القلب إذا خلى من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رياسة أو صورة
وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة والتأهب للقدوم على الله عز وجل فذلك
أول فتوحه وتباشير فجره فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة مايرضي به ربه منه فيفعله
ويتقرب به إليه ومايسخطه منه فيجتنبه وهذا عنوان صدق إرادة فمن أيقن بلقاء الله
لابد أن ينتبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصلة إليه فإذا تمكن في ذلك فتح
له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات
فلا شيء أشوق إليه من ذلك فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته وتسد عليه الأبواب
التي تفرق همه وتشت قلبه فيأنس بها ويستوحش من الخلق
ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها ويجد فيها من
اللذة والراحة أضعاف ماكان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل
الشهوات بحيث إنه إذا دخل في الصلاة ود أن لايخرج منها ثم يفتح له باب
حلاوة استماع كلام الله فلا يشبع منه وإذا سمعه هدأ قلبه كما يهدأ الصبي
إذا أعطى ماهو شديد المحبة له ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به
وجلاله وكمال نعوته وصفاته وحكمته ومعاني خطابه بحيث يستغرق قلبه في
ذلك حتى يغيب فيه ويحس بقلبه وقد دخل في عالم آخر غير ما الناس
فيه .
ابن القيم