شيع عمر بن عبدالعزيز مرة جنازة من أهله . ثم أقبل على أصحابه ووعظهم فذكر الدنيا فذمها . وذكر أهلها وتنعمهم فيها وما صاروا إليه بعدها من القبور فكان من كلامه أنه قال إذا مررت بهم فنادهم إن كنت مناديا ، وادعهم إن كنت داعيا ومر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم . سل غنيهم : ما بقى من غناه ؟ وسل فقيرهم : ما بقى من فقره ؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون ، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون . وسلهم عن الجلود الرقيقة . والوجوه الحسنة . والأجساد الناعمة . ما صنع بها الديدان تحت الأكفان . وأكلت اللحان وعفرت الوجوه ومحت المحاسن وكسرت الفقارة وبانت الأعضاء . ومزقت الأشلاء . وأين حجابهم وقبابهم ؟ أين خدمهم وعبيدهم ؟ وجمعهم وكنوزهم ؟ وكأنهم ما وطئوا فرشا ولا وضعوا هنا متكأ ولا غرسوا شجرا ولا أنزلهم من اللحد قرارا . أليسوا في منازل الخلوات ، أليس الليل والنهار عليم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل . وفارقوا الأحبة . وكم من ناعم وناعمة أضحوا ووجوههم بالية . وأجسادهم من أعناقهم بائنة . أوصالهم ممزقة وقد سالت الحدق على الوجنات . وامتلأت الأفواه دما وصديدا . ودبت دواب الأرض في أجسادهم . ففرقت أعضائهم . ثم لم يلبثوا إلا يسيرا حتى عادت العظام رميما فقد فارقوا الحدائق وصار بعد السعة إلى الضائق قد تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم وتوزعت القرابات ديارهم وقراهم . فمنهم والله الموسع له في قبره . الغض الناظر فيه المتنعم بلذته . يا ساكن القبر إذا ما الذى غرك من الدنيا ؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد ؟ وأين ثمارك اليانعة ؟ وأين رقاق ثيابك ؟ وأين طيبك وبخورك ؟ وأين كسوتك لصيفك ولشتائك ؟ اما رأيته قد زل به الأمر . فما يدفع عن دخلا . وهو يرشح عرقا ويتلمظ عطشا يتقلب في سكرات الموت وغمراته . جاء الأمر من السماء وجاء غالب القدر والقضاء هيهات : يامغمض الوالد والأخ والولد وغاسله يامكفن الميت ويا مدخله في القبر وراجعا عنه ليت شعرى ما الذي يلقانى به ملك الموت عن خروجى من الدنيا وما يأتينى به من رسالة ربى . ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (قّ:19)
رد مع اقتباس
-new.gif)
