لم يزد عن كونه زاد ليحميك من النوم الأبدي
بينما هواء أنفاسي سيجعلك تعيشين.
- راقصني..
- سأراقصك وعند كل رقصة أسمعك كلمات تموج في أذنك تنساب في عروقك... تحتفي معها دماؤك... وفي نهاية المطاف يخطفها قلبك لمجاله فتسكنه للأبد.
- وما الكلمات؟
- كلمات تناطح الوجود.. وترقى للاوجود.. تتحدى المعقول.. وتسمى للامعقول.
سأختار لكِ من مجموعتي موسيقى تتمرد على الضجيج.
- أحب الصمت.
- لايوجد شيء اسمه صمت..دوما هناك كلام..حين تسكت الأفواه تتحدث الطبيعة.. وحين ننأى عن الطبيعة نتحدث وذاتنا.. نحن دوما في حديث مستمر وكلام طويل لا ينقطع.
- أجل صحيح.. أنا غالبا أحادث نفسي .. لكن قل لي من أنت؟
- أنا؟ أنا نفسك.. أنا جزء منك.. أسكن شقك الأيسر أنا من انتظرتكِ أبد الدهر.
- هل تحبني؟
- أحيانا هناك كلمات لا تفي المشاعر حقها.. نحس أنها عاجزة .. كسيحة..
لما لا نخلق معجم خاص بنا يفيها ويعبر عنها بدقة؟
- تعال إلى الطبيعة.. تأملها وستحس أنك مستغن عن أي كلام.. فهي تنطق بلا لسان.
- سأفعل.. سأغزو خطواتك .. أضع يدي في يديك وننطلق للأفق.. نطير مع الأسراب.. نلعب وكثبان الثلج.. نتلذذ وطعم الشمس..نحتسي جرعات النسمات.. نموج مع خيوط الغروب نتأمل صفحته اللامعة وهي تنعكس على المحيط فتتلألأ لها المياه..
- سآخدك من تحث دراعك.
- راقصني.. وأبعدني لهناك لمساءٍ وردي.. لمنظر الشروق.
راقصني.. وخدني ريشة تتحكم بها الترنيمات.
راقصني .. وانقشني رسمة تتأملها العيون لسنون وقرون.
راقصني واجعلني فراشة تهفو مع أول همسة.
راقصني وابني لي عالم ساحر ..عالم آسر.. عالم عاجي..كاسر
رممه لي أكون سيدته .. أميرته .. مليكته.. حتى لو كان عالم وهم أو سراب.
رن جرس المنبه فأخرجها من بين ذرات الأوراق ليرميها على طاولتها مقطوعة الأنفاس..ارتشفت آخر رشفة من فنحان قهوتها المرة.. أحستها باردة.. فزادتها البرودة مرارة.. وضعت القلم والأوراق.. تأملت وجهها في المرآة لبرهة, تحسست بشرتها وآثار السنين المحفورة عليها ..توجهت صوب فراشها ..خلدت للنوم ولازالت آثار المرارة تقبع في فمها .. تنتقل عبر مسامها.. لتحيط بقلبها..جذبت وسادة وضعتها على رأسها .. واستسلمت .. لطقوس الانتظار..
,[/align]