شاب وشابة جالسان, وأمامهما بحيرة يلعب بجانبهما طفل صغير..امرأة عابسة تضع إحدى يديها على بطنها واليد الأخرى على رأسها وهي تنظر إلى الشمس في كبد السماء..البحر هادىء وبعض السفن تحتضن المياه المالحة,ورجال يتحركون خارج السفينة.. بيوت آيلة للسقوط..وجه قرية حزين وكأنه بقايا حرب,طفل وطفلة وفي أيديهما مجموعة من الزهور الحمراء والبيضاء, رجل يخطو وسط صحراء ذهبية وأمامه بعض الجماجم.. مجموعة من أناس متراصة لا ترى إلا وجوههم.. رجل عار إلا من الوسط وضع على فمه قماشا أبيض..
· بكم هذا؟
· بمائتي دولار
· لماذا.. الواحدة بمائتي دولار؟
· جميع ما تراه عيناك بمائتي دولار
· ماذا هل تتكلم بعقلك؟
· نعم بعقلي ويدي وشعري وعيني
· دقائق وانتهت الصفقة
· ألقى المبلغ في غياهب جيبه, وسحب أدراجه متوجها إلى شقته,بين حين وحين ينظر إلى لوحاته, وقد رحلت حتى غاب الرجل واللوحات.. مائتا دولار ماذا عساي أن أفعل بها,أدفع أيجار الشقة.. أشتري بعض الفاكهة,فمنذ الحرب لم يشم أنفي رائحة الفاكهة! ..لا..لا..لا بل سوف أهاجر..هه..هه..هه جوازي منته, وتجديده بمائتي دولار, ساشتري بعض الأصباغ لإكمال لوحتي الأخيرة ..آه - مع ضربة خفيفة على جبهته - علي دين للبقال ما يقارب مائة دولار, وقف بجانب البحر وأخذ نفسا عميقا.. مسح بعض الدمعات, تذكر أمه وأباه الذين ماتا في إحدى غارات الحرب.. وزوجته التي رحلت دون وداع, وإخوانه الأربعة الذين هاجروا ولا يعرف أخبارا عنهم, أصدقاءه الذين ذهبوا في الحرب, فأصبح وحيدا هو ومرسمه وفرشاته وبعض لوحاته, وصل شقته.. دخل المرسم..وقف وسطه, وأخذ يوجه نظراته إلى كل أركان المرسم.. كل محتوياته,أقلام.. فرشاة.. لوحات.. أصباغ.. قماش..أوراق متناثرة,أغمض عينيه وفجأة صرخ, أصبح هائجا .. يضرب.. يكسر..ينثر.. يبصق, يركل كل شيء أمامه ويصرخ, بورتريه.. سريالية.. تقاليدية.. طبيعة صامتة.. البابليون.. الآشوريون.. العثمانيون.. ثورة القرن العشرين.. الفرنسيون.. الإنكليز.. الخليج..الأمم المتحدة.. حظر دولي.. حرب.. بعث.. اكتوبر.. القدس.. النكسة.. السلام.. انتفاضة.. النفط.. السلاح النووي.. حلف الاطلسي.. كوسوفا.. الحب.. الكره.. الموت.. الموت. الموت, وفجأة وقف ينظر إلى إحدى لوحاته التي أطلق عليه اسم (غربة)..رجل يمشي وسط شارع.. والناس عن يمنيه وشماله واضعا يديه في جيب سرواله محني الظهر والرأس, تكاد نظاراته أن تسقط,فهي على حافة أنفه الطويل, كانت خطواته عكس خطوات الآخرين..وصرخ صرخة خرجت من فمه وحلقه وقلبه وأعصابه, خرج من فمه سائل قان سبق جسده إلى الأرض دون حراك.....
التقطتها لكم من كتاب آخرون كانوا هنا