[align=center]ريموت كنترول
لقد عمَّ الروتين البلاد فقضى على الآمال والأحلام ، فكم من الطموحات قد هدمت ، وكم منها هُجرتّ ، تراكم عليها الغبار وشوهها الصدأ ، حتى اعترى النفوس تبلداً حسياً ومعنوياً.
إنها العروبة تنسى من هي وكيف كانت ؟
وهل حقاً نسيت أم أنها تتناسى ؟ أن الكون كان مسرحها ، وهي اليوم تتوار في خباياه .
لقد عاد إليها الجهل المتحضر ، في الماضي كان الجهل يسيطر على النفوس قلباً وقالباً ، إلى أن جُليَّ الظلام ومزقت الأغشية من على الأبصار ، فأشرقت الدنيا بنور الإسلام، وكُرَّمت المرأة، وأصبح العالم الإسلامي في سلام ديني ودنيوي..
لكنها أحقاب مَرّت تكاد أن تختفي، حيث عاد الجهل يسيطر على عقول البعض، واعتلت الغشاوة أعين الضعفاء فعاد ليعمَّ الظلام تلك النفوس المريضة ، وأصبحت المرأة في نظر الأغلبية كما كانت قبل انتشار العلم والمعرفة واختلاط الشعوب .. !
(1)فليس من حقها التعلُّم والعمل، وسلبت أبسط حقوقها الإنسانية، (2) ومشاركة الزوج في إبداء الرأي والمشورة، في حين أن الإسلام حث على ذلك ، فلقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يستشير السيدة عائشة في كثير من أمور الدنيا ، وعمل برأيها وهو نبي هذه الأمة وقدوتها .
فالزواج إخوتي مشاركة، تضم طرفين هما على قدم المساواة في حلو الحياة ومُرها، في السراء والضراء، في العمل وغير العمل ، داخل الأسرة وخارجها تجمعهما الألفة الروحية حين والجسدية حين آخر ..
إذن فهما نفس واحدة وبتلك المشاركة تكون الحياة، أكثر جمالاً وبريقاً ، ولها رونق آخر، يوسع مدارك كل منهما .
لكنه وعلى الرغم من ذاك الجمال، الفطري المألوف المحبب، نجد البعض ممن ينكر عليها ذاك الحق والمشاركة، (3)وقد يحرمها من تربية أبنائها بالطريقة الصحيحة، (4)كأن يُنمي في الطفل طابع الرجولة الفارغة ويندد عليه كل حين أنت رجل ولا تردك امرأة، (5)وبالتالي يمنعها من تعجيل الثواب والعقاب لهم ،
وإذا كان لابد من أن يحدث هذا فيجب أن يكون ثواباً وليس عقاباً ، وإلا فعقابها أسرع ، لأنه هو من يعاقب وليست هي ، مهما صدر منهم ، من تمرد وقلة أدب، وإلا فغضب الله عليها وعلى ذويها، فاؤلئك (6)أولاده وليس لأحد الحق في عقابهم غيره، وإن كانت أُمهم ، فهي امرأة خلقت للبيت وتلبية رغباته وما يأمر به ويطلبونه ، وإن كان ذلك على حساب مشاعرها وكرامتها، التي تكاد تكون مفقودة مع زوج مثله.
والأدهى والأمر من هذا وذاك،(7) أن وجود الخادمة كمعين لها يسوؤه ، وإن كان الأولاد كُثر ، حتى وإن كانت من بيت جاه وحسب ونسب.
ترى ما هي الحياة لزوجة كهذه، حتى أن السجن ذو القضبان الحديدية يكن أرحم خاصة حين يعتمر الأمل بالخروج لحسن السيرة والسلوك، أما هنا أين الأمل في قضبان كالصلب أطلقوا عليها القفص الذهبي، وما أدراك ما الذهبي.. إنه الصلب أوالفلاذ والصخرة، وحتى هذه تتفتت بعوامل التعرية
- هنا تفقد الزوجة توازنها ، ويتملكها الصمت وتبطأ حركتها، ويبدأ الوهم يتسرب إلى نفسها وجسدها الضعيف، بالهم والمرض، (9)فطمست آمالها وتاهت أحلامها، وخمدت كل طموحاتها التي كانت تتطلع إليها،
لقد طغى الروتين على كل حياتها، وباتت كالآلة مبرمجة تتحرك بريموت كنترول، ففي كل يوم ، وعند مطلع كل فجر جديد ،
تُديرُ الجهاز ، تغط على الرقم (1) لتودي الفريضة ، وعلى الرقم (2) توقظ الأولاد ، بعد أن يكون الإفطار جاهزاً ، وعلى الرقم (3) تودعهم وزوجها على أمل اللقاء بهم ظهراً ، والرقم (4) ينفض المّولد ويصبح البيت خالياً ساكناً .
فيعمّ السواد وتضيق نفسها ذرعاً ، لترى الجمود في كل شيء أمامها، تجذبه قوة التبلد للنعاس ثانية، فالتعب هدَّ كيانها، والدوار يشتد ليثقل جفنيها فيجبرانها على النوم ، لتضع الهمَّ تحت رأس ووسادة وتغوص في عالم مبهم ،
آلام وأوجاع ، هموم وقلق ووسواس ، وقد لا يكون شيء سوى الوهم الذي فرضه الروتين على حياتها، تمر بها الساعات وهي في نوم يشبه الإغفاءة، لتنهض مهرولة تنظم البيت وتعد الغداء ،
وهكذا تمر بها الأيام لا تشعر بمرورها، وقد تختلط عليه الأيام والأسابيع وتنسى الشهور ، فلم يعد هناك حساب لشيء ، وبات تحركها لا إرادياً ، وهكذا دواليك إلى نهاية السنة ، فما كان في العام الماضي هو اليوم ، وقبل أعوام وما سيكون .
(10)لا جديد . لا أمل .. لا هدف .. لا طموح ، وإن وُجدت فقد تراكم عليها الغبار وشوهها الصدأ. وعلى الرغم من هذا ، (11)مازال الاتهام ينصب عليها في كل لحظة وحين ، ويأتي اللوم عليها ، لأنها لم تراعي حق زوجها ، وهو من وضعها في خضم أمواج ومتاهات لا تستطيع الخروج منها ، تدور في دوامة تدور وتدور ولا تتوقف عند حد (12)ومن ثم يطالبها بالهدوء والرومانسية ..!
ولكن متى وكيف وأين ..؟ (13)وقد حُط على عاتقها كل أمور البيت ، دون مُعين أو مساعد، (14)ولا يرضى بالقليل ولا بالزهيد ولا بالتنازل ولا رحمة وقت التعب حتى بات هاجسها الوحيد في الداخل والخارج، لتبلغ أعلى درجة في الكمال المشفوع لبني البشر، في نظر زوجها الذي أحبته، وبات حديثها منصب عليه وعلى الأولاد والبيت وعدم وجود خادمة ..يسبب لها الهم والمرض والمرارة
.
إن الروتين يودي إلى الضيق والملل الذي يفقد الإنسان من خلاله الإحساس والانفصال تدريجياً عن الواقع ، وبالتالي تتملكه الأمراض حقيقة ولربما وهمٌ لأن النفس كيان ديناميكي بمعنى حركي، (15)والعقل لابد أن يعمل بالتجديد في كل وقت لكي يظل نشيطاً، فالتكرار والرتابة تصيب العقل بالركود ثم البلادة ثم التوقف، أما النفس فتضجر وتتبرم وتثور وبعد ذلك تتبلد وهذا هو الموت المعنوي .
إنه الموت الذي تعاني منه هذه الزوجة المغلوبة على أمرها .
(16)وفي خضمِّ كل تلك المعاناة ، لم يكن منه إلا الهروب إلى دنيا ثانية ، ليشعر بالاستقرار والرومانسية التي فقدها بسبب الروتين ، فبدلاً من أن يبدد الروتين بالتغيير والحركة وتنظيم حياته بالطريقة الصحيحة ليشعر بالحب من حوله، يهرب إلى بدء حياة زوجية ثانية ، غالباً ما يصبها الروتين ، بعد أن تفقد بريقها وتتحول إلى آلة مبرمجة على ريموت كنترول .
(17)إن تبديد الملل والروتين ليس المقصود منه تغير الزوجة أو الزوج ، بل تغيير طريقة التفكير بصورة أكثر واقعية ، وتغيير الوجه العام للحياة ككل ، (18)فلن تكون الزوجة خادمة ولن تكون الخادمة زوجة ، خاصة في هذا وبوجود العديدي من الأولاد وفي هذا الزمان، (18)ونجد أن البعض يندب الماضي، ويقول كانت أمي وجدتي ، ولكن ..لا ..(19) فقد تغير الزمان وتغيرنا ، وكل شيء فينا قد تغير ، القلب والعقل والصحة، فما كان بالأمس أصبح أطلالاً ، ولا يفيد الندم ولا النحيب .
فالإقبال على الحياة بكل تصاريفها وشؤونها ، وجو الأسرة التي تسودها روح الألفة ، والتعاون والمشاركة الروحية والوجدانية ، والحب لهو الأمر الواقع والطريق الصحيح ليبدد كل ملل أو رتابة ، (19)ويكفي الحب وحده ليجلي الغمامة ويقتل الروتين .
الرأي الحكيم :
إذا كنت في حاجة إلى ضوئي فضع الزيت في قنديلي .
دمتم بود
نُشر في عدة مواقع وفي صحيفة
أ/ سلوى عبد العزيز دمنهوري
المراة الحديدية [/align]