[grade="00008B FF6347 8B0000 4B0082"]
أحضان الخوف
رياحٌ عاتيةٌ توشك أن تمزق ملاءة الليل ..الرعد يطرق أبواب السماء ، ترتعد الأرض وينهمر المطر على الشوارع وأسطح المنازل ، حباتُ البَرَد تسقط على الصفائح ، يستيقظ السحر من سكونه ، يرتجف كل شيء ، الناس الشجر حتى قطرات المطر هي الأخرى ترتجف .
ساعة الحائط تدق الثالثة ، تتنقل من شرفة إلى شرفة أخرى ، يسكنها القلق ، يلفحها البرد ، تتدثر تحتضن يداها ، بين اليأس والأمل تتخيل كل ما هو آتيٍ من البعيد ..ابنها أحمد، لكنه بعدُ لم يأتي .
- اللهم أجعله خيراً .. !
تفترسها الذكريات ، تطوف في ذهنها كشريط سينمائي ، تتزاحم فيه الصور ، تتداخل فيه الرؤى ، الألوان توشك أن تكون قوس قزحية .
بيضاء تلك الأعوام القليلة التي قضيتها في بلاد الغربة قبل أن يسقط أبوك في براثن الإدمان بني ، قبل أن يتناول تلك الجرعة القاتلة ليتركني وأنتم صغارٌ للريح ، للّيل للضياع ، وهاهي الأيام تمر بعد ذلك سوداء بيضاء ورمادية ، و تصبح رجلاً واخوتك يكبرون ويكبرون ، مصعب أخيك الأصغر يستعد اليوم فرِحاً لدخول المدرسة ، ومعن ينافسك في كل شيء وهو على وشك التخرج من المدرسة الإعدادية ، أما أنت بني .. فَهَمِيَ الأكبر الذي أعيشه .
فلا تزال ذاكرته تختزن الكثير من حياة أبيه ، وهو لا يكف السؤال عنه ، وعن ذاك الكأس الذي يلازمه ، ولا يفارق قبضته ليل نهار ، وذلك الدخان الغريب ، يخرج من سيجارته وقد اصطبغ بالون الأزرق ، يسأل عن أشياء وأشياء يصعب عليها الاعتراف بها والإفصاح عنها ، وتبقى الحقيقة مرةٌ ، لها طعم العلقم ، ومحاسن الموتى تظل الحديث المباح .
رنين الهاتف ، يوقف لديها شريط الذكريات ، تتنبه مذعورة ، تعود إلى أحضان الخوف ، تتسارع ضربات قلبها ، مطردة الأنفاس ، ترفع السماعة يبادرها المتصل :
ألو .. أم أحمد ..؟
تجيب بنبرة ملهوفة ، نعم من المتحدث
ـ سيدتي .. ابنك .. ..
لم تسمع الكثير ، فما زال جرح الماضي يَدمي ، تسقط سماعة الهاتف من يدها ، تتأوه ، سيل من الدموع يجري على وجنتيها، تهرول إلى غرفة الأولاد ، توقظ معن ، تمسك بيده وهو لا يزال في غمرة النعاس ، لحظات لتجد نفسها وابنها يهرولان في الشوارع المبتلة ، بل السابحة في سيلِ ماء الدابل ، ولا تزال مزارب البيوت تروي عطش الطرقات والممرات ، والرياح الباردة تلفح عباءتها السوداء ، تلملمها تمسك بمعصم ابنها
الناعس ، محاولة إيجاد تاكسي في تلك الساعة المتأخرة من الليل ، وكم يطول انتظار المضطر والمتألم ، يقف إليها أحد سائقي العربات الخاصة ، شيخ كبير يقبع خلف المقود ، وإلى جواره سيدة مُسِنَة في نفس عمره ، يبدو وكأنها تعود لتوها من قسم الطوارئ في أحد المستشفيات المجاورة ، تدعوها للصعود ، تفتح الباب ولم تتردد لحظة ، تطلب من السائق بل تتوسل إليه أن يوصلها إلى حيّ يدعى (الليل) .
يستجيب إليها العجوز بسعة صدر ، مهدئاً روعها بكلمات مؤمن مُبتَل ، تصل السيارة ، تلج ذاك الحيّ الضيق ، والتي لم يسبق لها أن زارته ، البيوت تبدو متلاصقة ومتراصة تتقاسمها أزقة متعرجة ودروب ضيقة ،
أضواءها توشك على الذبول ، بقايا من زخات المطر المتساقط تقرع النوافذ والأبواب ، وكأنها عزف للحن جنائزيّ ، تقف العربة أمام أحد المنازل القديمة والشبه متهدمة ، تلمح تلك العلامة التي وُصفت لها عبر الهاتف ، تترجى السائق أن ينتظرها برفقة ابنها الذي لم يلبث أن غاص في نوم عميق عندما أحس بالدفء داخل السيارة .
تدخل ، تتسلق درجات مظلمة ، يصل إلى سمعها ضحكات تزداد ضجيجاً وصخباً كلما عرجت سلّماً ، تقترب من مصدر الصوت ، يتصدر المكان بابان من الخشب ، تتخلله الكثير من الشقوق ، تضع عينها في أحد الثقوب ، لتصدم برؤية أليمة ، تعكس إلى صدرها سهماً ساماً متأججاً بالنار ، الهَمَ أثقل كاهلها ، ترتكز على الجدار ، تلتقط أنفاسها بصعوبة محاولة ربط جأشها ، تُردد هامسة : لا.. لا يمكن أن يكون هو .. ؟!
كان يجلس متوسط الشلة ، كؤوس تُدار ، دخان أزرق ، عيون حمراء تقاوم الإغلاق بصعوبة ، ضحكات هستيرية ، أجساد تقاوم السقوط ، وسقوط لا يقوون علـى القيام .
تعود أدراجها وقد تكسرت مجاديف مركبها ، تتقاذفها الحيرة ، ألمٌ يعتصرها وأوجاع تزيد من نزيف الماضي الوبيل ، تشب في رأسها التساؤلات وليس من إجابة شافية ، يشل تفكيرها على الماضي ، ألم ووجع ومرارة ، ذهنها ينتابه الوهن .
ـ يا إلهي لم يعد بمقدوري التفكير ، لم يكن ابني وحده ، بل إن كل من كان برفقته هم أولادي ، جميعهم في مثل عمره ، رباه أعني وأَلهمني الصبر والصواب .
تقاوم في داخلها عاطفة الأم السلبية ، الجياشة بكل أنواع الحب الكبير لابنها البِكر ، تدفعها رغبة عاقلة جامحة للإدلاء بكل ما تعرفه عمّن كان السبب في انحراف ابنها ، والذي لطالما أقلق مضجعها بتلميحاته في الزواج منها بعد وفاة زوجها وأعز صديق له كما كان يزعم ، تعرج إلى منزلها ، يطغي عليها السكون ، تقترب من الهاتف بكل قوة وإصرار ، عيناه تنفح شرراً ونظراتها حادة تتطلع إلى الأفق ، تدير قرص الهاتف
، صوت واثق أجش :
مستشفى الأمل .. أيُّ خدمة سيدتي .
تهتز وهلة تتراجع ، لكن قوة في الأعماق تجعلها تتماسك .
نعم .. إنني أم تبحث عن أملٍ لصغيرها ..؟!
بضع أسابيع قضتها بين اليأس والرجاء ، وذات يوم عاد الابن الضال كما كان قبل أن يسقط في براثن الإدمان ، كان نادماً مُصراً على العودة إلى أمه التي ترجو الخير فيه .
مَرَ حينٌ وعاد كل شيء إلى سابق عهده ، وها هو اليوم ينتهي من دراسته الثانوية ، يطرق أبواب الجامعة بجدارة وتلاحقه أمه بالدعاء على أمل أن تراه طبيباً معالجاً لهؤلاء المرضى ، يبتسم إليها من نفس طيبة صادقة ، فتقرأ على شفتيه أحلام وآمال أسرتهم الصغيرة .
نشرت في سيدتي
وقد تم إذاعتها كمسلسل سباعي لعامين متتاليين
أ/ سلوى عبد العزيز دمنهوري
المرأة الحديدية[/grade]