بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا ريب ان يوم عرفة يوم عظيم من ايام الله المباركة , ومجمع كبير من مجامع الخير والايمان والتقوي , وموسم رحب جليل من مواسم الطاعة والعبادة ,يوم تكثر فيه العبرات , وتتوالي فيه الدعوات ,وتتنزل فيه الرحمات , و تقال فيه العثرات , وتغفر فيه الزلات , يوم رجاء وخشوع , وذل وخضوع , انه يوم كريم مبارك , لم تطلع الشمس علي يوم افضل منه , قد خص بمزايا كريمة , وخصائص عظيمة , وصفات جليلة , ليس من اليسر حصرها , ولا من الممكن استقصاؤها .
انه اليوم الذي اكمل الله فيه لهذه الامة الدين , واتم فيه لهم النعمة , اذ فيه نزل قول الله تعالي : ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ) , ولم ينزل بعدها حلال و لا حرام .
روي البخاري ومسلم عن طارق بن شهاب قال : (( جاء رجل من اليهود الي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا امير المؤمنين , انكم تقرؤون اية في كتابكم , لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا , قال : واي اية ؟ قال قوله ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ) , فقال عمر : والله اني لاعلم اليوم الذي نزلت فيه علي رسول الله صلي الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيه علي رسول الله صلي الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة .
وفي هذا اليوم الكريم المبارك يكثر عتقاء الله من النار , ويجود فيه علي عباده المؤمنين ,ويباهي بهم ملائكته المقربين , روي مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلي الله عليه وسلم قال : ( ما من يوم اكثر من ان يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة , وانه ليدنو ثم يباهي بهم الكلائكة , فيقول مااراد هؤلاء ) , قال ابن عبدالبر رحمه الله : (( وهذا يدل علي انهم مغفور لهم , لانه لا يباهي باهل الخطايا والذنوب الا من بعد التوبة والغفران )) .
وروي الامام احمد في مسنده عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما , عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (( ان الله تعالي يباهي ملائكته عشية عرفة باهل عرفة , يقول : انظروا الي عبادي اتوني شعثا غبرا )) .
قال الامام ابن القيم رحمه الله في ميميته الشهيرة:
فلله ذاك الموقف الاعظم كموقف يوم العرض بل ذاك اعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي بهم املاكه فهو اكرم
يقول : عبادي قد اتوني محبة واني بهم اجود وارحم
فاشهدكم اني قد غفرت ذنوبهم واعطيتهم ما املوه وانعم
فبشراكم يااهل ذا الموقف الذي به يغفر الله الذنوب ويرحم
وقف الفضيل بن عياض رحمه الله بعرفة فنظر الي نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة فقال : ((ارايتم لو ان هؤلاء صاروا الي رجل فسالوه دانقا اكان يردهم ؟ قالوا لا , قال : والله للمغفرة عندالله اهون من اجابة رجل لهم بدانق )) .
ولهذا فانه ينبغي للمسلم الراغب في الربح والمغنم في هذا اليوم المبارك ان يكون مخبتا لربه سبحانه , متواضعا له , خاضعا لجنابه , منكسرا بين يديه , يرجو رحمته ومغفرته , يخاف عذابه ومقته , تائبا اليه من كل ذنب اكتسبه يداه , وكل خطيئة مشت اليها قدماه , غير مضيع لوقته في هذاالموقف العظيم بالذهاب هنا وهناك , او بالحديث مع هذا وذاك , بل يكون مقبلا علي ربه ومولاه , مكثرا من الذكر والدعاء والاستغفار والتضرع , وقد ثبت في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال : (( خير الدعاء دعاء يوم عرفة,وخير ما قلته انا والنبيون من قبلي : لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير ,فيوم عرفة يوم الدعاء , وافضل الذكر لا اله الا الله , فكان صلي الله عليه وسلم يكثر من افضل الذكر في افضل الايام , لان سيد الايام هو يوم عرفة , وسيد الاذكار هو لا اله الا الله فالاكثار من سيد الاذكار في سيد الايام هو في غاية المناسبة والتوافق .
ان لا اله الا الله هذه الكلمة العظيمة التي كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يكثر من قولها في يوم عرفة هي افضل الكلمات , واجلها علي الاطلاق , وهي العروة الوثقي وكلمة التقوي ومفتاح دار السعادة , واصل الدين واساسه وراس امره لاجلها قامت الارض والسموات , وخلقت الخليقة وارسلت الرسل وانزلت الكتب , وفضائل هذه الكلمة وموقعها من الدين فوق ما يصفه الواصفون ويعرفه العارفون , بل لها من الفضائل والمزايا ما لايخطر ببال , و لايدور في خيال , لكن يجب علي المسلم ان يعلم ان لااله الا الله لا تقبل من قائلها بمجرد نطقه لها بلسانه فقط دون قيام منه بحقها وفرضها ,ودون استيفاء لاسسها وشروطها , فليست لااله الا الله اسما لا معني له ,او قولا لا حقيقة له , او لفظا لا مضمون له , بل ان لهذه الكلمة العظيمة مدلولا لابد من فهمه , ومعني لابد من ضبطه , وغاية لابد من تحقيقها , اذ غير نافع باجماع اهل العلم النطق بهذه الكلمةمن غير فهم لمعناها , ولا عمل بما تقتضيه , كما قال الله تعالي : ( ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة الا من شهد بالحق وهم يعلمون ) , اي الا من شهد بلا اله الا الله وهم يعلمون بقلوبهم معني ما شهدوا به بالسنتهم .
وهذا و لاشك امر في غاية الاهمية يجدر بكل مسلم ان يعني به غاية العناية , ويهتم به تمام الاهتمام , اذ ان لا اله الا الله لا تنفع الا من عرف مدلولها نفيا واثباتا , واعتقد بذلك وعمل به , اما من قالها وعمل بها بها ظاهرا من غير اعتقاد فهو المنافق , وامامن قالها وعمل بضدها وخلافها من الشرك فهو الكافر , وكذلك من قالها وارتد عن الاسلام بانكار شي من لوزامها وحقوقها فانها لا تنفعه ولو قالها الف مرة , وكذلك من قالها وهو يصرف انواعا من العبادة لغير الله كان يدعو غير الله او يستغيث بغيره او يطلب من غيره المدد والعون والنصر فيما لا يقدر عليه الا الله ونحو ذلك , فمن صرف مما لايصلح الا لله من العبادات لغير الله فهو المشرك بالله العظيم , ولو نطق بلا اله الله , اذ ان هذه الكلمة العظيمة تعني اخلاص العبادة كلها لله وعدم الاشراك به , والاقبال علي الله وحده لا شريك له خضوعا وتذللا وطمعا ورغبا , وانابة وتوكلا ودعاء وطلبا , فصاحب لا اله الا اللهلا يسال الا الله , ولا يستغيث الا بالله , ولا يتوكل الا علي الله و لايرجو غير الله و لايذبح الا لله , ولا يصرف شيئا من العبادة لغير الله , ويكفر بجميع ما يعبد من دون الله , يبرا الي الله من ذلك .
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعفو عنا وعن كاتبه وناقله وقارئه والعامل به[/color]