بوابات الطائف القديم ... موية الزير ... بنت الجيران ... المنتو .. الهريسة .. الحلقوم ... البليلة .. أغاني صباح فخري ... عزف محمد السنبوسك ... أشعار الجدات القديمة ... تراتيل الشيوخ الصادرة من مآذن المسجد الملاصق لبيتنا ... سور المدرسة ... عم عبدو... هورية المشمش ... صمت المقابر ... زقاق هديه ... ألوان السماء ... المفرقعات الممنوعة ... طلال مداح .. حارة أسفل ... أكياس الماء .. برحة ابن العباس ... الصخب ... الذبول ... القهر... النمو ... كلها عادت من جديد..
كقطرات الندى التي تلتصق بوجه القمر .. بلون الضباب الذي يلون مدينتي الصغيرة... بحجم الفضاء المتسع الذي لا يضيق إلا بالساكنين في البيوت المجاورة ... تمردت كل اللحظات ... مرت الأيام كالحُلم الجميل ... وعادت التفاصيل القديمة تركض بجوار عقلي كريح مسرعه... أتذكر كل تفاصيل هذه الحكايات الصغيرة .. وأرحل معها صوب المحسوس ... تتقاطع في وجهي ملايين الحكايات .. ينشأ بينها رابط عجيب ... يجمعها تحت تعاويذ الطفوله .. وطقوس البراءة ... حلم نسجته لي الأيام وأهدته لي على طبق مزخرف بالتراتيل التربويه ... والعقد التي لم تجد حلولا إلى الآن ...
كانت مساحات اللقاء الشاسعه ... تمتد من الفراغ .. وحتى حدود الحُلم الذي يسكن مخيلتي ... كانت أحلامي بريئة .. هشة ... لزجه ... لا تعترف إلا بالأمنيات ... ألعابنا التي تحتوي شقاوة طفولتنا ... كانت معبرة ... تزيح عنا كل السخط الذي لا نتحمله ...
بدأت رحلتي إلى المدينة الملتهبة... وإلى الزخم السكاني المريب ... منذ تكون أطرافي ...كان وجهي قروي يلهبه الظمأ ويجتاحه الخوف .. وتلثمه الدهشة التي سيطرت على كل تفاصيله ... بجفاف جلد كان يكسو تراكيب جسدي ... كانت أحلامي تغرس تفاصيلها في هذا الجلد الممتلئ بالقحط ... والجروح ...والدمامل ... فرحت جدا عندما احتضنتني مدينتي التي كنت أسمع عنها في المذياع الذي تسابقت عليه العناكب لبناء منازلها بينه وبين الجدار المصفر ...المعفر الرائحة ... ذو نكهة أشبه بحليب الماعز المخنوق بالريحان ... كنت أتذوقه كثيرا لا لشيء ... ولكن متعة الطفولة تكمن وراء تجريب كل شيء ... حتى لعق الجدران الصامتة ... لعل طعمها يخفف علي.. وطأة الصمت العنيف ...الذي يسكن كل قرية أوت ساكنيها...
رأيت ذات حُلم ... أن الأيام المرة ..لا يمكن التخلص منها ... إلا بالاندماج مع مجتمع مدني ... يوفر لك أقصى ما تتمناه من أحلام ... كان امتداد ظلي قصيرا ... قزما ... ملتحفا بستار الانبهار بمجتمع مدني...مزدهر
كانت المدينة... عرس جميل ...تزهو بها روائح الورد..والأطفال ... والأغاني القديمه ... ( آه يا حلو يا مسليني ... يالي بنار الهجر كاويني... من كثر خوفي عليك ما بنام.... ) كثيرا رددت هذه الأغنية ...وغنّيّتُها مع كل أترابي الذين يتسابقون خلف سيارات المبيدات الحشرية ..التي كانت أشبه بمدافع حربية نظرا لتحذير والدي من العبث ... أو الجري معها .. أو خلفها ... أو فوقها ...
كنت سريع الانصهار في هذا المجتمع ... شديد التصلب في أخذ القرارات ... سريع الانتشار عندما نلعب بأي شيء ... حتى بأكياس الماء التي نتراشقها بعد كل يوم دراسي رتيب ... عرفت كل من يسكنون بجوارنا في فترة وجيزة ...وتأقلمت معهم بنكهتي الجبلية الفظة ...
تذوقت لأول مرة في حياتي كل ما تمنيت أن آكله بمجرد أنني سمعت عنه ... كان عم عبدو أفضل من يعد البليلة الممزوجة بالخل .. وقطع تشبه الطماطم .. لكنها اتضحت لي في آخر الأمر .. أنها صبغة لجزر قام العم ببشره وتلوينه بهذه المادة الحمراء ...
كانت بنت الجيران تزود بيتنا بشكل دوري أنواع المأكولات الرائعة... لأن والدها يجلب الكثير منها فيقوم بتوزيعه على الجيران ... بغية منه في توطيد أواصر المحبة ... بيننا ... باعتبار أننا عائلة واحدة ... وأسرة واحدة ...
( ومن الشباك ... لأرمي لك حالي ... ومن الشباك ... لأرمي لك حالي .... ) كانت هذه الأغنية تسبح في فلك أذناي المهشمتين التي لم تعتاد إلا على سماع صرير الحشرات العازفة .. وتطارد أصوات المولدات الكهربائية العنيفة ... كانت أذني موسيقيه ... ( أتوقع ) ... لأنني كنت أخلط الأصوات وأؤلف من هذه الأصوات مقطوعه ... لا يجيد عزفها إلا أنا ... فقط
كان التلفاز بحد ذاته ... قمة الدهشة التي تملكتني ... ولكم أن تَصِفو علاقتي مع هذه العلبة التي تعرض صورا متحركة ... لعل أبرز شيء كان يقوله لي أحدهم .. أن رجلا قام بسجن كل هذه الشخصيات داخل هذا الصندوق وأنه يجب علينا إطعامهم كل يوم حتى الإشباع .. وطريقة الإطعام تتم بشكل يومي ... بعد صلاة العشاء مباشرة ... لم أصدقه .. لأنني كنت حينها أدرك أن التلفاز هو مادة إعلامية مثله مثل المذياع ... لكنه يختلف بأنه يعرض الصوت والصورة ... في آن واحد
كنت أجوب الطرقات بحثا عن كل جديد ...انطلقت كثيرا في أزقة المدينة القديمة ... زقاق هديه هو من حفظ طرق قدمي فوق ظهره ... وهو من حملني زمنا ... دون سخط ... أصوات المآذن تشرح صدر كل من يستمع لها ... وألوان المساء تغريك بأن تبكي .. عند النظر بها لمجرد الاستمتاع ... كان الحديث كثيرا مع نفسي وكانت المدينة تلهب فكري ... وكانت المقارنات ... تجعلني دائما .. أحب مدينتي الصغيرة ... وكنت أحكي لكل سكان قريتي ... أن المدينة .. أجمل ... في كل حالاتها
شكرا للمصورة لينه بنوب على هذه الصورة