بين الحقيقة والخيال
خيال الإنسان بحر لا ساحل له ، يطير بصاحبه إلى خارج أفق الحقيقة ، تراه تارة يجاور به النجوم ، وتارة يغوص به البحار، ولكن عندما ترسي به في أحضان الواقع ؛ فتمزج الخيال بالحقيقة ترى هنالك جمال ممزوج بين الحقيقة والخيال .
أردت أن اسرح بخيالي ولكن إلى الوراء قليلا أداعب به ذكريات الماضي الجميل الذي ما كان ليفارق أصحابه في كل مجلس ومرتع.
لعلي وقفت بين ظلمة ونور وإذا أنا في سيارتي الجديدة وبثوب جديد اخرج في شارع من شوارع الطائف قديما قبل خمسون عام، وإذ بالشارع مرصوف ببعض الحجارة ضيق من أطرافه، يوجد به رجل ينظّم سير الناس والدواب وقليل من السيارات في مفترق الطريق يكاد يصعق بهذه المركبة التي مرت من جانبه وكأنها نزلت من السماء والناس من حوله ينظرون، حينها انتابني شعور عجيب يشوبه الجمال عندما دخلت بسيارتي بين تلك الدكاكين الصغيرة بها الناس يبيعون ويشترون، ترى أهل التمور وأهل الحلي بل وترى الحائك يقص قماشا ليفصل ثوبا قد لا يلبس اليوم ولكنه في وقته نادر عجيب ، ترى الساقي على حماره أكرمكم الله يطوف الحواري يبيع الماء ، وترى بائع الفاكهة يصيح بقرش وقرشين وخمسة قروش، حياة بسيطة في عيني ولكنها صعبة في أعينهم .
تجولت وإذا بمجالس التجار وكبار السن والشيوخ على أرصفة مبانيهم ودواوينهم وترى الساقي يمر بالقهوة بينهم.
ومررت مسرعا من تلك الردهات لأرى ثكنات الجيش والعساكر الذين يطوفون ميدانا هو في نظري لا يكفي مواقف لبعض المحلات اليوم، ترى تلك الجمال المحملة وترى تلك الأغنام التي تساق إلى السوق .
انك لتعجب من بساطة هذه الحياة وفي نفس الوقت تحيط بها السعادة والبشاشة من كل جانب.
مررت مسرعا وإذا الناس مجتمعون في مصلى كبير وأفاجئ انه يوم العيد فتوقفت أرى وجوه الناس وهم خارجون من المصلى وإذا السرور والضحك في أعين الصغار قبل الكبار وإذا الناس يسلمون على بعض ويقسم بعضهم على الآخر إلا دخل بيته أولا ، تشاهد تلك الثياب الرثة وهي جديدة في وقتها لا تلبس إلا يوم العيد،
عجبت من كثير من الأطفال وبعض الكبار حفاة لا يحتذون ، شعور مرهف مع تلك الحياة الصعبة في نظري بقسوة حال أهلها ، تبعت بعض الأهالي إلى بيوتهم ودخلت وإذا بالتمر والقهوة والسمن البلدي وشيء من الثريد واللبن الطبيعي موضوع في صحفة من خشب منقوشة ومنحوتة من أطرافها وهم مجتمعون حولها والفرح يجوب المكان ، تسمع كبار السن يمازحون الصغار وترى الصغار يمرحون قليلا ثم ينطلقون إلى ما يطلب منهم من أعمال هم فرحوا بعيدهم ولكنهم ما نسوا واجباتهم اليومية حتى في يوم العيد.
هنا وقفت انظر مذهولا مرة ذات اليمين وتارة ذات اليسار من أمامي ومن خلفي إذا بالسعادة والحزن ممتزجان ولكن لكل منهما طعم ومذاق .
تمنيت عيشهم السعيد البسيط بعيدا عن مشاغل والتزامات الحياة التي نعيشها اليوم ، لقد امتلأت عيني دموعا حارة عندما رأيت السعادة تملئ قلوب الناس ، وترابط اجتماعي عجيب فقدناه في وقتنا اليوم.
وبينما أنا في هذا الشعور بين حقيقة وخيال وإذا بأحد ابائي يدخل إلى مرتعي مزمجرا يشوط غيظا من احد اخوانه فتركت الطائف وعدت إلى زماني عبر الزمن في لمح العين وخلال أجزاء من الثانية لكي اسمع ما يريد واحل مشكلته.
عجبا لهذا الخيال مضى و تركني في عالم السرعة والالتزامات أعادني إلى كآبة الحاظر لقد انتقلت من البساطة إلى التكلف ، ولكن لعلي اسعد عندما أموج بخيالي إلى مكان آخر غير الطائف قريبا.