د. خضر محمد الـشيـباني ياب البعد العلمي عن بنية الثقافة العربية المعاصرة جعلها غريبة على عصرها وبعيدة عن متطلبات مستقبلها، عاجزة عن التصدي لتحدياتها..?نستطيع?بإيجاز أن نعرّف (الثقافة) بأنها: (مجموع الأفكار والعادات والتقاليد والمفاهيم التي تحدّد وعي الإنسان وسلوكه، وتصوغ أولوياته واهتماماته، وتشكّل حوافزه وممارساته، وتوجّه طاقاته ومواهبه، وتنظّم علاقاته وتعاملاته)، ولذا فقد تكون لبعض أشكال الثقافة آثار سلبية، وقد يكون لبعض الممارسات نتائج كارثية، ومن هنا كانت أهمية تمحيص المكونات الثقافية وفحص العناصر الفكرية في (الحراك المجتمعي) إذا كان المطلب هو صناعة عمليات أساسية في (التنمية الثقافية) تحدّد واقع المجتمع، وترسم مستقبله، وتصوغ تفاعلاته. من هذا المنطلق فإن ما يطرحه البعض تحت عناوين ثقافية أو مشاريع فكرية تستهدف استفزاز المجتمع وتهييج بعض فئاته تصبّ بالضرورة في (الثقافة السلبية) التي تضرّ بعمليات (التحوّل المجتمعي) البنّاء الذي يهدف إلى تطوير (منظومة متجانسة) قادرة على تقليل أضرار التحوّلات، وتعظيم فوائدها، وتعميق معطياتها، وأما أولئك الذين حسبوا أنهم يحسنون صنعاً بتصادمهم مع القناعات السائدة، وسعيهم لهدم الثوابت المستقرة، واستفزازهم للتركيبة المجتمعية، فإن المنطق والتاريخ يؤكّدان أن نتاج جهودهم ليس إلاّ مزيداً من إشاعة الاضطراب، وإثارة الفتنة، وتهديد (الأمن الفكري) للمجتمع من حيث يعلمون أو لا يعلمون. لقد غدا من بدهيات (أدبيات الثقافة) أنه إذا أخفقت (الثقافة) في التكيّف مع التحدّيات والمتغيرات، وفشلت في إفراز عناصر قادرة على خلق (المواءمة) وضبط (التوازن)، فإنها تفقد (الفاعلية الاجتماعية)، وتتوقّف عن تحقيق وظيفتها، وتراوح بين حالين أحلاهما مرّ؛ فهي إما أن تكون مثاراً للجدل والخصام والاستفزاز لتفقد بذلك التماسك الضروري لها لتستحق مصطلح (ثقافة)، وإما أن تتحوّل إلى جسد هامد فاقد للحيوية والحياة يُلقي بثقله على حركة المجتمع، ويقيّد نموّه وتطوّره. نستطيع أن نقول - بكل صراحة - إن أعظم إنجازات (الثقافة العربية) في القرنين الماضيين هو إحباط (الذات العربية) التي حسبت أنها ستجد بلسماً شافياً لأسقامها في ثقافة قادرة على مواجهة التحديات، وتوحيد الجهود، واقتلاع السلبيات، وإطلاق النهضة، وغرس التنمية؛ فإذا بها على مدى حقب متتالية تحصد الكوارث التي عجزت عن تلافيها ثقافة كسيحة كبّلها تسارع الأحداث من حولها بينما انصرف جمع من المحسوبين على الثقافة والفكر يكرّسون نرجسياتهم العقيمة في قضايا جدلية ومصادمات اجتماعية، ويصنعون الهالات الإعلامية حول طروحات تفرّق ولا تجمع، وتستفزّ ولا توحّد، وتهدم ولا تعمّر، وتضرم النار لمجرّد أنها تريد أن تصف مشهد الحريق، وتنبهر بألسنة اللهب!. وهكذا ضاعت المعاني الحقيقية للثقافة، وافتقدت (الثقافة العربية) - في المقام الأوّل - دلالات (ثقافة تنموية) مستندة إلى عملية (التحدّي والاستجابة)، وذلك كرؤية لازمة لتحريك المجتمعات، واستنفار جهودها، وتعظيم مواردها، لتتفاعل مع النسق الحياتي في جهد دؤوب وفعل تراكمي ينحتان في قوام الوطن لتحفيز القدرات، وتصحيح الممارسات، وتطوير الأداء، وتعميق الانتماء. لا شك أن غياب (البُعْد العلمي) عن بنية (الثقافة العربية المعاصرة) جعلها غريبةً على عصرها، وبعيدةً عن متطلبات مستقبلها، وعاجزةً عن التصدي لتحدياتها؛ فالاتصال بينها وبين العلوم هو اتصال سطحي هزيل يعتمد على الشكليات وحب الاقتناء والاستهلاك مما يجعل معاييرها مزاجية منبهرة، أو سلطوية صارمة، فراحت تتخبط في الجدل الكلامي والتهييج الإعلامي والمحاولات الشخصية للبروز والانتشار على حساب القيم والثوابت والقضايا الحاسمة؛ وحتى ذلك الزعم المتكرر بأهمية (الفكر العلمي) وتمجيد معطياته فإنه في الغالب حديث مناسبات، وهو لا يكاد يتجاوز حناجر أدعيائه حتى يتحوّل إلى مادة معيقة للتنمية، وقاتلة للحوافز. يحضرني في هذا المقام استشهاد المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة)، وهو يوضّح إمكانات (الثقافة) وقدراتها على التفاعل والإنتاج فيستشهد بالوصف النبوي الوارد في قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: (مثل ما بعثني الله عزّ وجلّ به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله عز وجل به الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً)؛ وهكذا حال (الثقافة العربية) فهي لا تُمسك ماءً ولا تُنبت كلأً فيما يخصّ معطيات العلوم الحديثة وحركة التقنية المعاصرة وتدافع التحديات القائمة، وهي لا تتعامل مع مصطلحات العصر بعقل واع قادر على التمييز بين (الخبيث والطيب)، وبين (التنموي والجدلي)، وبين (الجوهري والاستفزازي)، وبين (المُمكن والمستحيل). الثقافة، بمعانيها الحضارية ودلالاتها التنموية، هي التي تصنع مقوّمات المجتمع وترسّخ تماسكه، وهي تحفّز وتنمّي، وتجمع وتطوّر، وهي تنبذ، بطبيعتها الجادة، عمليات تكريس الجدل والإسفاف والاستفزاز باسم الإبداع أو الإثارة أو الإصلاح المزعوم، وهي تسعى بموضوعية وحكمة للتعرّف على خصائص المجتمع وعناصر تحدياته دون انبهار أمام سطوة (الآخر)، أو إذعان لسلطة (التأويلات الفاسدة). الثقافة، برؤاها الرفيعة وتطلعاتها النبيلة، تربأ بنفسها أن تكون هادمةً لأواصر المجتمع وروابطه، أو مدعاةً للبلبلة والاستفزاز، أو منطلقاً للإسفاف والابتذال سواءً كان ذلك على الصعيد الإبداعي أو التنموي أو المجتمعي، وأما المشكلة الأكبر فهي أن المجتمعات العربية، في مشكلاتها المتفاقمة وهزائمها المتكررة، لم يعد لديها الوقت الكافي لتكتشف للمرّة الألف أن النار تحرق
المـصـدر صـحـيـفـة المـديـنـة المـنـورة
رغـم إنـي مـانـي داري إيـش الـهـرجـة
بـس أظـن المـوضـوع يـسـتـاهـل الـقـراءة
حـفـظ الله الـجـمـيـع ورعـاهـم