أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


حوار مع فضيلة الشيخ العلامة القاضي عبدالرحمن عبدالله بكير
د. فارس العزاوي


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه:
في رحاب بيته، وفي مجلسه التراثي البسيط، والمعبِّر عن كل ما يمكن تلَمُّسه من فرائد الفوائد، وخبايا الزَّوايا العِلميَّة والدَّعوية ومجهولات التَّاريخ والأدب والشِّعر، كانت لنا جلسةٌ ثريَّة من حيث مضمونُها شيِّقة، من حيث أجواؤها جريئة، من حيث طرحُها مع فضيلة الشيخ العلاَّمة القاضي عبدالرحمن عبدالله بكير، عضو هيئة الإفتاء بالجمهوريَّة اليمنيَّة، والمستشار القضائي بحضر موت، وأبرز علمائها المعروفين، وقد تجاوَزْنا في بداية حوارنا الحديثَ عن الجانب الشخصيِّ للشيخ عبدالرحمن من حيث سيرتُه، ومراحل حياته الاجتماعيَّة.

س1: ما أهم المفاصل العلمية والدعوية التي مر بها الشيخ عبدالرحمن بكير؟
ج: لعلَّكم تعرفون أنَّ مُحدِّثكم لم يمرَّ بِمَراحل معيَّنة ذات تأثيرٍ كبير في العلم، وإنَّما شأنه شأن طلَبة العلم في ذلك الزَّمان، حيث تتلمذَ على والده، ثم على يد غيره من علماء حضر موت، وهم مشهورون سواءٌ كانوا في السَّاحل أو الداخل، في الأربطة أو المساجد بالدَّرجة الأولى، ثم المدارس العلميَّة، وعن هؤلاء وأولئك استطعنا أن نسير معهم وبهم، ولله الحمد كانت لنا حصيلةٌ لا نمنُّ على الله بها، وإنَّما نمتَنُّ بها، ونسأل الله الثَّبات واللُّطف.

س2: هل هناك ما يمكن أن يسمَّى بمدرسة حضر موت في الفقه؟
ج: لحضر موت ماضٍ وهو غير الحاضر، وكان للحَضارِم صولاتٌ وجولات، أمَّا اليوم فالعلم قد هزل والنفسيَّات قد تغيَّرت، ومن يريد أن يتكلَّم عن العلم اليوم فليس حاله اليوم بأفضل من حاله بالأمس، ولكن على المرء أن يقدِّم مجهوده، ولا شكَّ أنَّ كلمة المجهود غامضةٌ من حيث هي، فالزمان غير الزمان، والعلماء غير العلماء، والمناخ الذي يعيش فيه النَّاس قد تغيَّر سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا، كل هذا يَفْرض علينا رؤيةً مغايرة لِمَا عليه النَّاس في الزَّمن الماضي.

س3: لكنْ شيخَنا هل يُمكِن أن يُقال: إنَّ حضر موت كانت فيها مدرسةٌ في الفِقْه على الأقلِّ في بدايات القرن العشرين أو النِّصف الأوَّل منه؟
ج: كانت في حضر موت مدارس، وليست مدرسةً واحدة، وقد مرَّت حضر موت بِمَراحل اجتهاديَّة تؤصِّل للعلم، فحينما نسمع عن زمان العلاَّمة عبدالله عمر بامخرمة، ونُسأل عن العلاَّمة بحرق، وغيرهما، لا يمكن إلاَّ أن نقف عندهم بإجلالٍ وإكبار، بل نَقول: كانت هناك عالِمات حضرميَّات قبل أن نقول: عُلَماء حضارم يُقرِئن الفقه، وهنَّ يحرِّكن المهد، لم نكن نعيش جهالة، وإنَّما جهلتنا أوضاع خاصَّة عِشْناها، قد يكون للعلماء دخلٌ فيها، وقد لا يكون، ولعلَّ من الصُّور السلبيَّة التي عاشتها حضر موت أنَّ الحلقات العلميَّة كانت حصرًا لبعض العائلات دون غيرهم.

س4: المتتبِّع لتاريخ حضر موت العلميِّ يجد أنَّ الجانب العلميَّ كان مقتصرًا على الفقه دون غيره من العلوم، فلماذا غابت الجوانب الأخرى؟ أو لماذا لم تظهر بصورةٍ جليَّة؟
ج: ظهرَ مِن العلوم الفقه، وعندما نقول: الفقه، فيُراد به: علوم الفقه، والحقيقة أنَّ هناك عوامِلَ أمْلَت الاهتمام بالفقه دون غيره من العلوم؛ منها المراحل التاريخيَّة التي انتشرَتْ فيها علوم الفرق المنحرفة؛ كالإباضيَّة والرَّافضة، ثم ما يمكن تلَمُّسه في المراحل اللاَّحقة أنَّ العلم تم احتكاره لفئاتٍ دون أخرى، وهذا الاحتِكار كانتْ له آثارُه السلبيَّة في سيادة الفقه دون غيره مِن العلوم، ولا تخفى في ذلك الدَّوافعُ السياسية والشخصيَّة في التأثير على الجانب العلميِّ.

وخلاصة القول: إنَّ هناك عواملَ داخليَّة، وأخرى خارجيَّة، غلَّبَت الفقه على غيره.

س5: شيخَنا، في سؤالٍ متَّصل بسابقه، لَم نقف في تاريخ حضر موت المعاصر على ما يمكن وصْفُه بالعالِم الموسوعيِّ الذي يحيط بالعلوم الشرعيَّة كشأن المُتقدِّمين من العلماء؛ كالإمام النَّووي وغيره؟
ج: الحقيقة هذا الوصف موجودٌ بحضر موت، إلاَّ أنه بدرجاتٍ أدنى مِمَّا وصفت من أولئك العلماء، ولعلَّ ذلك كان داخلاً في إطار العوامل التي قلَّلَت من محاولات الاجتهاد العلميِّ، ولكن هذا كله لا يمنع من القول: إنَّ للحضرميِّ نظرتَه العلميَّة ذات البعد المتنوِّع، فقهًا وحديثًا وأصولاً... إلخ، لكن مع الأسف في المراحل الأخيرة غلبَتْ علينا عقليَّة التقليد في كلِّ مفاصل حياتنا العلميَّة، ولا تخفى أيضًا عقلية التَّصنيف، في إطار سؤال: أنت مع مَن؟!

س6: ذكرتُم في كتابكم: "المسائل المختارة" أنَّ المدرسة الفقهية الشافعيَّة، وخاصَّة في معتمَدِ المذهب الشافعيِّ عند المتأخِّرين قد قصرت عن حاجات النَّاس في آخر الوقت، وخاصَّة في خمسينيَّات وستينيَّات القرن الماضي، وما بعدها حين استجدَّت نوازل لم يستطع المذهب أن يجد حلولاً لها، فذكرتُم أنَّ كثيرًا من العلماء، وخاصَّة المعاصرين منهم خرجوا عن معتمَد المذهب، ودخَلوا في إطار القول المرجوح في المذهب، بل خرَجوا عن المذهب نفسه إلى مذاهب أخرى، فهل هذا يمثِّل قُصُورًا في المذهب؛ بِحَيث لم يستطع الإحاطةَ بالوقائع المستحدَثة بسبب غلبة التَّقليد عند أهله وغياب الرُّؤية الاجتهاديَّة؟
ج: الواقع أنَّ قواعدَ المذهب وأصولَه قادرةٌ على الإحاطة بالوقائع والنَّوازل المستحدَثة؛ بدليل أنَّ المذهب يقوم على أصول معلومة متَّفق عليها؛ كالكتاب والسُّنة والإجماع والقياس وغيرها، ومعلومٌ أنَّ هناك مسلكَ تخريج الأقوال عند علماء المذهب، كما هو معروفٌ عند أصحاب الأقوال المخرجة مِمَّا يُسمَّى عند الشافعية بأصحاب الوجوه، إلاَّ أن الخلل يَكْمن في غياب القدرة الاجتهاديَّة والاستيعابية لدى العلماء المتأخِّرين؛ بسبب سيادة عقليَّة التقليد، وقد ساعدَتْ على ذلك الطَّريقة التي تُدار فيها حلقات العلم؛ حيث يتمُّ فيها التلقين إلى الدَّرجة التي تجعل الطَّالب إمَّعة، إلاَّ أن هذا لا يَمْنع من الإشارة إلى بعض الرُّموز الاجتهادية التي برزَتْ بحضر موت المعاصرة؛ كالسيد عبدالرحمن بن عبيدالله، والعلاَّمة أبي بكر الخطيب.

س7: هل معنى هذا أن يُقال: إنَّ المدرسة الحضرميَّة قد غابَتْ عنها الرُّؤية الاجتهادية؟
ج: كلاَّ، بل كان مفروضًا علينا أن نقول بقول فُلان، ولا نَقول بقول فلانٍ آخَر؛ بِمَعنى أنَّ الاجتهاد كان موجودًا بالقوَّة عند بعض العلماء دون أن يتجسَّد ذلك بالفعل؛ لِمَوانع وعوائق بسببها لا يَسْتطيعون إظهار مسالك الاجتهاد، أبرز هذه الموانع: التقليد لطائفةٍ معيَّنة شكَّلَت رؤيةً خاصة بها، وقصدت تعميمها على غيرها.

س8: هل نستطيع أن نُطْلِق على جهود الشيخ العلاَّمة عبدالله عوض بكير أنَّها مدرسة فقهيَّة بحدِّ ذاتها؟ وإذا كان الأمرُ كذلك فما هو أثَرُها عليك؟
ج: من جهة الأثر الذي لمستُه ولمسَه غيري قد قيل عندما أُسنِدَت رئاسة القضاء إلى الشيخ عبدالله بكير وهو منظورٌ إليه في ذلك الوقت من بَعْض الجهات أنَّه رجلٌ صاحِبُ شطحات - حسب تعبيرهم - وعِنْده اجتهاداتٌ مُخالِفة؛ لأنَّ زمام الأمر لَم يكن بيد الأَخْيار أصحاب المنهج السَّليم، فمَثلاً تولَّى القضاء العلاَّمة باحريش وهو من قُضاة حضر موت المُعاصرين، قيل: إنَّه قضى مسمومًا؛ لأنَّ البعض لَم يكن راضيًا عن اختياراته وأحكامه، والحقُّ أنَّ الجهد الذي قدَّمَه الشيخ عبدالله عوض بكير يَشْهد له المُخالِف قبل المُوافق، وأنا أذكر حينما أتى أحَدُ المُستشرِقين المتخصِّصين في الفقه إلى حضر موت وقد التَقى بكثيرٍ من علماء حضر موت قال: إنَّ أبرز علماء حضر موت - ساحلها وداخلها - العلاَّمة عبدالله بكير والسيد محسن بونمي.

س9: لقد أبرزْتُم للواقع العلميِّ والدعوي جملةً من كتبكم الثَّمينة والمؤثِّرة حسب ظَنِّنا، فما هو أقرب كتبكم إليكم؟
ج: الحقيقة لا يُوجد شيءٌ أقرب وأبعد، وإنَّما هي آراء اجتهاديَّة انتهَجْناها كما انتهجَها مَن سبَقَنا من العلماء.

س10: النَّاظر في كتبكم يجد تنوُّعًا في الطَّرح والمنهجيَّة، وهذا يشكِّل براعةً في التأليف، ويُجسِّد ثروةً علميَّة تحصَّل عليها الشيخ عبدالرحمن خلال حياته العلميَّة، فتارةً يحقِّق، وتارة يؤلِّف، وتارة يَشْرح، وتارة يؤرِّخ، فما هو سبب هذا التنوُّع؟
ج: في الواقع هذا حُسْن ظن منكم، وإنَّما شأننا أن نتتبَّع أقوال العلماء وحَسْب.

س11: شيخَنا في كتابكم: "قراءات في تاريخ حضر موت" انتهَجْتُم منهجيَّة مُغايِرة، تختلف عمَّا عليه علماء حضر موت، حيث أنزلتُم نصَّ الظِّلال على واقع حضر موت، فهل هناك تَوافق في رأيكم بين هذا النصِّ وبين واقع حضرموت؟
ج: إنه واقعٌ أملاه الوضع الذي نعيشه، وقد قصدتُ تلَمُّس الهدى في الطريق من غير تقليدٍ لأحد.

س12: هل يُمكن أن نطلق على الشيخ عبدالله عوض بكير وصف التَّجديد؟
ج: نعم، في جانبٍ مِن الجوانب؛ كالقضاء، من خلال إصلاحه لنظام القضاء، وكذلك مَواقفه في إنكار المنكَر والأمر بالمعروف، بغضِّ النَّظر عن الجهة التي يُنكِر عليها.

س13: انفردَ الشيخ عبدالرحمن بكير عن بقيَّة علماء حضر موت بأنَّه كان ثريًّا في الكتابة، بينما نجد أن الأغلب لَم تكن له آثارٌ في التَّصنيف والتأليف، وإن كانت لهم آثارٌ في التَّدريس والدَّعوة، فما هو سبب انفِراده؟
ج: رُبَّما كانت للشيخ عبدالرحمن جرأةٌ في بعض الجوانب العِلميَّة، وإن كان غير مؤهَّل لها، فالله المُستَعان.

س14: مِن كُتب الشيخ عبدالرحمن بكير تحقيقٌ لكتاب شرح عماد الرضا للشيخ زكريا الأنصاري، ومختصر تشييد البنيان للسقاف، هل كان اختِيار هذين الكتابَيْن مقصودًا، أو أنه مجرَّد وقوف على المَخْطوطات ثم تحقيقها من باب الوجادة كما هو اصطِلاح العلماء؟
ج: الحقيقة لَم يكن مقصودًا الوقوف على هذه المخطوطات، وإنَّما أعجبَتْني أمثالُ هذه الكتب، وأعجبني كذلك اختيارُ ذلك الوقت لها.

س15: كتاب "مختصَر تشييد البنيان" الذي حقَّقه الشيخ عبدالرحمن قدَّمَ له مقدِّمةً ضافية، تميَّزَت عن مقدِّمات كتُبِه الأخرى، هل هذا دليلٌ على أنَّ للكتاب وصاحبِه مكانةً عند الشيخ عبدالرحمن؟
ج: الرَّجُل كان أقربَ إلى قلبي من كثيرٍ من المُؤلِّفين، وقد أثَّر فِيَّ ما قاله عن نفسه حينما كان يُعاني من شحة الكُتب والمَراجع؛ لِضَعف حالته الماديَّة، وقد قال مقولتَه المشهورة: مَن كانت كتبُه عاريةً، فعِلمُه عارية.

س 16: ما هي رؤيةُ الشَّيخ عبدالرحمن بكير للواقع العلميِّ والدَّعوي المعاصر؛ هل يَراه يُبشِّر بخيرٍ أم تَعْلوه نظرةٌ تشاؤميَّة؟
ج: في الحقيقة الواقع العلمي والدعوي متأزم، وقد انعكس هذا الواقع على مواقف العلماء وطلبة العلم أو من يوصفون بالعلماء، والوصف ليس حقيقًا بهم، ولذلك نقول: إن أزمة واقعنا هي أزمة النخب العلمية أولاً، وعلى العلماء ومن تصدى للعلم أن يقولوا كلمة الحق، وألا يخافوا في الله لومة لائم.

في ختام هذا اللِّقاء، نَشْكر لفضيلة الشيخ عبدالرحمن عبدالله بكير حُسْنَ إفادته وسعَة صدره في الإجابة على الأسئلة، ونسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يمدَّ في عمره ويمتِّع به، وصلَّى الله على سيِّدنا ونبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/39477#ixzz25xZWHsUW