تقدم ماشياً رويداً . . شارد الذهن . . ثقيل الخطوات كأنه يقتلعها من الأرض اقتلاعاً . . يتقدم تجاه الشمس . . وقرصها بدأ في الاحمرار أكثر فأكثر . .
ذاك يتقدم . . وهذا يتأخر . . ذاك يقترب منه . . هذا يبتعد عنه . . وكأني به يريد أن يحادثه بحديث ما يخصه في هذا الظرف الضيق الحرج . .
استمر في المسير ثم توقف وجال ببصره في الافق الرحب يميناً وشمالاً .. فأحس بقشعريرة أخذت تدب في جلده مما رآه ..
فالظلام بدأ يزحف بجيوشه قادماً من الشرق غازياً الغرب . .
رفع بصره فإذا بالطيور والحمام تتسابق إلى اعشاشها . . ثم ألقى ببصره إلى من حوله من الناس فإذا بهم يهرعون إلى بيوتهم ويقفلون من ورائهم أبوابهم . . حتى خشاش الأرض انطمرت فيها . .
ساد الصمت والسكون عندما انحسر الكلام . . وعندما أيقن أنه يلاحق الشمس وهي أمامه وأن جيش الظلام يزحف نحوه أرتعد وارتجف . .
يا إلهي ، هذه الشمس المرحقة اللاسعة . . هاهي الآن تضعف وتحمر . . بل وتسقط أمام هذا الغازي العاتي المكهفر . . هل سيغلبها ويقرها ويقطع خيوط شعاعها ويطمس ضياءها وزينتها ؟ . . إذاً فمن أين لنا بنور وضياء من دونها ؟! . . ثم إذا حدث وكان هذا فإلى متى سيبقى الظلام سائداً بجيوشه ؟ . . وإلى متى يبقى السواد يسود علينا ويعمي أبصارنا ؟ . . ومن الذي سيأتي بجيوش النصر ، وكتائب التبشير ليفرق جمعه ويبدد شمله ؟ . .
أم أنه ربما يعطف علينا ويودنافيمنحنا شيئاً من نوره اللامع البراق عوضاً عن حبيبتنا الشمس !! .. ولكن علمي فيه وفي أمثاله خلاف ذلك تماماً ، ما حدثنا أباؤنا ولا أجدادنا أن الظلام والنور والعتمة والظلام اجتمعا يوماً ما تحت سقفٍ واحد . .
ولا حتى في ابجدية حروفها ما اجتمع بينهما حرف واحد . . ولا صدقني خيالي بأن البياض والسواد قد تصالحا يوماً ولو على الورق . .
ويبنما هو في هذه المعادلة الصعبة جلس مكانه مستسلماً لما سينتظره من مصير محتوم . .
وما كاد يجلس حتى انتفض من مكانه كالمذعور مما سمع من نباح الكلاب وعويل السباع والذئاب . . . يا سبحان الله . . قبل وقت ليس بالطويل وفي زهوة الشمس وشبابها كانت زقزقة العصافير . . وتغاريد البلابل تشنف الاسماع وتطرب الآذان . . والآن . . نباح ونهيق وعويل . .
أهذه تباشير الليل . . وطلائع الظلام . . فكيف إذا بدامس الليل واسوداد الظلام ؟! . . كيف سيقضي الناس معاشهم وتسير أمورهم على ما ينبغي ؟ . . كيف سيفرقون بين الأخ والعدو ؟ . . وبين القريب والبعيد ؟ . .
ثم سأل نفسه : هل ثم من حل يسعى له لدحر هذا الغازي الكابح ورد كيده هو وجنوده ؟ . . أم انه ينتظر مع المنتظرين إلى أجل مسمى ؟ . .
وبينما هو في دوامة الأسئلة وبحر الاستفهامات انشق عنان السماء بكلمات الاذان صدع بها المؤذن في هذا الظلام البهيم مذكراً بحي على الفلاح . . الله أكبر . . ومنادياً بالاجتماع .. ومن بعده بتسوية الصفوف وتراصها . . ومن قبله بالتطهر والتأهب . .
نعم . . مع وجود هذا الغازي الدخيل وهذا الصائل العتيد بجيوشه وعدده وعدته الزاحفة يُرفع التكبير والتهليل ليكسر حواجب الصمت عنه والاذعان له . .
فعندها استدار خلف ظهره نحو مسجده ومن ورائه ذاك الغازي . . ولكن مع هذا انطلق كالسهم نحو مصلاه وهو يردد : حي على الصلاة . . حي على الفلاح . .
وهو في مسيره هذا المبارك غنم مغانم كثيرة . . . نعم . . لن يحكم اغلاق بيته فحسب وهو ضامر بداخله . . ولن يتخذ لنفسه حُجراً يواري فيه نفسه من هذا الجيش . . ولن يحيد بنفسه حتى يأتيه النصر من حيث لا يحتسب ! . . لا بل سيحكم اغلاق بيته ويحرسه من كل عابث وفاسد . . وسيوقد النيران العظيمة خارجاً لتحرسه . . ويشعل الشموع والمصابيح بداخله ليستنير بها . . سيدعو غيره ليتعاونوا معه لإيقاد نار عظيمة يقتبسون منها الشعل والشموع . .
نعم . . لا بد من فعل ذلك قبل فوات الأوان . . .
وما أن بدأ العدو يأخذ موقعه حتى بدأ هو في الجد والكد . . فأشعل ناراً عظيمة . . وأخذ يسلم لكل عظيم شمعة وشعلة . . فاقتبس العظماء من فعله المبارك . . فانخنس الظلام عن هذه القرية . . واندحر بعد أن لفحته قبسه من قبسات حبيبتنا الشمس . . وفرت الكلاب والسباع بنباحها وعويلها . .
وما هي إلا سويعات قليلة حتى انفجر الفجر من خلف أسوار الظلام يشرد به من خلفه . . والشمس تمده بما عندها من انغام الاذان . .
ومع قراءة الإمام { وَالْفَجْرِ . . . . } تشتت وتفرق وتلاشى مولي الدبر . . فعادت البسمة من جديد وأخذت الطيور في التغريد لميلاد يوم جديد . . . |1|