وتأمل كيفية خلق الرأس وكثرة مافيه من العظام ، حتى قيل إنها خمسة وخمسون عظما مختلفة الأشكال والمقادير والمنافع ،وكيف ركبه سبحانه وتعالى على البدن ، وجعله عاليا علو الراكب على مركوبه، ولما كان عاليا على البدن جعل فيه الحواس الخمس وآلات الإدراك كلها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس .
العينان:
وجعل حاسة البصر في مقدمته ليكون كالطليعة والحرس والكاشف للبدن ، وركب كل عين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص ومقدار مخصوص ومنفعة مخصوصة ، لو فقدت طبقة من تلك الطبقات السبع أوزالت عن هيئتها وموضعها لتعطلت العين عن الإبصار ، ثم أركز
سبحانه داخل تلك الطبقات السبع خلقا عجيبا وهو إنسان العين بقدر العدسة يبصر به ما بين
المشرق والمغرب والأرض والسماء وجعله من العين بمنزلة القلب من الأعضاء،فهو ملكها،وتلك الطبقات والأجفان والأهداب خدم له وحجاب وحراس فتبارك الله أحسن الخالقين .
الحاجبان:
فانظر كيف حسن شكل العينين وهيئتهما ومقدارهما ثم جملهما بالأجفان غطاءا لهما وسترا وحفظا وزينة فهما يتلقيان عن العين الأذى والقذا والغبار ويكنانهما من البارد المؤذي والحار المؤذي ،
ثم غرس في أطراف تلك الأجفان الأهداب جمالا وزينة ولمنافع أخرى وراء الجمال
والزينة ، ثم أودعهما ذلك النور الباصر والضوء الباهر الذي يخرق ما بين السماء والأرض،
ثم يخرق السماء مجاوزا لرؤية ما فوقها من الكواكب، وقد أودع سبحانه هذا السر العجيب في هذا المقدار الصغير بحيث تنطبع فيه صورة السماوات مع اتساع أكنافها
وتباعد أقطارها .
الأذن:
وشق له السمع وخلق الأذن أحسن خلقة وأبلغها في حصول المقصود منها،فجعلها مجوفة كالصدفة ، لتجمع الصوت فتؤديه إلى الصماخ ،
وليحس بدبيب الحيوان فيها فيبادر إلى إخراجه وجعل فيها غضونا وتجاويف واعوجات تمسك الهواء والصوت الداخل فتكسر حدته ثم تؤديه إلي الصماخ، ومن حكمة ذلك أن يطول به الطريق
على حتى يستيقظ أو ينتبه لإمساكه ، وفيه أيضا حكم غير ذلك .
ثم اقتضت حكمة الرب الخالق سبحانه أن جعل ماء الأذن مرا في غاية المرارة فلا يجاوزه الحيوان ولا يقطعه داخلا إلى باطن الأذن بل إذا وصل إليه أعمل الحيلة في رجوعه،
وجعل ماء العينين ملحا ليحفظها فإنها شحمة قابلة للفساد فكانت ملوحة مائها صيانة لها وحفظا وجعل ماء الفم عذبا حلوا ليدرك به طعوم الأشياء على ماهي عليه إذ لوكان على غيرهذه الصفة لأحالها إلى طبيعته كما أن من عرض لفمه المرارة استمر طعم الأشياء التي ليست بمرة كما قيل :
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا
الأنف:
ونصب سبحانه قصبة الأنف في الوجه فأحسن شكله وهيأته ، ووضعه وفتح فيه المنخرين ، وحجز بينهما بحاجز ،وأود ع فيهما حاسة الشم التي يدرك بها أنواع الروائح الطيبة والخبيثة والنافعة والضارة ، وليتنشق به الهواء ، فيوصله إلى القلب فيتروح به ، ويتغذى به ، ثم لم يجعل في داخله من الاعوجاجات والغضون ماجعل في الأذن، لئلا يمسك الرائحة ، فيضعفها ويقطع مجراها ،وجعله سبحانه مصبا تنحدر إليه فضلات الدماغ، فتجتمع فيه ثم تخرج منه ، واقتضت حكمته أن جعل أعلاه أدق من أسفله ، لأن أسفله إذا كان واسعا اجتمعت فيه تلك الفضلات فخرجت بسهولة ، ولأنه يأخذ من الهواء ملأه،ثم يتصاعد في مجراه قليلا ، حتى يصل إلى القلب وصولا لا يضره ولا يزعجه ، ثم فصل بين المنخرين بحاجز بينهما حكمة منه ورحمة فإنه لما كان قصبة ومجرى ساترا لما يتحدر فيه من فضلات الرأس ، ومجرى النفس الصاعد منه ,
جعل في وسطه حاجزا ، لئلا يفسد بما يجري فيه فيمنع نشقه للنفس ، بل
إما أن تعتمد الفضلات نازلة من أحد المنفذين في الغالب ،فيبقى الآخر للتنفس، وإما أن يجري فيهما، فينقسم فلا ينسد الأنف جملة ، بل يبقى فيه مدخل للتنفس، وأيضا فإنه لما كان عضوا
واحدا وحاسة واحدة ولم يكن عضوين وحاستين كالأذنين والعينين اللتين اقتضت الحكمة تعددهما فإنه ربما أصيبت إحداهما ، أو عرضت لها آفة تمنعها من كمالها ، فتكون الأخرى سالمة ،فلا تتعطل منفعة هذا الحس جملة ،وكان وجود أنفين في الوجه شيئا ظاهرا ، فنصب فيه أنفا واحدا، وجعل فيه منفذين حجز بينهما بحاجز يجري مجرى تعدد العينين والأذنين في المنفعة وهو واحد فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين
الأنف وحاسة الشم:
تعبر الرائحة المنخر مع الهواء المنشوق، وتنتشر في التجاويف الأنفية، فتلامس تشعبات العصب الشمي الذي ينقل إحساسات الشم إلى الدماغ مباشرة ، وإذا حمل الهواء المنشوق بعض غبار الطلع من زهرة أو ورردة ولامست حبيبات الغبار هذه تشعبات أعصاب الحس المتصلة أيضا
بالدماغ فإنك تعطس . تدوم الرائحة ثلاثة دقائق، ثم تختفي ، او تعتاد عليها. وحاسة الشم لاتزال
محيرة للعلماء. فهم يقولون أن الرائحة حينما تدخل الأنف تلتقطها الأعصاب الشمية الموجودة في سقف اللثة ، حيث تنتقل إلى منطقة مخاطية ، لتنحل فيها وتتفاعل معها ، حيث توجد هناك الآف الشعيرات (الاهداب ) المتخصصة في التحلل الكيميائي ، حيث تقسم إلى 6-8موصلات عصبية تنقل نتائج التحليل إلى الدماغ والروائح الأساسية سبعة ، وبقية الروائح تأتي مزيجا من ذلك . فسبحان الذي خلق وأبدع وصور.
الفم :
وشق سبحانه للعبد الفم في أحسن موضع وأليقه به ،وأودع فيه المنافع وآلات الذوق والكلام وآلات الطحن والقطع ما يبهر العقول عجائبه . فأودعه اللسان الذي هو أحد آياته الدالة عليه ،وجع له ترجمانا لملك الأعضاء مبينا مؤديا عنه،كما جعل الأذن رسولا مؤديا مبلغا إليه ، فهي رسوله وبريده الذي يؤدي إليه الأخبار،واللسان بريده ورسوله الذي يؤدي عنه ما يريد .
(واقتضت حكمته سبحانه ) أن جعل هذا الرسول مصونا محفوظا مستورا غير بارز مكشوف كالأذن والعين والأنف . لأن تلك الأعضاء لما كانت تؤدي من الخارج إليه جعلت بارزة ظاهرة، ولما كان اللسان مؤديا منه إلى الخارج جعل له سترا مصونا لعدم الفائدة في إبرازه لأنه لا يأخذ من الخارج إلى القلب ، وأيضا فلأنه لما كان أشرف الأعضاء بعد القلب ومنزلته منه منزلة ترجمانه ووزيره، ضرب عليه سرادق تستره وتصونه ، وجعل في ذلك السرادق كالقلب في الصدر، وأيضا فإنه من ألطف الأعضاء وألينها وأشدها رطوبة ، وهو لا يتصرف إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به، فلو كان بارزا ، صار عرضة للحرارة واليبوسة والنشاف المانع له من التصرف ولغير ذك من الحكم والفوائد .
الأسنان:
ثم زين سبحانه الفم بما فيه من الأسنان التي هي جمال له وزينة وبها قوام العبد وغذاؤه
وجعل بعضها أرحاء للطحن وبعضا آلة للقطع ، فأحكم أصولها ، وحدد رؤوسها، وبيض لونها ، ورتب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب، كأنها الدر المنظوم بياضا وصفاء وحسنا .وأحاط سبحانه على ذلك حائطين ، وأودعهما من المنافع والحكم ما ودعهما ،أوهما الشفتان ، فحسن لونهما وشكلهما ووضعهما وهيأتهما، وجعلهما غطاء للفم وجعلهما إتماما لمخارج حروف الكلام ونهاية له ، كما جعل أقصى الحلق بداية له واللسان وما جاوره وسطا،
ولهذا كان أكثر العمل فيها له إذ هو الواسطة ، واقتضت حكمته أن جعل الشفتين لحما صرفا لاعظم فيه ولا عصب ليتمكن بهما من مص الشراب ، ويسهل عليه فتحهما وطبقهما،وخص الفك الأسفل بالتحريك ، لأن تحريك الأخف أحسن ، ولأنه يشتمل على الأعضاء الشريفة (الفك الأعلى )فلم يخاطر بها في الحركة .وخلق سبحانه الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونةوالملاسة والصلابة واللين والطول والقصر . فاختلفت بذلك الأصوات أعظم اختلاف ، ولا يكاد يشتبه صوتان إلا نادرا ،ولهذا كان الصحيح قبول شهادة الأعمى ، لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم كما يميز البصير
بينهم بصورهم، والاشتباه العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصور.