هل جربت طعم الموت
الطفل محمود
محمود فقد عينيه وكسرت جمجمته
آثار الشظيات المستخرجة من جسده
رجل يعاني إصابات بالغة بالفخذ
فلسطينية تعالج بمصر لانعدام الدواء بغزة
الطفل ضياء أصيب بأسفل رأسه وذراعه
أبدا لم أكن أتصور أن يأتي اليوم الذي أشاهد فيه الموت وأنا على قيد الحياة، فكل شيء يدل على بشاعة ما حدث، أجساد طار نصفها، عظام ذابت بفعل الأسلحة المحرمة، إنه الجحيم الذي قضى على كل ما هو حي في غزة"..
بهذه الكلمات بدأت "جولي" ـ 23 سنة من آيسلندا ـ حديثها وهي تتذكر اللحظات العصيبة التي مرت عليها وهي تتنقل من سرير لآخر بمستشفى استقبلت عدد من ضحايا العدوان الإسرائيلي الإجرامي على أهالي قطاع غزة.
وتواصل جولي بمرارة لا تخفى على أحد سرد الفظائع التي شاهدتها قائلة: "قمنا بتكوين وفد رمزي يضم أناسا ينتمون لجاليات أجنبية مختلفة تقيم على أرض مصر، فكان من بيننا أمريكيات وباكستانيات وهنديات وبريطانيات واسكوتلنديات.
وقررنا عمل شيء ما لضحايا محرقة غزة، وحاولنا في البداية الوصول للعريش لكن الأمن قطع علينا مسيرتنا، فجئنا إلى مستشفيات أخرى نشاهد الجرحى الفلسطينيين الذين تم نقلهم إلى القاهرة ضحايا آلة الحرب الإسرائيلية.
وتستطرد جولي: "يجب أن يبدأ حديث من يتكلم عن ما فعلته إسرائيل من هنا، نعم فهنا أشباح تسكن المستشفى، فكل دقيقة يفارق أحد الضحايا الحياة، بعد أن تزهق أرواحهم بفعل الأسلحة المحرمة دوليا، وهنا يستوي الجميع في مشاعر الألم والحزن، فلا تمييز بين أصحاب ديانة وأخرى، فالكل يتألم لما يشاهده".
قصص إنسانية حية
صبي بين الأشلاء
في السرير الأخير من غرفة العناية المركزة كان طفل صغير يرقد ، وقد اختفى وجهه خلف قطع سميكة من الشاش الأبيض ، بينما كان جسده تحت الغطاء . كان من الواضح أنه شبه فاقد للوعي ، وبجواره قابلنا عمه . وددنا معرفة القصص الإنسانية وراء كل حالة وصلت للمستشفيات المصرية وكيف تتذكر مشاهد القصف والقتلى الفلسطينيين والجرحى قبل أن يغادروا مستشفيات فلسطين الوطنية .. وراعنا جميعا ما شاهدنا وما سمعنا أيضا .
عم الطفل البالغ من العمر 14 سنة والذي يدعى " محمود " ذكر لنا أنهم يقطنون في مخيم جباليا ، وأنهم سمعوا صوت صاروخ إسرائيلي قصف المسجد المجاور لمنزل عائلتهم ، وبالمناسبة كثير من الفلسطينيين يعيشون في منازل كبيرة تضم أفراد العائلة .
كان محمود بصحبة مجموعة من الصبية الفلسطينيين ، وبعد انتهاء صوت القصف شاهد وشاهدوا معه أشلاء طفلين تعلقت بحوائط المنازل . ثم ضرب صاروخ إسرائيلي ثاني وسط المدنيين الفلسطينيين الذين تجمعوا حول الشهداء والجرحى لإسعافهم ، ليزداد عدد المصابين بالطبع بعدها ! وصاروخ ثالث سمع دويه الصاخب واستشهد على إثره وحده سبعة فلسطينيين . بالطبع محمود رأى وهو مصاب كل ذلك ودخل وهو على الأرض في إغماءة ، فاق منها على صوت صراخ عالي وشاهد الطفل أجساد بدون رأس ودماء تغرق الأرض .
يعاني الطفل – حسب التقرير الطبي – من نزيف في المخ وكسر بالجمجمة وتدهور لدرجة الوعي نتجت عن إصابات المخ ، والأخطر أنه فقد عينيه وثقبت أذنيه . عمه يطلب منا نحن الإعلاميين أن نرفع صورته على البيت الأبيض ونكتب تحتها عبارة " هذا هو صنع أمريكا " ، في إشارة لأن الصواريخ التي لا تزال تقصف مدنيي غزة هي أمريكية الصنع وجاءت كمساعدات عسكرية أمريكية لإسرائيل ، حسبما قال عم الطفل .
أما عن حياته قبل القصف ، فقد كان يتعلم بالصف الثالث الإعدادي ، وعرف أنه حبه للمدرسة . له ثلاث أخوة صبيان وأخت بنت تدرس بالجامعة ، ويعاني أبوه من مشكلات صحية الأمر الذي منعه من مرافقة ولده في رحلته للقاهرة .
سألناه عما قاله وقت أصابه الصاروخ ، فقال أن الصبي نطق ب " الشهادتين" ، وتذكر أيضا حينما نقلوه لمستشفى الشفاء بغزة أنه وجد العشرات من الجرحى على الأرض ودمائهم تسيل بانتظار أي طبيب يسعفهم . وفي الطريق كانت الطائرات تقصف سيارات الإسعاف واستشهد خلالها سائق إحدى السيارات التي كانت تقل محمود ، وكانت تابعة للصليب الأحمر الدولي .
وأضاف العم أن الصواريخ الإسرائيلية تجعل الضغط المحيط بالجسم صفرا ، وبذا تخرج العين من محجرها ويفقد المحيطون عيونهم من ضغط الهواء الشديد ، كما تصاب أجسادهم بأعداد كبيرة جدا من الشظايا .
تحدثنا معه عن الحياة في غزة تحت القصف ، وقال أي حياة بلا كهرباء ولا ماء ولا وقود ولا طعام في الأسواق ولا أمان بالطبع وسط هذا الموت ! وساند حركة المقاومة الإسلامية " حماس " فيما تقوم به من دفاع عن الأبرياء العزل الذين تضربهم إسرائيل ليل نهار ، وأكد كذلك على أن وسائل الإعلام الإسرائيلية ماهرة للغاية في تضليل الرأي العام العالمي ؛ إذ تصور أن كل عدوانها ما هو إلا رد على صواريخ حماس التي تستهدف مدنييها !! و" هذا كذب وافتراء " ، قالها الرجل . ورغم ذلك قال : " أنا مع الله مش مع حماس ولا فتح " .
قابلنا الطفل عوض مسمح بابتسامة ، رغم آلامه ، وكان يرقد في الغرفة المقابلة لغرفة محمود ، هو طفل يدرس أيضا بالصف الثالث الإعدادي بمدرسة عبدالله بن رواحة ، ويسكن منطقة دير البلح بغزة . كل خطأه أنه ذهب لحمل بعض المصابين في قصف الطائرات ، فأصيب هو الآخر . والغريب أن الطفل نفسه يقول أنه يرغب بالعودة لغزة وطنه ثانية ، ويتمنى أن يصير مهندسا معماريا يبني للبلاد . أمر جيد