كم يبدو المكان كئيبا ً بدون سالم , فمنذ خروجه لم يعد لتلك الزنزانة أي صدى , ولم تعد صرخات أحمد وصاغر تسمع من مسافات بعيدة ! ولم يعد الصقر يحس بأنه الصقر أبداًَ .
خرج سالم بالرغم من الصقر , وبالرغم من السلطة التي يتمتع بها , وعرف على الفور بأن أيامه أصبحت معدودة . إذ انشغل الصقر عن تنفيذ الخطة الثانية لمنع سالم من الخروج بوفاة أمه الحنون .
استلقى هيثم بضعف وهزال شديدين بعد أن تذكر ذلك النبأ المحزن . صحيح بأنه لم يكن يريد الخروج , وبأنه بنى له عالما ً مختلفا وخاصا في تلك الزنزانة القذرة , إلا أنه كان يشتاق لأمه العجوز , والتي نبذته حين علمت بأنه أصبح شريراً ويعمل بالممنوعات ويؤذي كل من حوله بتلك الأعمال التي عشقها الهيثم حتى الموت , فقط ! كي يصبح غنيا ً وتترك والدته الذل والهوان الذي كانت تواجهه من أجل مستقبله .
ابتدأ ذلك العشق لحظة دخوله ذلك المنزل الكبير , والذي دخله زاحفا ً وخرج منه طائرا ً.. تتقاذفه الأمنيات والأحلام !
اتصل به السيد الثري بعد أسبوع من خروج الهيثم من منزله , وطلب منه أن يقوم بتوصيل تلك الحقيبة الغالية لبلاد أخرى , ويعود بما لديه من أموال ليحصل الهيثم على الربع منها , الربع الذي يجعله ثريا بين ليلة وضحاها !
أصبح الهيثم يقوم بجميع أعمال ذلك الرجل الثري , وعلم الكثير عن تلك المهنة الخطيرة التي كان يمارسها .. وعرف أيضا بأن السيد الثري كان مأمورا ًمن رجل آخر , له سلطة كبيرة . في الحقيقة , هو من يؤمن للهيثم كل ما يريده في السجن , شرط ألا يبلغ عن أي من تلك الأسماء التي علمته كل تلك الأعمال الممنوعة .
رويداً رويداً , أصبح تعامل الهيثم مع الرأس الكبير , وأصبح المقرب إليه بدلا من السيد . ومع مرور الأيام .. أصبحت تلك العلاقة الجيدة التي بدأت بين أبو عامر والهيثم , علاقة مهددة , متوترة وتشوبها الكثير من التعقيدات.
وأدرك الهيثم بأنه في خطر من ذلك السيد , إذ أصبح التحدي بينهما كبيرا ً , وأصبح الهيثم نداً قوياً له .
ولكنه لم يدرك أبدا ما يكنه له من حقد وما يحيكه له من مكائد . فقد قام بإخطار والدته العجوز بما يفعله ولدها الوحيد , مما سبب لها أزمة نجت منها بأعجوبة , ونبذته من حياتها إلى الأبد , وهو ما لن يسامحه الهيثم عليه أبدا !
ولم يتوقف ذلك السيد عند هذا الحد , بل أصبح الهيثم همه الوحيد , وتشويه العلاقة التي تربطه بالرأس الكبير وإدخاله للسجن هاجسا ً ملحاً !
وفعلا , دخل الهيثم السجن المركزي , وتعقدت حياته البائسة أكثر مما كانت عليه . حتى قرر الصقر بأن يصبح السجن ذلك العالم الذي لم يحصل عليه في الخارج , إلى أن رمت الأقدار عليه صاحبنا عامر , وردت له الأقدار القليل من جزائه ! ووضعت بين يديه الابن الوحيد للسيد أبو عامر , والذي جعل من حياة الهيثم جحيما ً لا يطاق .
وهكذا , بدأ الصقر سلسلة التعذيب , وبدأ مع دخول عامر السجن الانتقام , ومع كل آهةٍ تخرج من صدر عامر هي ابتسامة رضا وارتياح بالنسبة للصقر !
لم تكن نظرات عامر البريئة والمتسائلة تعني شيئاً عند الصقر . ولم يكن ذلك التجويف الذي ورثه عامر من أبيه شيئا ً عاديا .. بل كانت الزيت حين يُصب ّعلى النار ! وكانت الذكرى التي تعصر قلبه حزنا وألما وغيظا ً, إلا أن كل تلك المشاعر الغاضبة كانت تُخلف ورائها ابتسامة عريضة , ماكرة , يوجهها الصقر لعامر المسكين . كي تليها مصيبة أخرى من كومة المصائب التي تتوالى على عامر .
قطع صاغر حبل أفكار الصقر , فقد كان الأول قلقا على حالته , ويائسا ًمن وضع تلك الزنزانة المظلمة .
- لم لا تدعني أخبر الحارس كي يجلب الطبيب إلى هنا !
قالها , والكثير من اللعاب يتقاطر على وسادة الصقر الكبيرة , أصيب الهيثم بالقرف من تلك السوائل التي يستمر صاغر باخراجها . ولكنه لم يستطع النهوض , ولم يعد يستطيع أمر سالم بطرد هذا الغبي المزعج بعيدا كي يرتاح .
هنا فقط , ذلك الماكر أحمد , والذي ظهرت في عينيه ابتسامة خبيثة وسعيدة حين علم بأن الهيثم يموت !نعم , يموت .. حزنا ًوألما ً لم أصبح عليه حاله بعد وفاة والدته العجوز .
يموت وهو لم يكمل ما بدأه مع عامر , ولم يكمل ما بدأه من سلسلة الانتقام التي رسمها في طريق عامر .
قال وقد أعياه التعب الشديد ,, مغمض العينين يائساً :
- لم لا تدعني بسلام أيها الغبي .
- ولكنك ستموت هكذا .
أشفق الصقر على ذلك المسكين الذي أحبه بصدق . أشفق عليه وهو يرى تلك الدمعة الحائرة تتراقص في عينيه البليدتين .
- دعني أموت يا صاغر , فلم يبق في حياتي شيء ٌ يدفعني للحياة .
مضت ساعات من الصمت المطبق .. ولحظات من الآهات المكتومة . وكأنه وقت الصلاة .. صمت .. رهبة وترقب !
أغمض الهيثم عيني الصقر . أغمض الهيثم عينيه للأبد ... فلم يعد بها حياة , ولم تعد تلك النظرة الثاقبة تندفع من عينيه كالسوط على أحدهم .
نظر صاغر لذلك الجسد الهزيل , لن يتنفس ! لن يرفع يده قليلا كي يسكته !
هو كما كان دائما , منطويا في زاويته المظلمة .. ساكنا ً بلا حراك !
أحمد , يرقب الموقف بكل هدوء , يسمع روح الصقر وهي تنظر ,, تودع ,, وتنسحب بكل هدوء .
تنسحب الى عالم ينتمي إليه الأموات , وتبيت فيه الأرواح بسكون !
قالها بكل برودة أعصاب , ومع قليل من القسوة وهو ينظر لصاغر يذرف دموعه حزنا ً .. ويتحسس ذلك الجسد النحيل ,, عل وعسى تدب فيه الروح من جديد !
- لقد مات .
+++++++++++++++++++++++++++++++++++
قفزت سارة من سريرها .. حاقدة ومكابرة .. لا لن تبكي .. لن تذرف الدموع أبدا على أمر كهذا .. لن تترك لتلك المعلومات الكريهة ان تقودها لطريق ٍمشبوه ومليء بالغموض . مسحت عينها بظاهر يديها الصغيرتين .. ووقفت شامخة أمام مرآتها الصغيرة المكسورة ... انعكست أربعة وجوه بائسة وحزينة .. كلها لسارة !
نظرت بحدة .. وتمنت لو أنها لم تكن فضولية لهذه الدرجة الجشعة .. تمنت لو أنها لم تكن تلك الفتاة التي تتلقى الهدايا من ذلك الثري الذي اكتشفت لتوها بأنه وبكل سهولة ,, عمها ,, !!!
وكأنه شريط صامت .. يعاد بكل وضوح لذاكرتها .. ساره وهي تتلقى الهدايا .. سارة وهي تبيعها كي تعيش .. سارة وتلك السيارة الفارهة تقف بكل بغض أمام بيتها الضئيل .. سارة وهي تسمع الهمهمات من الجيران ..
كان البعض يظن بأن العجوز يستغلها .. والبعض الآخر ظن بأنها ابنته الغير شرعية .. ! ورغم كل تلك الأقاويل .. كانت تحس ببهجة عارمة حين تبيع تلك الهدايا الثمينة وتخزن النقود في صندوقها الصغير !
لم يعترض أحد اخوانها أبدا على تلك الهدايا .. بل أن تلك السيارة الفخمة كانت تختار أوقاتاً مناسبة كي تعلن عن وجودها !
وها هي تثور على أفكارها .. وتتحدى نفسها بمعرفة حقيقة ذلك العجوز .. لتكتشف في النهاية بأنه عمها !!
رسمت ساره خطة محكمة , كان هدفها تلك الفتاة الثرية المدللة .. حيث علمت منها قصة أخيها عامر ودخوله للسجن .. وفي غمرة الأحاديث دار هذا الحوار الذي قلب حياة ساره رأساً على عقب :
- كنت وحيدة , لم يكن لوالدي أي أقرباء غير أخيه المتوفى , لذا كنت كاليتيمة حين توفي وتركني أعاني كل تلك الأمور البشعة .
- ألم يكن لعمك أي من الأبناء ؟؟
- بلى , ولكنها قصة طويلة لا تودين معرفتها .
- أرجوك , ربما أستطيع التخفيف عنك .
- حسنا . كان والدي شابا ً حين نبذته العائلة , لم يوافقوا أبدا على زواجه من أمي , لان ,, !
صمتت مها وخفضت رأسها وكأنها تخجل من أن تكمل .. إلا أن ساره لم تسمح لها أبدا ,, فهنا هو مربط الفرس ويجب أن تكمل هذه المها حديثها مهما يكون .
- لقد كان جدي من أمي يتاجر بالممنوعات ..كانت سمعته سيئة جداً .. وكانت عائلة أبي فقيرة للغاية , وظنوا بأن والدي سيتبع ذات الطريق , ولكنه بالطبع لم يتبعه بل أصبح رجل أعمال ناجح وأحب والدتي بكل صدق .
كانت مها تتحدث عن أبيها بكل ثقة ,, وبكل غرور وفخر .. وكأنها تتكلم عن عجينة صنعتها بيديها الاثنتين .. وتؤكد بأنها لم تضع سوى ذرة ملح صغيرة !
- ألم يحاول أن يصلح أموره مع عائلته ؟؟
- بلى ولكنهم نبذوه بشكل كلي .. لم يستطع أبدا أن يزورهم .. أتعلمين ؟؟ أنا اكرههم جميعا ً.. فلم يكن لوالدتي ذنب كي يكرهوا وجودها بينهم لهذه الدرجة !
تحدثت بكل براءة , وحزن .. في حين كانت الأخرى كالمجنونة ,, تتقاذفها الأفكار ,, تتذكر فجأة غضب والدها حين يتكلم عن أخيه الفاسد .. كانت صغيرة جدا لتدرك ذلك , ولكنها في ذات الوقت سمعت بأنه توفي بمرض خبيث , وهكذا ,, هي بلا ولي حتى هذه اللحظة ! ولكنها لن تسمح بتلك الصدف بالمرور هنا بالذات .. سؤال واحد وتتيقن ساره من الأمر .. سألت بهستيريا عظيمة .. ودقات قلبها تتصارع في جسدها النحيل :
- مها ,, أرجوك أخبريني ,, ما هو اسم والدك بالكامل ؟؟
نطقت مها باسم والدها وفي عينيها نظرة استنكار لسؤال ساره .. ما دخل اسم والدها في كل ما كانت تعانيه ؟؟
استأذنت سارة وعادت قبل الأوان لمنزلها في ذلك البرد .. كانت تخطط للخروج مع مها ولكن هيهات !
تدافعت الدموع في عينيها بكثرة ولن تستطيع اخفائها بعد الآن .
وها هي هنا في غرفتها الصغيرة تصارع تلك الحقيقة المرة .. استسلمت للبكاء .. خرّت في مكانها كي تُخرج كل ما بداخلها من حزن .
كل تلك الفترة وهي تظن بأنها يتيمة لا تملك في هذه الدنيا سوى إخوتها الأربعة !
هل تضحك ؟؟ تبكي ؟؟ أم تنسى كل ذلك !!
اكتشفت وجوده بعدما اختفى .. وجهلت وجوده حين كان حاضراً ! يا لها من حياة غريبة .. لا بد بأنه كان يكفّر عن ذنبه بكل تلك الهدايا .
مها تحبه كثيراً , لا شك بأنه أحبها أيضاً .. لم لا تحبه وقد غمرها بلطفه وحبه ورعايته ؟؟ وإن يكن فاسداً ؟؟ لا بأس فهو على الأقل يعتني بأبنائه .. وهو ما لم تلقاه سارة منذ أمد ٍبعيد !
لطالما شعرت بالخزي لما تقوم به من أعمال مشبوهة .. كان والدها مستقيما ً .. يرسم للفقر لوحة مزخرفة ومليئة بألوان الربيع !! مسكين ,, لم يعلم أبدا ً بأن ابنته الوحيدة ستكون خير معين لتلك الأعمال .. وبأن ابنه البكر أصبح خريج سجون مع الأيام !
بكته سارة في ثورة دموعها ,, بكت ذلك الوالد الذي لن تسامحه أبدا على قتل أخيه وهو حيَ يرزق !
كم كانت الأمور لتختلف لو أنهم علموا بوجوده .. ليشكلوا عائلة من جديد .. ويؤمّنوا قوت يومهم بكل سهولة .
في مكانها .. وفوق تلك السجادة الصغيرة بالتحديد .. نامت سارة .. استنفذت دموعها كلها خلال ساعات قليلة .. وهي التي ظنت أنها لا تبكي أبداً !
++++++++++++++++++++++++++++++++++