حين انزلقت من بطن أمي صرخت على امتداد فمي
الضوء يفضحني بعيون ثاقبة حاقدة ، والهواء من حولي سياط جليدية آثمة .
أغمضت عيني وكوّرت جسمي . خيل لي أن الأشياء تتظاهر ضد وجودي ، حتى النساء ، أولئك اللواتي
أشرفن على ميلادي أنكرن قدومي . لم أسمع زغرودة واحدة ، بل بكاء ونشيجا .
وتناهى إلي صراخ امرأة تولول : تبا لك .. عليك اللعنة .
وقالت أخرى : ليتك لم تولد .
وقالت ثالثة : لولاك لم تمت .. أيها الشيطان أنت السبب .
هكذا إذن ، شيطان يولد ، وأم تموت ، وأنا السبب .
الأغبياء ؟ لماذا لا يكون أبي السبب ؟
أبي ؟ كم كان بودي أن ألمح وجهه ، أن يواسيني .. علّه يبدّد ضباب حزني ، ويذود عني ما ألم بي من كرب وشعور قاهر .
لكن اليوم مضى دون أن يمّر بي .
حين هبط الليل ، كان البيت يجثم في صمت مفزع ، إلا من زفرات وحشرجات رجل يصول حولي .
لا بد أن يكون أبي ، فليس من سواه في المنزل ، حاولت أن أتبين ملامحه ، لكن عينيّ مغمضتان بإحكام
والظلام يبتلع المنزل .
عبثا أحاول أن أتميزه ، .. شعرت بدفء أنفاسه تكتم أنفاسي ، ثم أحسست بساعدين صلبتين تسحبانني
من على السرير . لم أحرك ساكنا ، كان الفزع يلقي بي في قفار واجم .
انطلق الرجل بي يا إلهي : ماذا يريد بي ؟
أحاول أن أتظاهر وكأن الأمر لا يعنيني ، لكن صفع الريح يجلدني ، فأرتجف بشدة
كان الوقت يمر بطيئا ثقيلا ، والرجل يشق ركام الليل حتى تجاوز أطراف القرية 0
توقف أمام كومة من النفايات . هناك .. ألقى بي ، وعاد أدراجه دون أن ينبس ببنت شفة
هذا ما أذكره من يوم ميلادي ، لكن تساؤلين ما برحا وجداني .
الأول : كيف أكون أنا السبب في موت أمي ؟
والثاني: لم يقذف بي في القمامة ؟
حاولت أن أقنع نفسي بأن لا حول لي في أمر أمي ، بل حاولت أن أجد من يشاركني ذات الشعور .
حين أصبحت في الخامسة من عمري ، سألت المرأة التي كانت قد أنقذتني من القمامة ، وأودعتني منزلها:
استحلفك بالله : هل كنت أنا السبب في موتها ؟
قالت بنبرة تستحوذ العطف والإشفاق : يا بنيّ : كان ذلك أمرا مقضّيا .
أمرا مقضيا.. ما أروع ذلك . كنت أدرك أني لست جانيا ، أيا كان السبب ، فلست أنا المذنب .
أما التساؤل الثاني فأرقني وأقض مضجعي . وبسبب ذلك ، وحتى ينجلي لي أمري ، فإني أتغمد
سكينا ، مترصدا باب بيته .. سوف أرغمه على قول ما تكتّم عليه .
لا بد أن أفض سّره .. فأنا ما كنت أحمل سكينا لأبي إلا ليقيني بأنه الوحيد الذّي يمكن أن يفسّر لي
ما يعتّل في نفسي .
كم تساءلت وسألت : لكن أحدا لم يجبني .
المرأة التي كانت قد ذادت عني شبح الموت ، حين سألتها لاذت بالصمت ، حتى رفاقي كنت أقرأ في
ملامحهم سخرية واستنكارا .
يا للسخف ، من ينكر عليّ أن أستجلي همي ؟ لماذا يحدجونني بنظرات غامضة .. لا بد أنهم يعرفون السر
.. لا ..لا .. هو الوحيد الذي يكظم أمر حالي .. ولذلك فإني أحمل له سكينا .
طالما حاولت فيما مضى أن أستعطفه ، أن أسترضيه ، علّه يصغي إليّ .. لكنه آثر أن يردعني .
كم أنت غريب الأطوار يا أبي ؟ أعترف أني حائر بك جاهل لأمرك .
كل ما أعرف أنك .. بعد رحيل أمي تزوجت من امرأة أخرى .. أتراها كانت السبب ؟
كلّا .. لا أظن ذلك . فإن من حاول وأدي لا يحتاج إلى تحريض من أحد .
كان لا بد لي من أن أبحث عمن يمد لي يد العون .
لم أتردد ، سألتها ، فإنها أدنى الناس إلى نفسي .. بنت الجيران ، أجل : تلك التي كنت قد اختلست منها
قبلة ، فعاهدتني على صفاء الود حتى الموت .
: أتعرفين لماذا ألقى بي في القمامة ؟
ضحكت حتى لمعت نواجذها .. حدجتني باستنكار ..: ما دهاك ؟ قالت متسائلة .
: أتوسل إليك ، ألا تعلمين السبب ؟
قالت وهي تداري ابتسامة حرصت أن تكتمها : متى كان ذلك ؟
قلت : يوم ميلادي .
قذفتني بنظرة ساخرة ، لكنها تداركت نفسها ، وهمست لي برفق لا يخلو من الكلفة : من فعل بك ذلك ؟
قلت : أبي .
سحبت ناظريها عن وجهي .. استدارت وهي تتمتم : أنت مخبول .
القذرة .. هجرتني ولم أرها بعد ذلك ، تنكرت لي ومضت .
هكذا هم : بعضهم يرفض أن يصغي إلي ، وبعضهم ينكر عليّ قولي .
ليس أمامي سوى أبي : إنه الوحيد الذي يتسنى لي أن أرغمه على الاعتراف ، علّني أتحرر من لعنتي.
ما زلت أتحين فرصة علّني أنقض عليه ، تشتد يدي على مقبض السكين .. الغرفة التي يرقد فيها كأنها
موصدة .
سوف أنتظر .. وفي الوقت المناسب …..
تناهت إلى أذني تمتمات غير واضحة ، حشرجات وسعال خافت .
سمعت أكرة الباب تدور ، ينبلج الباب قليلا ، أخيرا أتيحت لي الفرصة .. إنه يرقد على السرير ،
بضع خطوات تفصلني عنه ، حان وقت الحساب يا أبي . سوف أنقض عليك ، وأشهر السكين
في وجهك ، لا تخف .. فأنا لا أروم منك سوى الحقيقة .. وإلا ..
كنت منغمسا في أفكاري إذ دوّى صراخ ارتجت له أركان الغرفة .. مات .. مات
مات : أبي مات .. تيار بارد كان يسري في أوصالي ، وخدر غريب ينساب في عروقي
يممت شطري نحو السرير .. تجاهلت نظرات المرأة الواجمة .
تفرست ملامحه بإمعان ، شفتاه مطبقتان بإحكام ، وقسمات وجهه متقبضا جامدا .
شعرت بيتم كافر . تمتمت وأنا ألقي عليه نظرة أخيرة :
أبي .. إني حزين حتى الموت .