أعرف أن هذا الفندق يطل على مقبر المدينة .. كنت مرهقاَ بعد رحلة طويلة شاقة ، و ليس لي إلا أن أنام . فتحت الستائر و انكشفت لي قبور متجاورة . قبور تتجمع و تتلقي ، تخرج من مكانها و تتزحزح و ترتج كالماء ، و تطفو للأعلى ، جامحة تضرب بعضها بعضاً ، و الشواهد تنهار بلونها الرمادي و الأبيض أما القبب الصغيرة فكانت ملفوفة بخرق خضراء . لم أخبر زوجتي بالأمر ، كانت مشغولة بالاستحمام بعد السفر الطويل . أسمع رشرشات الماء على البلاط و أرى الأبجورات الموضوعة بعناية .
لم أغلق الستارة . و لفت انتباهي دخول جماعات من الرجال بجنازة من الباب الشرقي للمقبرة : كان الرجال يرتدون ملابس بيضاء ناصعة ، و كان النساء من خلفهم يمشين كالغربان بعباءات سوداء . لا إرادياً فتحت النافذة .. جاءني هواء هذه المدينة الساخن الذي يبرد في الليل . كنت أريد أن أتبع صوت هذه الجنازة .سمعت صوت الولولة أولاً .. جاءتني مع هبوب الريح من الشرق . كانت البوابة التي دخلوا منها منهكة لها حديد صدئ ، النصف الآخر من البوابة كان ساقطاً على الأرض . وضعوا الجنازة على الأرض و ارتفعت زغاريد . التقى النساء بالرجال و اختفت الجنازة . ماذا لو شاهدت زوجتي هذا المنظر ؟! و كيف اخترنا هذا الفندق لشهر العسل ؟ اتخذت قراري بالفرار من هذا الفندق إلى أقرب فندق . لن أخبر زوجتي .. لكنها ستفتح الستارة بالحتم . نمت على المقعد الذي بجوار السرير و أنا انتظر دوري لدخول الحمام . كانت الرحلة طويلة بالطائرة ، طويلة استغرقت عشر ساعات . رحلات الترانزيت متعبة ، لم أفق إلا في الليل . عندما فتحت عيني كانت زوجتي جالسة أمامي عند ميز التواليت تصلح زينتها . قالت لي دون أن تلتفت :
- نمت خمس ساعات .. و تركتك ترتاح .. فالليلة سنسهر حتى الصباح ..
لم أجبها ، كنت لا أزال في حوزة النوم . نمت بثياب السفر . حلمت أحلاماً مفزعة . كانت رأسي ثقيلة . قلت لزوجتي :
- كيف نمت ؟
- على المقعد .. و بعد ذلك حملتك بصعوبة على السرير .
- أنا نهضت بنفسي ؟
- بمساعدتي ...
أخفيت على زوجتي صور الحلم الذي رأيته .
كان الضوء في الغرفة خافتاً ، ينبعث من الأباجورات في جوانب السرير . انتبهت إلى التسارة عن يميني ، و حمدت الله أنها لا زالت مغلقة . كانت زوجتي نائمة طوال الوقت أيضاً . قالت لي :
- قرأت برنامج السهرة في هذا الفندق و حجزت طاولة لشخصين ..
هل أخبر زوجتي عن المقبرة ؟ قلت لها :
- سننتقل من هذا الفندق غداً .
قالت :
- أنا مرتاحة هنا لا داعي للتغيير ..
- أظننا أخطأنا في ذلك ..
- هو فندق خمس نجوم ؟
- نعم .. لكن موقعه غير مناسب ..
- من أي جانب .. هو في وسط المدينة ؟
- نعم ..
ترددت ، لكنها ستعرف ، لا بد و أن تفتح الستارة بعد قليل ، هذا هو طبعها ، و طبع كل مسافر ، يريد أن يعرف ما حوله ، و ما بجواره ، المنظر الخلفي للغرفة ..
لم بنوا هذا الفندق هنا ؟ كيف ارتكبوا هذه الحماقة ؟
قلت :
على كل حال .. أنا موافق على المكان الذي يعجبك .
- خلاص .. يعجبني هذا الفندق .. ادخل الحمام و اطرد عنك كسل النوم .
قلت لها :
- لا أريد الخروج من الغرفة الليلة .. الظاهر أنني مصاب ببرد ، و علي أن أستريح في الغرفة ..
كانت في كامل زينتها ففوجئت بقراري .
- هل جئنا إلى هذه المدينة الجميلة للنوم ؟
- الأيام القادمة ..
- و هل ينامون في شهر العسل ؟
كنت مكتئباً . أصبت بالاكتئاب منذ خمس سنوات . و كان الموت يزورني كل مساء في هيئة صامتة : جسدي ممدد فوق نعش خشبي طويل ، و عيني مغمضة ، جسدي مغطى بزيت ، و هو غامق و عميق ، و مجموعة الرجال يحملوني إلى المقبرة . يغشاني العرق ، و يضيق صدري ، و يركض الخوف . أصاب بهلع شامل . لا أتحدث . أفحص حبات العرق فوق جبهتي في الشتاء . لم أخبر زوجتي عن الاكتئاب .. ستكتئب هي الأخرى . ضغطت الجرس و أنا أقول لزوجتي :
- سنحتفل هذه الليلة في هذه الغرفة الأنيقة الممتلئة بالسجاد و صور النساء الجميلات .
فتحت زوجتي الراديو . و زارتنا الموسيقى هادئة ، ناعمة .. و تدفق شعور من الفرح في عينيها . رأيتها تستدير إلي ، بفستانها الأسود مكشوف الكتفين ، و في شعرها الفاحم وردة صفراء .
كانت في غاية الجمال . و قالت و هي تزيح شعرها فتظهر عياناها النجلاوان بكل طلاوتهما الشهية .
- كما تشاء .. كل مكان أنت فيه جنة .
و جاءت و طوقتني . أنعشتني العطور الباذخة . قالت :
- لن أخلع فستان السهرة ..
- ليكن .. سأرتدي أنا البدلة .. بدلة الزواج .. و من يدري .. قد نخرج فجأة آخر الليل و نتجول في المدينة ، و لا نعود إلا في الصباح . هذه المدينة لا تنام . تسهر و تزدان بالأضواء و تعمها الحركة . و يرتاد العشاق حدائقها ، ومقاهيها .. مدينة صاخبة للمتزوجين و العشاق .. و العابثين في الحياة ..
و سمعت طرقاً بالباب فقلت :
- النادل ؟
فتحت الباب ، ودخل النادل و أخرج دفتراً من جيبه :
- ماذا تطلبين يا بشرى ؟
- كأساً من الحليب ..
- و أنا أريد بيرة مثلجة ..
بشرى إبراهيم :
دخل زوجي صلاح الحمام . كنت أسمع صوت الماء و الموسيقى الهادئة . دفعني اللاشعور إلى الستارة . عجبت كيف غفلت عنها كل هذا الوقت . فتحت الستارة و رأيت المقبرة . شواهد قبور صامتة و ناتئة ، قبباً كثيرة داكنة . و كلاباً تجوس بين الضوء الذي يكشف عن جوانب من شواهد القبور . وقفت صامتة . لم أتوقع ذلك .. مقبرة بجوار الفندق ؟! ما السر ؟ شعرت بانقباض ، يجب أن نرحل غداً من هذا المكان .. الآن ؟ لا .. دفعنا للفندق أجرة اليوم . غداً في الصباح ، صلاح مريض و لا يستطيع الانتقال كما يبدو ، و سينزعج من هذا الانتقال السريع .. غداً في الصباح أخبره بالأمر . سأغلق الستارة .. يجب أن تبقى هذه الستارة مغلقة الليلة ، الليلة على الأقل ، حتى لا تفسد هذه الليلة ، حتى صلاح يبقى في حالة متوازنة .. لو أخبرته بالأمر فقد يكتئب .. بالحتم سينزعج كثيراً .. هو الحساس المرهف يكتشف مقبرة في مكانه ، في غرفته ؟ كنت أشعر أن المقبرة تزحف إلينا ، هنا في جانب الفندق ، تدخل الدهليز ، و تتخلل الجدران .. و تستقر على السرير .. المقبرة تتحول إلى أثير .. تزحف و تدخل في مكان الفندق ، كأنها جزء منه ، و كأنها بنيت مع الفندق ، و ستزال معه .. أحسست بحميمية إلى المقبرة ، كدت أذهب إليها الآن بنفسي ، أقترب من الشواهد و القبور و أنام على الأسمنت السميك تحت الضوء و الظلمة المختلطة ، أشعر بالندى المحمول على نبات ظاهر بين القبور . الشواهد تتحرك ، تقفز ، و جدران المقبرة تنتكس و تميل .. أسمع صفير زوجي داخل الحمام و إيقاع الموسيقى الذي يتحول . الستارة المفتوحة ليس كلها .. سأخفي الأمر على صلاح .. ليعلم غداً في الصباح .. نكون قد استرحنا ، و بعد نوم عميق نرحل .. هل تبقى الستارة مغلقة إلى الغد ؟ و ماذا لو أراد أن يفتح الستارة ؟ كيف أمنعه ؟ .. لم أخش الموت كثيراً في حياتي . هو أمر عادي ، أتوقعه كما أتوقع خروج زوجي من الحمام ، كان أهلي يعجبون من ذلك . و فسروا هذا بغلاظة القلب . أنا مؤمنة بالله .. و هذا سر الفتي مع الموت .. لكن زوجي .. آه ! أعرف أنه مكتئب .. و يتعاطى دواء الاكتئاب .. و يخفى علي ذلك . الله يرحمنا .. لن أدعه يفتح الستارة .
لم يضيئون هذه المقبرة ؟ .. و لم هذه الأضواء الضاجة على امتداد هذه المقبرة ؟ و لم في وسط المدينة ؟ و هذه نافورة ماء منطلق ، و سيارات جرارة جميلة تصعد الطريق الجنوبي ، و مقاه كثيرة هرجة تقابل المقبرة و الفندق ، و خمارات ، و مراقص .. فتحت النوافذ ذات الزجاج السميك ، و انحدرت إلي موسيقى من أسفل قاعات الفندق ، أنا في الدور الخامس ، و جاءتني الموسيقى من الدور الثاني . في هذا المطعم الفخم ذو الثريات الكبيرة و الموحية و الرخام . الفرقة ستغني هنا في الطابق الثاني . و المرقص في الطابق الأول . سأشتري ورداً من سوق الفندق العام .. ليت صلاح يوافق على الذهاب إلى الحفل ؟ هل ينعشه الدوش الساخن ؟ أراه يصفر ؟ من يدري ؟ سنذهب إلى الحفلى الصاخبة . الموسيقى التي أحبها . أريد أن أخرج من هذه الغرفة .. أن أطير .. أطير .. لن أدع صلاح و نفسي في حجرة مغلقة .. أنا و هو و في شهر العسل ؟ لن أدع حبيبي ينام عابساً حزيناً .. سنخرج .. سنخرج .. أعرف كيف أقنعه .. و التذاكر في يدي .. و إذا لم يوافق سأزعل ، و إذا زعلت فهو لا يقدر على زعلي .. سيوافق . كان صلاح خارجاً من الحمام . منتعشاً ، و جاءتني سخونة بخار الحمام . كانت الستارة مقفلة ، و لا أدري لم نظر إلى الستارة أول ما خرج من الحمام . قلت :
- صلاح .. أنا أريد أن أسهر .. يبدو لي أن الحفلة في الطابق الثاني جميلة .. إعلاناتها باهرة ..
- تظنين ذلك ؟
- نعم لم يخب ظني قط .. و هذه مدينة الطرب و الحياة .. و الفندق خمس نجوم !
- ما يعجبني فيك يا بشرى هذا التفاؤل المفرط .. لا أدري بسببك أو بسبب الدوش الساخن ، أشعر بتغير و الظاهر أننا سنغير رأينا ..
صلاح هشام :
كيف فاتتني هذه الفكرة ، كان علي أن أدعوها أنا للخروج ، لأهرب بها من هذه الغرفة .. لن تفكر في فتح الستارة إذا كانت خارج الغرفة . نذهب إلى السهرة . و لا أعتقد أن مطعم الفندق - حيث تقام السهرة - مفتوح على المقبرة .. هذا مستحيل .. المطعم سيكون بالحتم في واجهة المدينة .. الواجهة الضاجة بالنوافير و الأشجار .. لأوافق على أفتراحها دون تردد ..
بشرى إبراهيم :
كم كنت سعيدة عندما سمعت زوجي صلاح يقول لي بسرور و ترحيب :
- لنسهر في المطعم السفلي في الدور الثاني .. نفسي مفتوحة للحياة .. ارفعي صوت الموسيقى ..
- التذاكر جاهزة يا صلاح .. حجزنا منذ أول دخولنا ..
- هذا شأن النساء دائماً ، تواقات للحياة .. و هذا أجمل مزاياهن العريقة ..
- كنت مصممة رغم تعب السفر أن نسهر هذه الليلة .. ألم يذهب التعب مع النهار ؟
- أين البيرة ؟ البيرة المثلجة ؟
حمل زوجي البيرة و صبها في كأس طويلة و ارتفع الزبد إلى أعلى الكأس . بعد دقائق ارتفعت قهقهاته عالياً في الغرفة . كان يرتدي بدلته الزرقاء ، و يكمل زينته ، و يجرع البيرة في آن و آخر ، و يمازحني كعادته .. كنت أجلس بجانب الستارة .. و يبدو أنني نسيت . غمرني صلاح ببهجة مفاجئة و سريعة .. نسيت ، يبدو نسيت .. قال لي :
- تعالي أريد أن أهمس في إذنك .. و قبلني قبلة حارة ..
- إلى السهرة !
قال و هو يمسك يدي و نفتح الباب و نخرج .
صلاح هشام :
في الطريق إلى السهرة ، إلى الطابق الثاني ، سبقنا الهرج في الفندق ، الندل الحاملون الزجاجات و الفواكه . الخدم بملابسم الزرقاء السماوية و هم يحملون الحقائب . الأزهار و النباتات الخضراء في الممرات .. النساء الجميلات طبعاً ، بالملابس الجديدة للسهرة .. كلهم يتدفقون في المصعد الكبير في اتساع غرفة .. إلى الطابق الثاني .. ضغطنا زر الطابق الثاني فقط .. و أعلن الضوء الأصفر بداية وقوف المصعد .. زرافات كنا .. الموسيقى ، و الجو الحالم ، الأضواء الخافتة و الديكور الكلاسيكي القديم ، و الطاولات تتوسطها سلة الفاكهة و النادلات الجميلات .. كان المطعم يغص بالحضور من جنسيات مختلفة ، رنين الضحكات و هي تتشظى . أعطيت النادل البطاقة فقادني إلى طاولة صغيرة بجانب لوح زجاجي كبير عريض .. خلف اللوح الزجاجي كانت المقبرة أيضاً في مكانها .. و كأنها تنتظرنا هنا أيضاً .. دهشاً جلست . الم تلحظ زوجتي شيئاً حتى الآن .. قلت للنادل :
- هل يمكن تغيير هذا المكان ؟
أشار إلى الناس المتزاحمين على المقاعد و قال :
- هذا هو المكان الوحيد الموجود .. طلب هذا المكان كثيرون من قبل أن تجيء .. أنت محسود يا سيدي .. هذا المكان يطل على المدينة .. و تستطيع من هنا أن تكشف كل القاعة !
قلت :
- إذن .. شكراً لا بأس !
بشرى إبراهيم :
كنت أعرف أن صلاح سينزعج لو عرف الأمر . كنت في غاية الدهشة ، إذ لم أتوقع أن تكون المقبرة هنا أيضاً في السهرة ، بين الناس .. و أن أحسها تندقم في الظلام المحيط بالأسوار و المدينة و الفندق و الطاولات .. كنت خائفة أن يكتشف صلاح ذلك فجأة .. و قلت للنادل :
- أرجو أن تجد لنا مكاناً آخر فيما بعد ..
قال النادل :
- سأحاول .
صلاح هشام :
قررت ألا ألتفت إلى الوراء . أعطيت المدينة و المقبرة ظهري ، و أعطت بشرى المقبرة و المدينة ظهرها . كنا بهذه الهيئة نقابل "البند" و صالة الرقص تماماً . وجدت في هذه الهيئة مالا يخالف التآلف و النتاسق مع " البند " و صالة الرقص التي توجهت الأجساد و الأنظار إليها .. كنت مأخوذا بالحفل . و الرقص و الموسيقى نسيت .. لكنني بين آن و آخر أفكر في بشرى .. لا أريدها أن تعرف .. أنا نسيت و هي قد لا تنسى لو علمت بالأمر . قضينا سهرة ممتعة و رقصنا في حلبة الرقص .. و في إحدى الصولات و كنا عائدين إلى مقاعدنا من الحلبة الصاخبة وجدنا نفسينا نقابل المقبرة و نحن نمسح عرق الرقص .. و لم نعط المقبرة ظهرنا بعد ذلك .. راينا كل شيء معاً ، و عرفنا كل شيء معاً ، و عرفنا أننا كنا نعرف الحقيقة و نخفيها عن بعض .. فضحكنا للنكتة . في غرفتنا ، في الدور الخامس كانت الستارة مفتوحة .. حين غبنا في عناق طويل .. لم نكن نرى أو نعرف شيئاً .. أو لا نحس بوجودنا .. أنا و بشى في المكان