وفاقتِ الأقدارْ
.. ليس عندي ما أبذله لك من جديد أيها القدَر!، فخذ من جسدي ما تريد وارتحل، وابقي عليَّ ما يجعلني أعيشُ لعمر آت، - لعمري الآت فقط- ابقي علي ما أتنفّسُ به مثل البشر، ولا تقتات ما تبقى من نزفي!، ومن أشيائي البسيطة التي أتوكأ عليها. خذ ما تشاء، واترك ما تشاء ، فقد غدوتُ سلعةٌ لا فائدة فيها كبضاعة خردوات مركونة في قبوٍ قديم، فقط ابقي علي أنفاسي لتشيخ معي، وإن قررت إبقاء أنفاسي فابقي لي معها قلماً أكتب به إليك رثائي لمدن جسدي التي تحطّمت جسور شوارعها لقاء أفعالك ، ونكّست أعلامها داخلي كدولةٍ محتلّة ، وأحرقت محلاتها التجارية!، اسكبْ أحزان الناس كلهم داخلي فأنا نصبٌ تذكاري لهذا العناء ، وهذا البؤس الإنساني المنبوذ كفردة حذاءٍ قديمة في يد " إسكافي " يعرضها للتعريف بسلعته فقط !، وأنا خرمُ إبرةٍ يضيق مع تكاثر الصدأ فوقه. واليوم ، اليوم بالذات جئتَ تنخرني من جديد برأسِ هذه الإبرة المدبّبة لأصاب بجميع أمراضي الوراثية، وبكل أفعال الشقاء الكونية، وكل الكوارث التي تزلزل أعصابي، وتجمعني حصادَ إرضٍ بور لم تنجب فاكهة ذي قيمة غذائية حتى الآن.جئت على كل شيء أيها القدر وعصبتَ عينيَّ بقطعة همٍّ سوداء لتغيبني عن كل أفعالك، ولكني مؤمنٌ يصلي ويصوم، ويركعُ ركوعاً طويلاً يخشى فيه ربّه، فلا تغيبني عن أحزاني وأنا الذي خُلقَ من آلامٍ متراكمة بعضها فوق بعضٍ كحشائش احترقت وتنتظر الرياح. واليوم وقد استحلتُ كائناً من الرماد، تمزقه الأوجاع التي تكبره ، وتمسكُ بيديه حروقٌ سطحية لا علاج لها في محيطٍ غارقٌ بهمّه، ومتسكّعٌ فوق "سافانا" الهم ، والكراهية العظمى لخوض تجارب الإنسان بذات الإنسان اليوم أحضر رياحك أيها القدر ، وخذني رماداً لن يعود مرّة أخرى!. الذين يلعموننا دوماً هم الذين نعوّلُ عليهم في كسر أشواك الطواويس الذين هزّنا غرورهم، هم الفئة الوحيدة فقط التي تجعلنا نمارس الحياة من جديد بلا خوفٍ من قدرٍ قادم ، أو حلم غير محقّقْ.
أيها القدر المؤلم ، إنني وفي هذه الساعة الثالثة من حنين الذكريات أتمتّعُ بقسط كبير من التوق ، وأضيف برغبتي حصادَ عيوني من الدموع. وأسقطُ مغشيّاً عليه من آثر الدخان الأسود ، أحرق كل المتاع ، وأحرقتُ أنا ، وصودرت منيَّ كل أجزائي، وأطرافُ أمنياتي التي لم يبقى منها إلا طورٌ غيبي قادم، وهل يعلمُ البشر الغيب ؟.
إنني أتمزّقُ تحت عجلات قطارِ الشقاء ، وأحبسُ أنفاسي في مطارات الهم الكبرى، وأودّعُ كل يوم إحدى أوراقي الكريمة ، وأحتفلُ بما تبقى من فُرشٍ كانت تنام عليها أرواحٌ تعلّقنا بها ، وهممنا بإسعادها كثيراً، وحين وافاها الأجل باركنا دفنها لنُبقي لنا منها شيء، شيءٌ لا خلاصَ منه أبداً. نبقي الحنين ، ونبقي إلى جواره طوفان الخوف من قدرٍ آتٍ إلينا ليلحقنا بأولانا. وكعادتك أيها القدر تأتي كما تشاء، وتأخذ من تشاء دون إذنٍ من أحد ، أو إصدارِ صّكٍ بخاصية التنفيذ..، وأنا وحدي أستقيمُ على خطوط البدايات الأولى للصبر "وأبشر الصابرين"، وأحتفظُ بما تبقى لي من صور محروقٌ نصفها وسليمٌ نصفها الآخر! وهل نستطيع معرفة الأنصاف المفقودة متى تراها تكتمل!؟
..."لا تثريب عليك اليوم "أيها القدر فأنتَ وحدكَ من قرر حرق متاعي، وأنتَ فقط من قرر قتل أصدقائي، وأنتَ من سلبني أبريائي، وأنت الذي ستقرر في القادم كشف الأنصاف المفقودة من خباياك لأجلي، ولأجلي فقط ستفعلُ بي كل ما يأمرك الله به. وثق بي .. ثق بي يا قدري دوماً فإنني كريمٌ في استقبالك ، وأنت وحدكَ من يعلم ، وأعشقك كل العشق أيها القدر...
– الرياض – المملكة العربية السعودية - 15 / نوفمبر / 2008 م