خريف غزة العاصف
1
د. أكرم حجازي
20/1/2009
لأول مرة، منذ اغتصاب فلسطين سنة 1948، يدرك العرب والمسلمون والعالم بعض وقائع المظلمة التاريخية التي حلت بالفلسطينيين على يد اليهود والقوى الدولية.
ولأول مرة يعيش هذا العالم بمختلف مكوناته القومية والعرقية حتى في زوايا الأرض جرائم ضد الإنسانية تجري وقائعها على الهواء مباشرة. ولأول مرة يعاين العالم إسرائيل كدولة ونظام فوق القانون وفوق المشاعر الإنسانية وفوق القيم والأخلاق وفوق كل روادع آدمية أو ربانية، ولأول مرة تصفع إسرائيل العالم على وجهه عنتا وغطرسة وازدراء بالحياة الإنسانية ومعاناة الشيوخ والنساء والأطفال والحجر والشجر وعشقا للقتل بصورة تفوق بشاعتها تلك الجرائم النازية إبان الحرب العالمية الثانية إن لم يكن أسوأ بمرات ومرات. ولأول مرة يشعر المواطن العربي والمسلم ويعاين بكل حواسه ومداركه العقلية والنفسية مدى الخذلان العربي والإسلامي الذي رافقه على امتداد عقود الصراع.
في هذه الحرب، وعلى مستوى الأمة الإسلامية، برزت تناقضات عجيبة ومشاهد مذهلة، بعضها منطقي أو يمكن تفهمه، لكن أكثرها، أقل ما يقال فيها، أنها فاضحة في ازدواجيتها إن لم تكن نفاقا مشهودا له بالجدارة.
مشاهد وتناقضات أمرها سيان في الإعلام والسياسة .. بين العلماء وطلبة العلم .. بين المفكرين والكتاب .. بين ما يعلنه الحكام وما يسمحون به واقعا أو يفعلونه .. بين الجماعات السياسية والدينية .. بين الشامتين بالفلسطينيين والمناصرين لهم .. بين المغرضين والمتربصين .. بين هؤلاء وأولئك .. وحيث كان هؤلاء وكيفما كان ثمة غاية ومصلحة فيما يبوحون به من مواقف أو يقدمونه من رؤى، لكن ما من مرجعية واضحة وما من منهج محدد يمكن الركون إليه أو الاسترشاد به في النوازل الكبرى وحتى الصغرى منها.
هكذا، فإن أفضل ما في هذه الحرب أنها بدت كالشجر في خريف عاصف سقطت فيه كل الأوراق وبانت الحقائق صافية جلية لا تشوبها شائبة. وعليه فإن كل ما تبقى على القضية الفلسطينية فقط انتظار سقوط المطر مع اقتراب فصل الشتاء. وفيه إما خير عميم أو طوفان مدمر، وفي كلتا الحالتين سيتغير كل شيء. فلنتوقف قليلا لنعاين الحقائق المطمورة.
الخيار العربي
(1)
لم تكن الصواريخ التي تطلقها الحركات الفلسطينية على المستوطنات اليهودية المجاورة سببا في الهجوم على غزة، فهي بالكاد استعملت ذريعة إعلامية لتضليل الرأي العام الدولي على وجه الخصوص. ويعلم قادة اليهود وفي مقدمتهم الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس أن معاناة اليهود جراء إطلاق الصواريخ على امتداد السنوات الثماني السابقة للهجوم هي تبريرات أوهى من خيط العنكبوت.
إذ أن قواته قتلت مئات الفلسطينيين وجرحت الآلاف منهم قبل أن تظهر القوة الصاروخية البسيطة بيد الحركات الفلسطينية. ولسنا نظن أن أحدا يحتاج إلى الكثير لنقض الأطروحة الصهيونية التي يصلح تسويقها لرأي عام أغلبه مناصر لإسرائيل أو مضلَّل منذ عقود مع عدم إغفال درجة الانكشاف الخطيرة للدعاية الإسرائيلية جراء هذه الحرب الحاقدة بكل المعايير الإنسانية والأخلاقية والدينية. أما أن يسوقها بيريس ومتحدث جيشه على الضحايا فهذا مدعاة للسخافة والعجرفة وتحقيرا لدماء الضحايا.
ليست هي الصواريخ العبثية إذن. وكل ما في الأمر أن الأوان قد حان لوأد المقاومة الفلسطينية كرد طبيعي لجأ إليه الفلسطينيون لمواجهة اغتصاب أرضهم وإقامة إسرائيل عليها. هذا الخيار هو الذي أرادت إسرائيل وغيرها تصفيته ونزعه من العقل الفلسطيني والعربي بصورة نهائية.
أما لماذا تفعل ذلك؟
فليست التحليلات هي من يمتلك الإجابة بقدر ما هي الوقائع والسياسات التي تفرض نفسها كاشفة النقاب عن صورة وضع عربي معجون بتناقضات عجيبة لا مثيل لها في العالم جعلت منه أشبه بالقطيع الهائم ليست له أية مرجعية تذكر ولا هدف ولا طموح، ولا يتمتع بأية مسؤولية تجاه مصيره وتجاه قضاياه المصيرية.
فعلى المستوى العربي انفرط العقد منذ حرب الخليج الثانية (1991)، فالقادة انقسموا بين من يؤيد الحل الأجنبي العسكري ومن يؤيد الحل العربي السلمي للأزمة. وانقسم معهم العلماء والمثقفين والصحفيين، وظل العقد ينفرط إلى أن بلغ الشعوب التي بات بعضها يحقد على بعض. وصار لكل فريق حلفاؤه السياسيين وعلماؤه ومثقفيه وكتابه وجماهيره وشعوبه.
في تلك الفترة من الزمن لم يعد ثمة محايد ولا متعقل ولا موضوعي ولا منصف ولا حكيم. فكل فريق يمتلك من هؤلاء ما يكفي لمقارعة الفريق الثاني والسخرية منه. فماذا كانت النهاية؟
لا شك أن العراق سقط مرتين وسقطت أفغانستان ودمرت الشيشان ونهبت الصومال وقسمت البوسنة وُجرَّ ما تبقى من فلسطين إلى أوسلو وعاش فريق التسويات أمجادا طالما حلم بها، وحطت القواعد الأمريكية والاستخبارية رحالها في كل بقعة عربية حتى لم تبق دولة آمنة ولا هي بمنأى عن الاحتلال المباشر أو غير المباشر.
وكانت النتيجة أن دولا وقعت معاهدات دفاع مشترك مع القوى الغربية الغازية وأخرى وقعت معاهدات سلام مع إسرائيل وثالثة بحثت عن تسويات سياسية معها ورابعة تبرعت بتقديم المبادرات تباعا وأخرى أقامت علاقات دبلوماسية أو افتتحت ممثليات تجارية وثقافية وقنصلية ... إلخ وغدا من الطبيعي النظر إلى المقاومة كالنشاز في سمفونية حالمة أو كالحجر يُلقى في بركة راكدة فيعكر صفوها.
الأسوأ من هذا أن المقاومة نفسها، قبل وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو، غدت موضع تساؤل بين القوى الفلسطينية ذاتها إلى أن تحولت، حينا، إلى مجرد خيار لدى من يدافع عنها بل وعبء عليه في بعض الأحايين وعلى من يناهضها.
وبهذه الكيفية بالذات وجدت القوى المناهضة للمقاومة، عربية كانت أو فلسطينية، أن الفرصة مواتية لإدانتها وضربها والتخلص منها وجرّ الشعب الفلسطيني إلى الأطروحة الغربية والصهيونية القاضية بالانحياز إلى التفاوض كخيار وحيد لتسوية ما تبقى عالقا من القضية الفلسطينية سيئة الذكر.
بعد قليل من انطلاق مؤتمر مدريد للسلام (1992) توصل مفاوضون فلسطينيون سرا إلى اتفاق إعلان مبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عاد بموجبه الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات إلى فلسطين، لكن المفاوضات تعثرت مرارا. وعلى مقربة من منتصف العام 1999 بدأت مفاوضات كسر عظم بين عرفات واليهود في منتجع كامب ديفيد، وألقى الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بثقله فيها، وحاول الأمريكيون واليهود معا فرض حل يستثني القدس ويسمح بانسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية بما نسبته 45% من مساحتها الإجمالية، إلا أن عرفات الذي تعرض لتهديدات مباشرة بالقتل وإهانة شخصية بالغة من مدير وكالة المخابرات الأمريكية جورج تينيت رفض المشروع المقترح عليه.
وعاد إلى غزة وفي ذهنه افتعال مواجهة مع اليهود على اعتبار أن ما لديه من أوراق للضغط لا تكفي لإنجاز انسحاب إسرائيلي شامل من الضفة الغربية وعزة والقدس، وهذا يعني أنه أراد تحسين فرص التفاوض لديه. وجاءت فرصته مع اندلاع انتفاضة الأقصى التي تسبب بها اليهود حين قرر شارون، بمباركة من قادة اليهود، زيارة المسجد الأقصى.
وفي أوائل الانتفاضة تسربت تصريحات من الجانب الإسرائيلي تفيد بأن دولا عربية حثت إسرائيل على إنهاء الانتفاضة والتخلص من عرفات. لسنا متأكدين من ذلك، لكن هذا ما حصل في بضع سنوات من اندلاع الانتفاضة حيث قتل الرجل مسموما فيما يحاول خصومه الذين يرفضون فتح تحقيق حتى الساعة الزعم بأنه قتل بسبب إصابته بفيروس الأيدز!
وخلال الانتفاضة بذلت إسرائيل جهودا جبارة في القضاء على القيادات الفلسطينية الكبرى من شتى الاتجاهات، ونجحت في تصفية القادة الميدانيين إلى أن خلت الساحة من أي رمز فلسطيني على مستوى العالم حتى لو كان اجتماعيا. وكان سهلا على إسرائيل، التي سعت إلى ذلك ونفذته على أكمل وجه، أن تقول بأنه لا يوجد قيادة نفاوضها. وفعليا لم تعد تجد من تفاوضه إلا أولئك الذين أرادت أن تدفع بهم من القعر إلى السطح ليكونوا نظرائها المرغوب فيهم سواء علموا أم لم يعلموا.
إذن مشروع ضرب المقاومة قديم وليس بجديد. وبقطع النظر عن استدراج القادة الفلسطينيين إليه عبر معادلة الأمن مقابل السلام يمكن القول أن إسرائيل نجحت في توطين أطروحتها بين العرب والقيادة الفلسطينية ممثلة بمؤسسة السلطة التي جلبتها اتفاقيات أوسلو.
وإذا كان البعض يتحدث عن تواطؤ عربي في وصف الحرب على غزة فالحقيقة تؤكد أن الحديث بصريح العبارة عن خيار عربي رسمي مناهض للمقاومة وليس مجرد تواطؤ نجم عن خلافات سياسية مع حركة يراد تأديبها على غرورها، وهذا يعني أن السياسة العربية ماضية في خيارها سواء كانت حماس موجودة أو غائبة عن الفعل السياسي والعسكري الفلسطيني.
لكن ما هي تاريخية إسقاط المقاومة؟ وكيف؟
ويستمر سقوط الأوراق