جلس قبالة البحر ممدداً أقدميه الحافيتين الى أمواج صغيرة لطيفة يبتسم في بله ’ وفي ملامح وجهه براءة الأطفال . في تلك اللحظات توقف الزمن وانسحبت الذاكرة ليعم الصمت والسكون ناشرا رهبة على المكان ، تسربت روحه وانعتقت من سجن الجسد المنهك وراحت تعرج الى السماء .. وفي عروجه كان يشاهد قلبه أشلاءا مبعثرة على رمال الشاطئ الناعمة وكل جزء منه ينزف دما مثل سيل منهمر ِ دماء تجري بلا توقف تتسرب بين ذرات الرمل لتغور الى أديم الارض .. أما كبده فجرحها غائر الى الأعماق حتى لم يعد يرى في ذلك الجرح الا حفرة سوداء تمتد الى أعماقه حافرة بأظافر من فلاذ أخاديداً من جروح تجلد الروح المعذبة كبده مثل كبد أم ثكلى فجعت في وحيدها تبكي بصمت ولا واحد من البشر يواسيها ويخفف عنها .. تلك الكبد كانت ذابلة رآها مصفرة مثل ورقه من أشجار االخريف الذابلة مستسلمة لقدر كان بالأمس فقط جميلاً لتتحول الاشياء من حوله الى جراح نازفة . كل الأحلام بلون الدم ِ كل شيء باهت مثل الموت .. أما عيونه فتحكي حكاية طويلة عيون جاحظة تستجدي دمعا من المآقي فلا تجد الى ذلك سبيلا لتعود المدامع الى الداخل تنهمر سيلا غزيرا طاهرا تمر عبر آهات صدره فتجرح وتنساب على اشلاء قلبه فتشتته .. عيون معلقة من الأهداب بخيوط حلم هزيل هارب من عتمة الظلام وقسوة البشر استغرب من عذاب نفسه ومن مشاهد أجزائه وأشلائه .. وقال بصوت هزيل رقيق :
أهذا أنا ...؟ كيف احتملت ..؟ وكيف صبرت .. ؟ .. حينها جاءه صوت من عتمة السكون تسرب متسللا من اطياف الخيال يناشده برقة حانية : ان الروح التي يغمرها الله بمحبته ويصيرها الى الفضيلة ويجعلها رقيقة مرهفة عذبة قد خلق فيها قوة تهد جبالاً من صخر ’ فهذا ربك قد الهمك صبرا ، فاحمده على فضله الذي لا يزول وخيره الذي لا يحول ..
ابتسم مثل طفل يشدو الى صوت ام رؤوم ولما استقام في جلسته عاد الزمن يتحرك وتناهى الى مسامعه صوت الأمواج وصياح طيور النورس وتسربت روحه عائدة الى جسده ونهض متثاقلا متعباً بطعم الغدر والخيانة ولما استدار راحلا كانت الحياة كلها تتفرج على خنجر مغروس في ظهره تسيل منه الدماء وردا تاركةً بقعاً على امتداد خطاه كأنها شقائق النعمان الجميلة تمتد على مد البصر مشكلةً طريقا طويلا يمتد الى الشمس ولما اختفى في عتمة الحياة بكت السماء وردا اختلط بلون الدم الذي يسيل من ظهره لتصبح الدنيا كلها بلون الدم القاني حتى الشمس اشرقت في الغد حمراء مثل الدم .