بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ( منهاج السنة النبوية ) ( الجزء 4 – الصفحة 189 – 192)
(( قال الخليل بن أحمد : كل متمرد عند العرب شيطان .
وفي اشتقاقه قولان :
1- أصحهما : أنه من ( شطن ، يشطن ) : إذا بعد عن الخير ، والنون أصلية ، قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان عليه السلام :
أيما شاطن عصاه عكاه = ثم يلقى في السجن والأغلال
عكاه : أوثقه .
وقال النابغة :
نأت بسعاد عنك نوى شطون = فبانت والفؤاد بها رهين
ولهذا قرنت به اللعنة ، فإن اللعنة هي البعد من الخير والشيطان بعيد من الخير ، فيكون وزنه ( فيعالا ) .
( وفيعال ) نظير ( فعّال ) : وهو من صفات المبالغة مثل : القيّام والقوّام .
فالقيّام : فيعال ، والقوّام : فعال .
ومثل العيّاذ والعوّاذ ، وفي قراءة عمر : ( الحي القيّام ) .
فالشيطان المتصف بصفة ثابتة قوية في كثرة البعد عن الخير ، بخلاف من بعد عنه مرة وقرب منه أخرى فإنه لا يكون شيطانا ، ومما يدل على ذلك قولهم : ( تشيطن ، يتشيطن ، شيطنة ) ولو كان من ( شاط يشيط ) لقيل : ( تشيّط ، يتشيّط ) .
2- والذي قال : هو من شاط يشيط : إذا احترق والتهب ، جعل النون زائدة ، وقال وزنه ( فعلان ) ، كما قال الشاعر :
قد نطعن العير في مكنون قائله = وقد يشيط على أرماحنا البطل
وهذا يصح في الاشتقاق الأكبر : الذي يعتبر فيه الاتفاق في جنس الحروف .
كما يروى عن أبي جعفر أنه قال : (( العامة مشتق من العمى ما رضى الله أن يشبههم بالأنعام حتى قال : (( بل هم أضل سبيلا )) ، وهذا كما يقال : ( السرّيّة مأخوذة من السر ) وهو النكاح ولو جرت على القياس لقيل : ( سريرة ) فإنها على وزن ( فعيلة ) ، ولكن العرب تعاقب بين الحرف المضاعف والمعتل كما يقولون : ( تقضى البازي وتقضض ) .
قال الشاعر : تقضى البازي إذا البازي كسر
ومنه قوله تعالى : (( فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه )) .
وهذه الهاء تحتمل أن تكون أصلية فجزمت بلم ويكون من ( سانهت ) .
وتحتمل أن تكون هاء السكت كالهاء من ( كتابيه ) ، ( وحسابيه ) ، ( واقتده ) ، ( وماليه ) ، ( وسلطانيه ) ، وأكثر القراء يثبتون الهاء وصلا ووقفا ، وحمزة والكسائي يحذفانها من الوصل هنا ومن ( اقتده ) فعلى قراءتهما يجب أن تكون هاء السكت ، فإن الأصلية لا تحذف فتكون لفظة ( لم يتسن ) كما تقول : ( لم يتغن ) وتكون مأخوذة من قولهم : ( تسنى ، يتسنى ) .
وعلى الاحتمال الآخر تكون من : ( تسنه ، يتسنه ) .
والمعنى واحد ، قال ابن قتيبة : أي لم يتغير بمر السنين عليه ، قال : واللفظ مأخوذ من ( السنه ) ، يقال : ( سانهت النخلة ) : إذا حملت عاما وحالت عاما ، فذكر ابن قتيبة لغة من جعل الهاء أصلية ، وفيها لغتان يقال : عاملته مسانهة ، ومساناة .
ومن الشواهد لما ذكره ابن قتيبة قول الشاعر :
فليست بسنهاء ولا رجبية= ولكن عرايا في السنين الجوائح
يمدح النخلة والمقصود مدح صاحبها بالجود ، فقال إنه يعريها لمن يأكل ثمرها لا يرجبها لتخلية ثمرها ولا هي بسنهاء .
والمفسرون من أهل اللغة يقولون في الآية : معناه لم يتغير ، وأما لغة من قال : إن أصله ( سنوة ) فهي مشهورة ، ولهذا يقال في جمعها ( سنوات ) .
ويشابهه في الاشتقاق الأكبر : ( الماء الآسن ) ، وهو المتغير المنتن .
ويشابهه في الاشتقاق الأصغر : ( الحمأ المسنون ) ، فإنه من ( سنّ ) يقال : ( سننت الحجر على الحجر ) إذا حككته والذي يسيل بينهما ( سنن ) ، ولا يكون إلا منتنا ، وهذا أصح من قول من يقول : ( المسنون المصبوب على سنة الوجه أو المصبوب المفرغ ) أي : أبدع صورة الإنسان فإن هذا إنما كان بعد أن خلق من الحمأ المسنون ، ونفس الحمأ لم يكن على صورة الإنسان ولا صورة وجه ولكن المراد المنتن .
فقوله : (( لم يتسنه )) بخلاف قوله : (( ماء غير آسن )) ، فإنه من قولهم : ( أسن ، يأسن ) فهذا من جنس الاشتقاق الأكبر لاشتراكهما في السين والنون والنون الأخرى والهمزة والهاء متقاربتان ، فإنهما حرفا حلق وهذا باب واسع .
والمقصود أن اللفظين إذا اشتركا في أكثر الحروف وتفاوتا في بعضها قيل أحدهما مشتق من الآخر وهو ( الاشتقاق الأكبر ) .
والأوسط : أن يشتركا في الحروف لا في ترتيبها كقول الكوفيين : الإسم مشتق من السمة .
والاشتقاق الأصغر الخاص : الاشتراك في الحروف وترتيبها وهو المشهور كقولك : ( علم ، يعلم ، فهو عالم ) .
وعلى هذا : فالشيطان : مشتق من ( شطن ) .
وعلى الإشتقاق الأكبر : هو من باب ( شاط ، يشيط ) ، لأنهما اشتركا في الشين والطاء ، والنون والياء متقاربتان )) . انتهـى كلامه رحمه الله تعالى .
والحمد لله رب العالمين .