التعليم الإلكتروني.. ومعاناة "غِفار
---------------------------------------------------------
مرام عبدالرحمن مكاوي*
نشرت صحيفة الوطن بتاريخ السبت 27 محرم 1428هـ الموافق 17 فبراير 2007 خبراً بعنوان "100 مليون لتوفير حلول إلكترونية بالمدارس ..التربية: مناهج رقمية وجهاز محمول مجاني لكل طالب وطالبة خلال عامين"، جاء فيه أن المملكة ستبدأ في إدخال التعليم الرقمي عبر مناهج وزارة التربية ابتداء من العام القادم، وتحدث مدير عام تطوير تقنيات التعليم المكلف يوسف بن صالح الشويمان عن أهداف المشروع الطموحة، وتحدث عن المعوقات أيضاً، وعن رغبة الوزارة في تنظيم مؤتمر دولي حول التعليم الإلكتروني. وأن المجال مفتوح أمام مختلف الشركات التقنية " لتجريب" منتجاتها الإلكترونية في مدارس المملكة.وقبل ذلك بيومين نشرت الوطن في صفحة نقاشات مقالاً متميزاً لطالبة في الصف الثاني الثانوي بجدة واسمها غِفار محمد العُمري، تحت عنوان: "كلما ذهبنا للمدرسة فوجئنا بقرار جديد يثير الحيرة". وتشتكي هذه الكاتبة الصغيرة من الحيرة والفوضى والارتباك وكل الأمور المزعجة التي تترتب على القرارات الارتجالية لوزارة التربية والتعليم، والتي يتم تطبيقها فجأة أثناء العام الدراسي، مما يربك المعلمات والطالبات ويعيق العملية التعليمية.في البلدان المتقدمة يعتبر التعليم أحد أهم القضايا التي يمكن أن تسقط الحكومات، وفي بريطانيا مثلاً فإن هناك موضوعين رئيسيين هما أبداً موضع انتقاد لحكومة بلير: غزوه للعراق، وما يعتبره البعض فشله في إصلاح وتحسين نظم التعليم في المدارس العامة. فالتعليم باختصار هو حاضر الأمة ومستقبلها، ولا مكان فيه " للتجريب" أو لارتجال الخطط، ولركوب الموجات. فهناك الكثير من الخطط والأفكار التي تطرح كل يوم، ولكن قبل أن تأخذ حيز التنفيذ، فإنها تطرح للدارسة العميقة من قبل أخصائيين في مجالاتهم، ويتم تحديد موعد مناسب للبدء بتطبيق خطة ما، بحيث يكون لدى الجميع الوقت الكافي لترتيب أوضاعهم.بينما الوضع عندنا يكاد يكون العكس تماماً، فربما هذه واحدة من أكثر الوزارات التي شهدت تغييرات وتبديلات ومراجعات في أزمنة قياسية. والنتيجة؟ ضعف واضح في مخرجات التعليم العام، وجيل شبه أمي. فحين يتخرج الطالب بعد اثنتي عشرة سنة، وهو عاجز عن كتابة مقال مقبول، ويعاني من أخطاء إملائية فظيعة فلا يميز بين (الضاد) و(الظاء)، وينصب الفاعل ويرفع المفعول، وحين تكون معلوماته التاريخية والجغرافيه تقترب من درجة التجمد، ولا يحفظ جدول الضرب، ناهيك عن معرفته بقوانين نيوتن، أو فهمه للجدول الدوري للعناصر، أو تركيب جسم الإنسان، مع جهل تام باللغة الإنجليزية، وحتى على صعيد المواد الدينية فبعضهم لا يستطيع أن يشرح لنا أركان الحج! عندها هل نستطيع أن نعتبره فعلاً شخصاً متعلماً؟ بل ويتخرج البعض وقد ضاع منهم ذكاؤهم الفطري الذي تميز به الأجداد، مع غياب الثقافة واللباقة، والمهارات الخاصة في الحديث أو الخطابة أو المنهجية في التفكير.دعونا نتحدث عن التعليم الإلكتروني المطروح الآن، وأنا أتحدث اليوم كباحثة في هذا المجال وطالبة دكتوراة، وقد قرأت عشرات أوراق البحث حول الموضوع، وحضرت العديد من المؤتمرات، وعملت في فترة الصيف مع مجموعة بحث يرأسها خبير عالمي في التعليم الإلكتروني المتكيف، ولذلك أستطيع أن أقول بكل ثقة إن ما ورد في الخبر أثار قلقي.فمن ناحية، أشعر بأن الموضوع لم يأخذ حقه من البحث من قبل اختصاصيين واختصاصيات في هذا المجال كما ينبغي، وهو أمر كان لابد أن يبدأ قبل خمس سنوات على الأقل. وبالتالي أشعر بأن هناك عدم وضوح حول تعريف التعليم الإلكتروني، ولماذا نريد أن نطبقه في بلادنا؟ هل لأنه مفيدٌ لنا فعلاً؟ وكيف عرفنا ذلك؟ هل أجريت أبحاث ميدانية سعودية بهذا الخصوص؟ أم أننا نفعله لأن العالم كله يتجه نحو هذا النوع من التعليم؟من ناحية أخرى، هل مدارسنا المتهالكة والمستأجرة، والتي تتشارك أربعون طالبة أو خمسون طالباً في صف واحدٍ فيها، مؤهلة لهذا الترف التعليمي في العام القادم؟وهل المعلمون والمعلمات، جاهزون لكي ليس فقط يعلموا التلاميذ كيفية استخدام هذه التقنية والاستفادة منها، بل لكي يساهموا هم بأنفسهم في صياغة الدروس، وترتيب المنهج كما ينبغي؟ فهناك ثلاثة أنواع من محضري أي درس إلكتروني: أخصائيو المجال الذين يقومون بتجهيز المادة العلمية للمحتوى، والمعلمون الذين يقسمون هذا المحتوى إلى دروس منفصلة، والفنيون الذين يصيغون هذه الدروس بشكل إلكتروني، أو يتيحون للمعلمين فعل ذلك عن طريق تجهيزهم بالأدوات التقنية اللازمة. ثم هل لدينا ما يكفي من خبراء الكمبيوتر والشبكات والإنترنت والصيانة نساء ورجالاً، ما يكفي لسد حاجة كل مدرسة؟بل هل وضع الإنترنت في السعودية بشكل عام يسمح بأن يتعلم الطلبة بسلاسة وسهولة عبر الشبكة؟ أم أن الطالب سيقضي يومه وهو ينتظر تحميل الصفحة؟وقبل كل هذا هل نحن جاهزون فكرياً وثقافياً ومجتمعياً، لهذه الثورة التعليمية؟ فحين نتحدث عن توفير مختلف أنواع المصادر العلمية للطالب، عن طريق السماح له بالاستفادة من المراجع الكثيرة على شبكة الويب، فهل نحن جاهزون لنسمح له بأن يناقش ما نعلمه له؟ هل سنحرره من سطوة المنهج الذي تعده الوزارة؟ وهل هذا يعني أن الطالب يستطيع أن يحضر لنا معلومة مخالفة لما في المنهج، وهل سنقبلها منه؟ أشك في ذلك، فالخروج على النص بمجرد الزيادة والتوسع، لم يكن مقبولاً في الجامعة من أساتذة الجامعات الذين تخرجوا من الجامعات الأوروبية والأمريكية، فهل سيتقبل ذلك معلم أو معلمة المدرسة من خريجي كليات المعلمين والمعلمات أو كليات التربية المحلية؟ بل كيف سيتم التعامل مع بعض الأسر التي ترفض اتصال بناتها خصوصاً بهذه الشبكة مخافة الفتنة؟ فمدارسنا التي مازالت الرياضة المدرسية فيها ممنوعة على الطالبات بحجج واهية، هل صارت فجأة تقدمية وتدعم البحث العلمي والتفكير الحر؟ولم أستطع أن أفهم الهدف من إعطاء كل طالبة جهازاً محمولاً حديثاً وخاصاً؟ هذا أمرٌ لم نسمع به في أغنى الدول الأوروبية والأمريكية أو في اليابان وكوريا! وأرى أنه نوع من الترف الذي سيستنزف الميزانية التعليمية بلا مبرر حقيقي. والأفضل أن تكون هناك معامل مدرسية مجهزة بأجهزة حاسب مكتبية، يشرف على صيانتها فريق مختص، وفي نفس الوقت يتم توفير أجهزة كمبيوتر للطلبة في منازلهم بأسعار منخفضة، أو بأقساط ميسرة، حتى يعرف الناس "قيمة" هذه الأجهزة، وأنها ليست لعبة. وأخشى ما أخشاه أن تكون التجارة والسمسرة قد أطلت برأسها هنا، ودفعت باتجاه قرارات من هذا النوع. لقد حان الوقت لنتعلم من أخطاء الطفرة السابقة، ومنها الهدر المالي الهائل في مشروعات غير مدروسة.للأسف يبدو الأمر كما لو أننا مازلنا لم نفهم الفرق بين الحضارة ومظاهر المدنية، فنحن ربما نملك أفخم مبنى قضائي بواجهات زجاجية خلابة، لكن ما قيمة ذلك إذا كان القاضي في الداخل سيحكم وفق منطق القبيلة؟ والأمر نفسه ينطبق على التعليم، ما فائدة جعل التعليم إلكترونياً إذا كانت المناهج نفسها تعاني قصوراً؟ بل والجهاز التعليمي بأكمله يعاني من النواقص؟التعليم الإلكتروني نوعٌ من أنواع التعليم المختلفة التي عرفتها البشرية عبر تاريخها، ولكن يخطئ من يظن أنه الحل السحري لكل المشكلات التعليمية. بل إنه (من ناحية المنهج والمحتوى وطريقة التدريس) يعاني من السلبيات ذاتها التي يعاني منها التعليم التقليدي. فإذا كان المنهج الدراسي في أساسه متخلفاً عن الركب العلمي، أو مشوشاً وغير مكتمل، فإن نسخ هذه المعلومات ولصقها على الشبكة العنكبوتية لن يقدم لنا تعليماً أفضل.وقد أدرك الباحثون في مجال التعليم الإلكتروني، أن مجرد توفير المادة العلمية على الشبكة، بالطريقة ذاتها التي تعرض بها في كتاب معروض، لا يعد فتحاً علمياً، ولا يؤدي إلى استغلال أمثل للطاقات الهائلة الكامنة التي تتيحها الشبكة، وتوصف هذه العملية بأنها مجرد "تقليب إلكتروني للصفحات". فالتعليم الإلكتروني لا ينبغي أن يطلب لذاته، بل للقيمة المعرفية الجديدة التي يمكن أن يقدمها.إن تطوير التعليم ضرورة وطنية وقومية بل وحتى دينية وذلك للوقوف في وجه مد التعليم الأجنبي، الذي بدأ يغزو بلادنا، ويهدد لغتنا وثقافتنا، ولاشك أن توفير المنهج التعليمي المتطور وباللغة العربية، أمرٌ أباركه وأشجعه، لكن كل ما أتمناه هو أن ننحو في هذا الأمر منحى علمياً ومنهجياً ومدروساً، فالقضية كبيرة، والفرصة ربما لا تتكرر ثانية.
* كاتبة سعودية، وطالبة دراسات عليا (تقنيات التعليم الإلكتروني) بالمملكة المتحدة
http://www.alwatan.com.sa/daily/2007.../writers07.htm