مقاله عن حياه الشيخ سيد قطب رحمه الله ....
معظم ما كُتب عن سيد قطب تَرَكَّزَ حول فكره وجهاده أو سجنه وتعذيبه وإعدامه، ولكنه لا يُلمّ بحياة هذا الشهيد وجوانبها الأدبية والإصلاحية، كما أنه يهمل فترة الضياع الروحي والصراع النفسي التي أعقبها انضمامه للحركة الإسلامية الإصلاحية، وتبنيه لقضية العدالة الإسلامية دون أن تعرف أن حياته سلسلة متصلة الحلقات لم تشهد تحولاً مفاجئًا أو تغييرًا غامضًا!
نشأة قروية
ولد سيد قطب مولدًا خاصة لأسرة شريفة في مجتمع قروي (صعيدي) في يوم 9/10/1906م بقرية موشا بمحافظة أسيوط، وهو الابن الأول لأمه بعد أخت تكبره بثلاث سنوات وأخ من أبيه غير شقيق يكبره بجيل كامل. وكانت أمه تعامله معاملة خاصة وتزوده بالنضوج والوعي حتى يحقق لها أملها في أن يكون متعلمًا مثل أخواله
كما كان أبوه راشدًا عاقلاً وعضوًا في لجنة الحزب الوطني وعميدًا لعائلته التي كانت ظاهرة الامتياز في القرية، واتصف بالوقار وحياة القلب، يضاف إلى ذلك أنه كان دَيِّنًا في سلوكه.
ولما كتب سيد قطب إهداء عن أبيه في كتابه "مشاهد القيامة في القرآن" قال: "لقد طبعتَ فيّ وأنا طفل صغير مخافة اليوم الآخر، ولم تعظني أو تزجرني، ولكنك كنت تعيش أمامي، واليوم الآخر ذكراه في ضميرك وعلى لسانك.. وإن صورتك المطبوعة في مُخيلتي ونحن نفرغ كل مساء من طعام العشاء، فتقرأ الفاتحة وتتوجه بها إلى روح أبيك في الدار الآخرة، ونحن أطفالك الصغار نتمتم مثلك بآيات منها متفرقات قبل أن نجيد حفظها كاملات".
وعندما خرج إلى المدرسة ظهرت صفة جديدة إلى جانب الثقة بالذات من أمه والمشاعر النبيلة من أبيه وكانت الإرادة القوية، ومن شواهدها حفظه القرآن الكريم كاملاً بدافع من نفسه في سن العاشرة؛ لأنه تعود ألا يفاخره أبناء الكتاتيب بعد إشاعة بأن المدرسة لم تعد تهتم بتحفيظ القرآن.
وفي فورة الإحساس والثقة بالنفس كان لظروف النضال السياسي والاجتماعي الممهدة لثورة 1919 أثر في تشبعه بحب الوطن، كما تأثر من الثورة بالإحساس بالاستقلال وحرية الإرادة، وكانت دارهم ندوة للرأي، شارك سيد قطب فيها بقراءة جريدة الحزب الوطني، ثم انتهى به الأمر إلى كتابة الخطب والأشعار وإلقائها على الناس في المجامع والمساجد.
الاستقرار في القاهرة
ذهب سيد قطب إلى القاهرة في سن الرابعة عشرة وضمن له القدر الإقامة عند أسرة واعية وجهته إلى التعليم وهي أسرة خاله الذي يعمل بالتدريس والصحافة، وكان لدى الفتى حرص شديد على التعلم
إلا أنه في القاهرة واجه عقبات محصته تمحيصًا شديدًا جعلته يخرج من الحياة برؤية محددة قضى نحبه –فيما بعد- من أجلها.
والتحق سيد قطب أولاً بإحدى مدارس المعلمين الأولية –مدرسة عبد العزيز- ولم يكد ينتهي من الدراسة بها حتى بلغت أحوال الأسرة درجة من السوء جعلته يتحمل المسئولية قبل أوانه، وتحولت مهمته إلى إنقاذ الأسرة من الضياع بدلاً من استعادة الثروة وإعادة المجد.
واضطر إلى العمل مدرسًا ابتدائيًا حتى يستعين بمرتبه في استكمال دراسته العليا من غير رعاية من أحد اللهم إلا نفسه وموروثاته القديمة. وكان هذا التغير سببًا في الاحتكاك المباشر بالمجتمع الذي كان لا بد له من أسلوب تعامل يختلف عن أسلوب القرويين وتجربتهم.
فالمجتمع الجديد الذي عاش فيه انقلبت فيه موازين الحياة في المدينة السليمة، وبدت في القاهرة سوءات الاحتلال الأجنبي ومفاسد السياسة؛ حيث سادت عوامل التمزق الطبقي والصراع الحزبي وغدت المنفعة وما يتبعها من الرياء والنفاق والمحسوبية هي الروح التي تسري، ويصف عبد الرحمن الرافعي هذا المجتمع بأنه "مجتمع انهارت فيه الثقافة العربية أمام الثقافة الغربية التي تؤمن بالغرب حتى بلغت في بعض الأحيان حد التطرف في الإيمان بالغرب وبمبادئه إيمانًا مطلقًا". فكيف يواجهها هذا الشاب الناشئ المحافظ الطموح؟
كانت صلته بهذا المجتمع صلة تعليم، ثم أصبح الآن مشاركًا فيه، وعليه أن يختار ما بين السكون والعزلة، وبالتالي عدم إكمال تعليمه أو الحركة والنشاط، واختار سيد قطب المواجهة مع ما ينبت معها من عناصر الإصرار والتحدي وعدم الرضا بهذا الواقع المؤلم.
ارتحال فكري
واختار سيد قطب حزب الوفد ليستأنس بقيادته في المواجهة، وكان يضم وقتذاك عباس محمود العقاد وزملاءه من كتاب الوفد، وارتفعت الصلة بينه وبين العقاد إلى درجة عالية من الإعجاب لما في أسلوب العقاد من قوة التفكير ودقة التغيير والروح الجديدة الناتجة عن الاتصال بالأدب الغربي.
ثم بلغ سيد قطب نهاية الشوط وتخرج في دار العلوم 1933 وعين موظفًا –كما أمل وأملت أمه معه- غير أن مرتبه كان ستة جنيهات ولم يرجع بذلك للأسرة ما فقدته من مركز ومال؛ فهو مدرس مغمور لا يكاد يكفي مرتبه إلى جانب ما تدره عليه مقالاته الصحفية القيام بأعباء الأسرة بالكامل.
وهذه الظروف التي حرمته من نعيم أسلافه منحته موهبة أدبية إلا أن الأساتذة من الأدباء –كما يصفهم- كانوا: "لم يروا إلا أنفسهم وأشخاصهم فلم يعد لديهم وقت للمريدين والتلاميذ، ولم تكن في أرواحهم نسمة تسع المريدين والتلاميذ" كل هذا أدى إلى اضطرابه وإحساسه بالضياع إلى درجة –وصفها الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه "مذكرات سائح من الشرق" انقطعت عندها كل صلة بينه وبين نشأته الأولى وتبخرت ثقافته الدينية الضئيلة وعقيدته الإسلامية" ولكن دون أن يندفع إلى الإلحاد، وكان دور العقاد حاسمًا في ذلك.
وانتقل سيد قطب إلى وزارة المعارف في مطلع الأربعينيات، ثم عمل مفتشًا بالتعليم الابتدائي في عام 1944 وبعدها عاد إلى الوزارة مرة أخرى، وفي تلك الفترة كانت خطواته في النقد الأدبي قد اتسعت وتميزت وظهر له كتابان هما: "كتب وشخصيات"، "والنقد الأدبي – أصوله ومناهجه".
وبعد ميدان النقد سلك سيد قطب مسلكًا آخر بعيدًا: بكتابه "التصوير الفني في القرآن" الذي لاقى مقابلة طيبة من الأوساط الأدبية والعلمية فكتب: "مشاهد القيامة في القرآن" ووعد بإخراج: "القصة بين التوراة والقرآن" و"النماذج الإنسانية في القرآن"، و"المنطق الوجداني في القرآن"، و"أساليب العرض الفني في القرآن"، ولكن لم يظهر منها شيء.
وأوقعته دراسة النص القرآني على غذاء روحي لنفسه التي لم تزل متطلعة إلى الروح. وهذا المجال الروحي شده إلى كتابة الدراسات القرآنية فكتب مقالاً بعنوان "العدالة الاجتماعية بمنظور إسلامي" في عام 1944.
ولما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها زادت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية سوءًا وفسادًا وكانت جماعة الإخوان المسلمين هي أوضح الجماعات حركة وانتشارًا حتى وصلت لمعاقل حزب الوفد كالجامعة والوظائف والريف، وأخذت تجذب بدعوتها إلى الإصلاح وقوة مرشدها الروحية المثقفين، وأخذت صلة سيد قطب بالجماعة تأخذ شكلاً ملموسًا في عام 1946 ثم ازدادت حول حرب فلسطين 1948.
وفي هذا الاتجاه ألف سيد قطب كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وأهداه إلى الإخوان؛ ثم سافر إلى أمريكا وعند عودته أحسنوا استقباله، فأحسن الارتباط بهم وأكد صلته حتى أصبح عضوًا في الجماعة.
الرحلة إلى أمريكا
وجد سيد قطب ضالته في الدراسات الاجتماعية والقرآنية التي اتجه إليها بعد فترة الضياع الفكري والصراع النفسي بين التيارات الثقافية الغربية، ويصف قطب هذه الحالة بأنها اعترت معظم أبناء الوطن نتيجة للغزو الأوروبي المطلق.
ولكن المرور بها مكنه من رفض النظريات الاجتماعية الغربية، بل إنه رفض أن يستمد التصور الإسلامي المتكامل عن الألوهية والكون والحياة والإنسان من ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم لأن فلسفتهم – في رأيه – ظلال للفلسفة الإغريقية.
فكان من المنتظر حين يوم 3/11/1948 في بعثة علمية من وزارة المعارف للتخصص في التربية وأصول المناهج ألا تبهره الحضارة الأمريكية المادية ووجدها خلوا من أي مذهب أو قيم جديدة، وفي مجلة الرسالة كتب سيد قطب مقالا في عام 1951 بعنوان: "أمريكا التي رأيت" يصف فيها هذا البلد بأنه: "شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى، بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك".
المصلح والأديب
امتلك سيد قطب موهبة أدبية قامت على أساس نظري وإصرار قوي على تنميتها بالبحث الدائم والتحصيل المستمر حتى مكنته من التعبير عن ذاته وعن عقيدته يقول: "إن السر العجيب – في قوة التعبير وحيويته – ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات، وإنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء المدلول، وإن في ذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية، المعنى المفهوم إلى واقع ملموس".
وكان سيد قطب موسوعيًا يكتب في مجالات عديدة إلا أن الجانب الاجتماعي استأثر بنصيب الأسد من جملة كتاباته، وشغلته المسألة الاجتماعية حتى أصبحت في نظره واجبًا إسلاميًا تفرضه المسئولية الإسلامية والإنسانية، وهذا يفسر قلة إنتاجه في القصة التي لم يكثر فيها بسبب انشغاله بالدراسات النقدية ومن بعدها بالدراسات والبحوث الإسلامية.
وطوال مسيرته ضرب سيد قطب مثل الأديب الذي غرس فيه الطموح والاعتداد بالنفس، وتسلح بقوة الإرادة والصبر والعمل الدائب؛ كي يحقق ذاته وأمله، اتصل بالعقاد ليستفيد منه في وعي واتزان، ولم تفتنه الحضارة الغربية من إدراك ما فيها من خير وشر، بل منحته فرصة ليقارن بينها وبين حضارة الفكر الإسلامي، وجمع بينه وبين حزب الوفد حب مصر ومشاعر الوطنية، وجمع بينه وبين الإخوان المسلمين حب الشريعة وتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء مجتمع إسلامي متكامل. واستطاع بكلمته الصادقة أن يؤثر في كثير من الرجال والشباب التفوا حوله رغم كل العقبات والأخطار التي أحاطت بهم، وأصبح من الأدباء القلائل الذين قدموا حياتهم في سبيل الدعوة التي آمنوا بها.
العودة والرحيل
عاد سيد قطب من أمريكا في 23 أغسطس 1950 ليعمل بمكتب وزير المعارف إلا أنه تم نقله أكثر من مرة حتى قدم استقالته في 18 أكتوبر 1952، ومنذ عودته تأكدت صلته بالإخوان إلى أن دُعي في أوائل عام 1953 ليشارك في تشكيل الهيئة التأسيسية للجماعة تمهيدًا لتوليه قسم الدعوة،.
وخاض مع الإخوان محنتهم التي بدأت منذ عام 1954 إلى أن أُعدم في عام 1966. وبدأت محنته باعتقاله – بعد حادث المنشية في عام 1954(اتهم الإخوان بمحاولة إغتيال الرئيس المصرى جمال عبد الناصر) – ضمن ألف شخص من الإخوان وحكم عليه بالسجن 15 سنة ذاق خلالها ألوانًا من التعذيب والتنكيل الشديدين، ومع ذلك أخرج كتيب "هذا الدين" و"المستقبل لهذا الدين"، كما أكمل تفسيره "في ظلال القرآن".
وأفرج عنه بعفو صحي في مايو 1964 وكان من كلماته، وقتذاك: أن إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودًا طويلة في التربية والإعداد وأنها لا تجئ عن طريق إحداث انقلاب.
وأوشكت المحنة على الانتهاء عندما قبض على أخيه محمد قطب يوم 30/7/1965 فبعث سيد قطب برسالة احتجاج إلى المباحث العامة؛ فقبض عليه هو الآخر 9/8/1965 وقدم مع كثير من الإخوان للمحاكمة، وحكم عليه وعلى 7 آخرين بالإعدام، ونفذ فيه الحكم في فجر الإثنين 13 جمادى الأولى 1386 هـ الموافق 29 أغسطس 1966.
بسم الله الرحمن الرحيم
سيد قطب واليهود
تعددت الكتب التي تحدثت عن مميزات وصفات الشهيد سيد قطب رحمه الله ، والقارئ لهذه الكتب والمطلع على كتابات الشهيد يدرك أن من أهم صفاته التي ساعدته على سلوك درب الشهادة الصدق وبعد النظر وحسن الإدراك ، فإذا بحثت عن الصدق وجدته في الكلمة التي أدرك تماماً أهميتها وحاول مراراً أن يحميها من عبث العابثين ، الكلمة التي قال عنها : " ليست كل كلمة تبلغ إلى قلوب الآخرين فتحركها وتجمعها وتدفعها ، إنها الكلمات التي تقطر دماً لأنها تقتات قلب إنسان حي، … إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كثيراً ولكن بشرط واحد : أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم ، أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم ، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ويقدموا دماءهم فداءً لكلمة الحق".
أما إذا بحثت عن بُعد النظر وحُسن الإدراك فستجدهما في حُسن قراءته للأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلية ، فمن الماضي أحسنَ قراءة الدين والتاريخ والفلسفة ، ومن الحاضر برع في تعلُّم العلوم والسياسة والفكر ، أما من المستقبل فقد استشرف منه النصر لدين الإسلام والهزيمة لأعدائه الذين كانوا وراء تشويه تاريخه وعقيدته وفكره .
ولقد كان من حصاد فكر سيد قطب وبُعْد نظره الثاقب أن فضح مؤامرات عدة حيكت للأمة الإسلامية في غفلة عن أبنائها الذين شغلتهم الدنيا ومناصبها وزخرفتها عن أمور مصيرية كبرى، هذه المؤامرات التي حاكها الغرب بجناحيه اليهودي والصليبي بغية إضعاف أمة الإسلام التي كانت لها السيادة بدون منازع قروناً مديدة سابقة .
ولقد أراد سيد قطب رحمه الله بكشفه لأضاليل اليهود ومن تآمر معهم من الصليبيين فضحَ أساليبهم وصفاتهم الدنيئة التي حذّر منها القرآن الكريم ، والتي يتحدثون عنها بشكل صريح في أهم كتبهم ككتابي " التلمود " وبروتوكولات حكماء صهيون " ، هذان الكتابان اللذان يحدّدان أصابعهم المزروعة في كل فكر وفلسفة وأدب .
ومن هنا كانت معاناة الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى ! ومن هنا كان منبع ألمه وحزنه ! لم تكن معاناته من آلام السجن والوحشة ، إنما معاناته الحقيقية -التي أودت بحياته - نتجت عن بعد نظره الثاقب الذي جعله يرى مالا يرى غيره ويلحظ ما لا يلحظه سواه ، فقد عاين أسباب ضعف الأمة الإسلامية وتشرذمها ، وأدرك أن وراء هذا الأمر قوة سياسية عالمية تسعى لعدم إقامة حكم الله على الأرض ، وأدرك أيضاً أن السبيل لنهوض هذه الأمة ورفعتها لن يكون إلا بالجهاد ، ولن يتم إلا إذا لم يعد المسلم يخشى اليهودي أو يركن إليه .
إن هذه القوة السياسية اليهودية التي تسرح وتمرح في أرجاء العالم الإسلامي ليست جديدة في التاريخ ، فهي ناشطة منذ بدء الدعوة الإسلامية لدرجة أن القرآن الكريم حذَّر من مخاطرها بقوله تعالى : " ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون"
قال سيد قطب رحمه الله في تعليقه على هذه الآية : إن ما يلفت النظر في هذه الآية صياغتها التي تضمنت تقديم اليهود على الذين أشركوا مما يدل على شدة عداوتهم للمؤمنين ، وذلك أمر ثابت عبر التاريخ فالحرب" التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمداً ، وأعرض مجالاً، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون –على ضراوتها - قديماً وحديثاً .. إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاماً في جملتها وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول ، أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة ، ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية ".
ولقد بدأت عداوة اليهود مع بدء الوحي ، فكان جبريل أول أعدائهم لأنه حسب زعمهم "هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم " ، وهم يزعمون أنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب لذلك فهو عدوهم ، بينما لو كان الذي جاء بالوحي ميكائيل لآمنوا به لأنه ينزل بالرخاء والمطر والخصب"
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عدوهم الثاني الذي جاء ليأخذ منهم كل شيء، جاء ليأخذ الرسالة والكتاب كما جاء أيضاً ليأخذ منهم " القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعّف" باختصار جاء الدين الإسلامي ليسلب من اليهود كل الامتيازات الدنيوية التي تمتعوا بها ، فهل يقفون حيال هذا الأمر مكتوفي الأيدي وهم الذين يعتقدون أنفسهم شعب الله المختار ، وأن سائر الناس " غوييم ( أميين ) " لا يصلحون إلا لخدمتهم والقيام على مصالحهم ؟ أم يحاربون هذا الدين الذي لم يجعل التمييز بين الناس على أساس العرق أو اللون ، بل جعل التقوى هي الميزان لهذا التمييز؟
الاختيار ليس صعباً ، وهو بالطبع لن يكون بالاستسلام لهذا الدين بل سيكون بالحرب ، ولكن ليس بالضروري حرب المواجهة والقتال بل الحرب الخفية التي لا تترك أثراً ولا شُبهة ، لذلك كانت الأسلحة التي استخدمها اليهود في كثير من حروبهم ضد الإسلام أسلحة غير ظاهرة لكثير من المسلمين الذين لم يكلفوا نفسهم عناء قراءة قرآنهم الكريم والاطلاع على تاريخهم المجيد ، إن هذا الأمر الذي غفل عنه بعض المسلمين أدرك أهميته الشهيد رحمه الله فعكف على كتاب الله تعالى يستخرج منه الآيات التي تفضح أساليب اليهود وخفاياهم القديمة ويقارنها بأساليبهم الحديثة التي لم تتغير ولم تتبدل والتي من أهمها ما يلي :
-1- التشكيك بالعقيدة الإسلامية ، وتحويلها إلى مجرد مشاعر وأحاسيس نَفْس لا تخرج عن إطار النطق بالشهادتين أو حتى اتخاذ اسم إسلامي عربي ، بينما العبودية الحقيقية هي للمال والجنس والأفكار الهدامة المنبثة في العلم والأدب والفن والصحافة ، وتسخير هذه الوسائل من أجل " التهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء ، وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق ، والدقّ المتصل على " رجعيتها " ! والدعوة للتفلت منها ، وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقاً عليها من الحياة أو إشفاقاً على الحياة منها ! وابتداع تصورات ومُثُل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومُثُلَها ".
وقد أعان اليهودَ في حربهم هذه عملاءُ في مجالات الحياة كافة ، فكان منهم الأساتذة والدكاترة والباحثون وأحياناً الكتاب والشعراء والفنانون والصحفيون الذين يحملون أسماء إسلامية ، وقد تعاون هؤلاء مع اليهود على هدم الإسلام عبر صرف الأمة عن دينها وقرآنها و "تحويل الدين إلى مجرد مشاعر وشعائر ، وطرده من واقع الحياة ، وإيهام المعتقدين به أنهم يمكن أن يظلوا مؤمنين بالله ، مع أن هناك أرباباً أخرى هي التي تشرع لحياتهم من دون الله ! ويصلون بذلك إلى تدمير البشرية فعلاً ، حتى مع وهمها أنها لا تزال تؤمن بالله ".
-2- التلبيس والتدليس في كل ما يتصل بهذا الدين من تاريخ وحديث وتفسير ، " فدسّوا ولبّسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله ، ودسّوا ولبّسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ندَّ عن الجهد الإنساني المحدود ، ودسّوا ولبّسوا في التفسير القرآني، وهناك دس جد خطير ، لقد دسوا رجالاً وزعامات للكيد لهذه الأمة " .
-3- تفكيك الأمة الإسلامية عبر تكبير الهوّة بين الحكاّم والشعوب والمساهمة في تزكية نار الفتنة وإشعال الحروب والعداوات المصطنعة التي ينتج عنها مزيد من التشرذم ومزيد من التشويه لهذا الدين الحنيف والتشكيك بنوايا الداعين إليه.
-4- إمساكهم العصا بالوسط ، بمعنى " انضمامهم إلى المعسكرات المتطاحنة كلها من باب الاحتياط ، لتحقيق بعض المغانم على أية حال ، وضمان صوالح اليهود في النهاية سواء انتصر هذا المعسكر أم ذاك ! وهي خطة من لا يثق بالله ولا يستمسك بميثاقه ، ويجعل اعتماده كله على الدهاء ، ومواثيق الأرض والاستنصار بالعباد لا برب العباد " .
وقد هدف سيد قطب من دراسته لأساليب اليهود القديمة ومقارنتها بأساليبهم الحديثة لأهداف عدة أهمها اثنين وهما : تذكير المسلمين بالفرق بين مفهوم التسامح والولاء ، وتذكيرهم بخصائص اليهود التي ذكرها القرآن الكريم والتي يمكن لأي قارئ له أن يتوصل إليها بسهولة ويُسْر مما يعين هذه الأمة على الانتصار عليهم ودحر كيدهم .
قال سيد قطب في تفريقه بين مفهوم السماحة والولاء : " ثم يظهر بيننا من يظن – في بُعْدٍ كامل عن تقريرات القرآن الجازمة – أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر . ندفع به المادية الإلحادية عن الدين !
إن هؤلاء لا يقرأون القرآن ، وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام ؛ فظنوها دعوة الولاء التي يحذر منها القرآن " .
إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء واتخاذهم أولياء شيء آخر ، إن التسامح يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي ، بمعنى أن " طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم ، واقتباس منهجهم وأوضاعهم ، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية ، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة ، كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء ، وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب " .
ويكفي نهياً عن اتباع منهج اليهود ما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتَّبعني ".
وقد أشار سيد قطب في حديثه عن صفات اليهود ، والتي أحصاها القرآن الكريم بأجمعها ، إلى أن هذه الصفات لم تتغير عبر الزمن ولن تتغير في المستقبل بقوله : "جَعل القرآن يخاطبهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم – كما كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم - باعتبارهم جبلة واحدة . سماتهم هي هي، ودورهم هو هو، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان " .
فهم في البداية حريصون على الحياة الدنيوية مهما كانت حتى ولو كانت حياة تنكير وتحقير، لذلك تجدهم يهربون من الحروب والمواجهة ويستبدلونها بأساليب الغش والخديعة ، قال تعالى : "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر والله بصير بما يعملون " سورة البقرة ن آية 96 .
وهم أيضاً ضعفاء مفككي الأهواء لا يجتمعون على رأي، ولا يثبتون على عهد ، ولا يستمسكون بعروة ، وإن بدا ظاهرهم خلاف ذلك ، لذلك فإن حربهم وجهادهم أمرٌ ليس بالصعب إذا اجتمعت جهود الأمة الإسلامية على جهادهم ومحاربتهم ، خاصة أن دواعي هذا الجهاد متعددة، ومن أهمها استرجاع حقوق وأراضٍ مسلوبة يشكل بعضها مقدسات مهمة للمسلمين لا ينبغي التفريط بها ، ومن هذه المقدسات المسجد الأقصى الذي يقع في فلسطين، تلك الدولة التي " ضاعت على مذبح المنافسات بين عدة بيوت حاكمة ، لا لأن قوى الأمة العربية – أيًّا كانت ضعيفة – عجزت عن الوقوف أمام حفنة من اليهود ، مهما جاءتهم النجدة من الكتلة الشيوعية والكتلة الرأسمالية ، ولو كان في مجموعة الشعب العربي من الحيوية إذ ذاك ما تحطم به أطماع العاملين ، وتضرب على أيديهم العابثة ، ما وقعت الكارثة " .
لقد آمن سيد قطب بأن قضية فلسطين هي قضية المسلمين فرحلة الإسراء إلى المسجد الأقصى هي " إعلان وراثة الرسول الأخير صلى الله عليه وسلم لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات " ، لذلك ودفاعاً عن إيمانه بحق المسلمين بأرض فلسطين شارك سيد قطب رحمه الله كبار شخصيات العالم الإسلامي في المؤتمر الإسلامي العام الذي انعقد في القدس عام 1954 م. ليؤكد " أن القضية الفلسطينية هي من أخطر القضايا الإسلامية وأجدرها بعناية الشعوب المسلمة وتضافرها في الكفاح لاسترداد البلاد المقدسة من اليهود الغاصبين ، وحماية ما تبقى منها في أيدي أصحابها الشرعيين بعد تآمر الاستعمار الغربي والصهيونية العالمية " .
لقد بلغ من شدة إدراك سيد قطب رحمه الله لخطر اليهود على الأمة وفضحه لمخططاتهم أن أعلن الشهيد رحمه الله في جريدة الشهاب عن كيفية توقعه لختام حياته بقوله : " لقد وقفت على مدى تغلغل الأصابع اليهودية وخطرها بعد بحث وطول عناء ،واليهود إذا علموا أنني أحيط بذلك فلا بد أن أقتل " .
د. نهى قاطرجي
حسدوا الفتى إن لم ينالوا سعيهم
فالقوم أعداء له وخصوم
أقلوا عليه لا أبا لأبيكم من اللوم
أو سدوا المكان الذي سدوا