البخيل
اصطحبني أبو فضيل – يرحمه الله – في زيارة قسرية إلى بيت أحد زملاء الدراسة ، وكنت قد التقيته في مسجد الحي في صلاة الظهر ، سألني بأسلوبه الساخر : هل وراءك شيء ؟ قلت ( وبطريقته ) : ورائي جدار المسجد يا أبا فضيل . قال : دع عنك المزاح جانباً وأجبني : هل وقتك يسمح لأمر جلل سأقوم به الآن ، فتناصرني وتشدَّ أزري وتساعدني على تحقيقه ؟ قلت : جُعلت فداك ، فمقامك عندي يجعلني أمتثل لأوامرك ، وأكون رهن إشارتك ، وطوع أوامرك .. ولكن ما الأمر الجلل الذي تنوي فعله وترغب في منحي شرف المشاركة فيه ؟ هل ستزور مريضاً ؟ هل ستعين محتاجاً ؟ هل ستدفع خطراً محدقاً بأحد الأصحاب ؟ هل .. قال : أنتم أيها الأدباء ما أخصب خيالكم وما أغزره ! وما أكثر هلهلاتكم ! الأمر بسيط غاية البساطة . قلت : لكنك تقول : جللاً ؟ قال : نعم ، لأن الهدف المنشود مستعصٍ عليَّ كثيراً .. قلت : أي هدف وأي استعصاء ؟ قال : على رسلك يا مروان ، فلو أمهلتني لحظات لأوضحت لك الخطة . قلت : أمعركة هي حتى ترسم لها خطط الهجوم والدفاع والمناورة والكمائن والكرِّ والفرِّ ؟ قال : هي كذلك . سنقوم بغزوٍ غير مسلح لأحد أصدقائنا . ضحكت ملء شدقي ، وقلت : من تعيس الحظ هذا الذي تهمُّ بغزوه ؟ قال : صديقنا غياث .. ضحكت ثانية أكثر من ضحكتي الأولى ، لأنه مجرد نطقه باسم الهدف انكشفت لي الأمور ، فصديقنا هذا من أسرة ثرية جداً لكنه شبيه بعيسى صاحب ابن الرومي الذي قال فيه يوما :
يقتِّر عيسى على نفسه ......... وليس بباقِ و لا خالد
ولو نال من فرط تقتيره ........ تنفس من منخرٍ واحد
قلت : لله درُّك يا أبا فضيل ، كم لك من أفكار شيطانية ؟ اعفني من شرف الصحبة هذه واسمح لي أن أعود إلى البيت سالماً من الأذى ، محافظاً على أعصابي ، فأنا لا أحب المغامرة ، ولم أعتد منازلة أمثال صاحبك هذا ..
قال : يا رجل ، ما عهدتك جبانا تفرُّ من تحدي الصعاب .
قلت : الناس تخرج من المسجد خاشعة خاضعة خابتة هادئة .. وأنت ..
قاطعني : لقد رأيته هذا الصباح في السوق ، وعاتبني على قلة زيارتي له ، ووعدته بأن أصل الحبال المنقطعة ، وأنا أريد أن ألبي رغبته ..
قلت : لكن الوقت غير مناسب ، والساعة ساعة طعام وخلود إلى الراحة ، ولا أريد أن أكون ضيفاً ثقيلاً ، إن شئت فاذهب بنفسك .
وعبثاً حاولت مع أبي فضيل ، لكنه أمسك بي ومنعني من الانصراف ، وكأنه يبحث عن مناصرٍ يقف معه في ميدان المعركة ، أو شاهد يوثِّق انتصاره هذا ..
وتبعت الصاحب الساحب ، وما هي إلا لحظات ، حتى كنا عند باب بيت غياث ...
تقدم صاحبي ولمس جرس الباب لمسة حانية ، وانتظرنا عدة دقائق ننتظر أثر هذه اللمسة ، لكن دون جدوى ، قلت : (( وكفى الله المؤمنين القتال )) صاحبنا خارج الدار ، هلمَّ بنا نقفل راجعين .. لم يكترث لكلامي واتجه نحو الباب ليودع الجرس لمسة أخرى ورمقني بنظرة استياء مما قلت وتمتم : من السنة : قرع الباب ثلاثاً ، تبسمت لفقه أبي فضيل ، ونظرت إلى الباب متمنياً أن تبوء اللمسات كلها بالفشل .
انبعث من خلف الباب صوت نسائي : من الطارق ؟ وعلى الفور قال صاحبي : مروان .. قلت : ويحك ، لم ذكرت اسمي ولم تذكر اسمك ؟ قال : هذه هي واحدة من خطة الهجوم ، فأنت لست من أبناء حينا ، ولم تقم بزيارته قيل اليوم ، وهذا يعطيه الأمان ويسارع لفتح الباب على اعتقاد منه بأنك أتيته لأمر طارئ يسهل عليه الفكاك منه ، وغاب الصوت دقائق أخرى ثم سمعنا حسيس نعل قادم ، فقال رفيقي : لقد وقعت الفريسة في المصيدة .
فتح غياث الباب مبتسماً مرحباً ثم ما لبثت الابتسامة أن تلاشت عندما وقع نظره على المهاجم العتيد ، واصطنع البهجة والسرور ، ورحب بنا وسأل عن أحوالنا وأخبارنا وأمورنا و.. ونحن نقول له : بخير والحمد لله . واسترسل في أسئلته الباردة لبضع دقائق ولم يدعنا لدخول البيت ، ولما نفذ صبر المحارب الصنديد ، قال له : يا رجل ، أهكذا تستقبلون ضيوفكم على عتبات الدار ؟ أين الشهامة العربية ، والنخوة الحاتمية ؟ إن كنت لا تستحي مني لأنني جارك وابن حيك ، فاحترم هذا – وأشار إلي – فإنه أول مرة يزورك فيها .. تلعثم قليلاً وقال : أتنوون الدخول ؟ حاولت أن أجيب لكن أبا فضيل كان أسرع مني فقال : فما الذي جاء بنا إذن ؟ فقال : لحظات وأعود إليكم .
ومرت اللحظات الطوال ، ولم يرجع إلينا ، فقلت : يا صاحبي لا تكن ثقيلاً ، هيا بنا نقفل راجعين ، فالخصم رفع الراية البيضاء ، وفرَّ من ساحة المعركة و.. قال : الصبر مفتاح الفرج ، تريَّثْ قليلاً لنرى ..
فُتح لنا الباب بعد هذا الصبر المرير ، وسُمح لنا بالدخول فدخلنا فإذا الدار شبيهة بقصور السلاطين .. في غرفة من غرف القصر جلسنا ، وغاب غياث دقائق ليبدل ملابسه حسب قوانين وأعراف هذه الأسر .
سألني القنَّاصة الساحب : أرأيت عبق الطبيخ المنتشر في ردهات البيت ؟ قلت : بل شممته ، قال : ما عساه يكون ؟ قلت : ليكن ما يكون ، لقد ضاقت نفسي بما رأيت وأريد الانصراف ، قال : وتفر قبل بداية المعركة ؟ قلت : نعم ، قال : والغنائم ؟ قلت : لا أظن أنها ستكون ذات قيمة عالية وإني متنازل لك عنها ..
ودخل صاحبنا في شكله الرسمي ورحب ثانية وسألنا عن سبب الزيارة ، فابتدرت الحديث : كنت في حيكم والتقيت أبا فضيل فذكر لي أنه رآك صباحاً ، فأحببت السؤال عنك لا أكثر ولا أقل ، وقد رأيتك بخير والحمد لله فاسمح لنا بالانصراف .
قال : قبل أن نقوم بحق الضيافة ؟ هذا مستحيل ، وبمكر الثعالب قال : صاحبي : لعل الوقت غير مناسب ، وأنتم تستعدون للغداء و .. وقرع الباب ، ودخل الخادم بأكواب العصير، ولما فرغنا من شربه وشكرته على حسن الضيافة ، قال مرافقي : أنتم تشربون العصير قبل الغداء أم بعده ؟
كان السؤال صعباً غيَّر لون وجه المضيف ، فقال : نعم ، لم أفهم ، ماذا تقصد ؟ قلت : لا شيء ، قال أبو فضيل وبشيء من الفظاظة : بل أقصد ، هل تناولتم غداءكم أم لا ؟ قال : نعم ، لا ، الطعام يحتاج إلى وقت طويل حتى ينضج ، وما أظن أن وقتكم يسمح ، وإلا تشرفنا بمشاركتكم لنا غداءنا و.. وعلى الفور أجاب الغازي : نحن خصصنا يومنا هذا كله لك ، وشوقنا إليك يدفعنا لمجالستك حتى المساء ...
وقع الغياث بين براثن الأسد ، ولم يستطع الخلاص منه ، ورحب بنا مفتعلاً الرضى ، وداخله يلعن اليوم الذي تعرف به علينا ، وجلسنا وجلس ، وتحدثنا وتحدث ، وكان يخرج مراراً ويغيب فترة ليست بالقصيرة ، وكل مرة يعود فيها إلينا كنا نتفاءل بالفرج ، لكنه دخل قبل أذان العصر دخلته الأخيرة وقد بدا على وجهه علامات الكدر والحزن ، وبيده طبق من البيض المقلي وبعض قطع الخبز ، وأقسم لنا قائلاً : بصراحة ، ما في البيت طبيخ ، ونزولاً عند رغبتكم قمت بعمل البيض لكم بنفسي
حتى لا تظنون بي البخل ، تفضلوا حياكم الله .
للأستاذ: مروان قدري