أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





حكم الجاسوس المسلم:

يجب على المجاهدين أن يحذروا غاية الحذر من تسلل جواسيس العدو، إلى صفوفهم، لما في ذلك من كشف عوراتهم التي يترتب عليها إعداد العدو عدته على ضوئها، فإذا بدا لهم اشتباه في بعض الأفراد، ممن هو في صفهم وينتَسب إليهم – أي إلى المسلمين – أو من غيرهم فالواجب متابعته والحوْلُ بينه وبين نقل أي معلومات عسكرية إلى العدو.

قال البخاري رحمه الله: باب الجاسوس، وقول الله تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء …} [الممتحنة: 1]. وساق بسنده إلى علي رضِي الله عنه يقول: "بعثني رسول الله صَلى الله عليه وسلمأنا والزبير والمقداد بن الأسود وقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ضعينة، ومعها كتاب، فخذوه منها)، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا، حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالضعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها.

فأتينا به رسول الله صَلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صَلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (يا حاطب ما هذا)؟! قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة، يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراً ولا ارتداداً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام.

فقال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (قد صَدَقَكم) فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: (إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: {اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم} [البخاري رقم الحديث 3007، فتح الباري (6/143) ومسلم (4/1941) رقم الحديث (4/24)].

فقد أمر الرسول صَلى الله عليه وسلمفي هذا الحديث، بمتابعة المرأة وأخذ الكتاب منها، وفهم المبعوثون لذلك رضي الله عنهم أن لهم الحق في اتخاذ الوسيلة التي يتمكنون بها من الحصول عليه، ولو كان في ذلك كشف عورة المرأة، لأن المصلحة الراجحة تقتضي ذلك، إذ مفسدة كشف عورتها أقل من مفسدة تركها، لأن في تركها اطلاع العدو على استعداد الرسول صَلى الله عليه وسلموأصحابه لغزوهم، وهو أعظم مفسدة من كشف عورة المرأة، والقاعدة تقديم أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف المفسدتين.

قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: "وفيه هتك أستار الجواسيس بقراءة كتبهم، سواء كان رجلاً أو امرأة، وفيه هتك ستر المفسدة إذا كان فيه مصلحة، أو كان في الستر مفسدة، وإنما يندب الستر إذا لم يكن فيه مفسدة، ولا يفوت به مصلحة، وعلى هذا تحمل الأحاديث الواردة في الندب إلى الستر…" [16/55].

هذا مع العلم أن تهديد الصحابة بإلقاء ثيابها، قد يحصل به المقصود، بدون الإقدام عليه، كما حصل فعلا، ولو اضطروا إلى تفتيشها، فسيبدأون بالأخف فالأخف من كشف العورة...ولا يمكن أن يلقوا جميع ثيابها، إلا إذا لم يتمكنوا من الحصول على الرسالة إلا بذلك.

وفي قصة حاطب مشروعية عفو القائد عن بعض أفراد الجيش، إذا أساء متعمداً ثم ندم على إساءته واعتذر، ودلت القرائن على حسن نيته وكان ذا سابقة طيبة.


وفي حكم الجاسوس المسلم، قال الشافعي والأوزاعي، وأبو حنيفة، وبعض المالكيين وجماهير العلماء رحمهم الله تعالى: يعزره الإمام بما يرى من ضرب وحبس ونحوهما، ولا يجوز قتله. وقال مالك رحمه الله: يجتهد فيه الإمام، ولم يفسر الاجتهاد. وقال القاضي عياض رحمه الله: قال كبار أصحابه يقتل …" [شرح الإمام النووي على صحيح مسلم (12/67)].

والذي يظهر من قصة حاطب رضِي الله عنه مشروعية قتل الجاسوس المسلم، لأن النبي صَلى الله عليه وسلمأقر عمر على إرادة القتل، وبين له أن المانع كونه شهد بدراً، وهو أخص من كون المانع هو الإسلام، ولو كان الإسلام هو المانع من قتله، لبيّن صَلى الله عليه وسلمذلك، ولم يعلله بأخص منه، وهذا الأخص لا يظفر به أي مسلم ، بل هو خاص بحاطب أو من هو مثله ممن شهد بدراً. [راجع فتح الباري (8/635)].

ولو جعل الإسلام مانعاً من قتل الجاسوس لكان في ذلك فتحٌ الباب لضعاف النفوس ومرضى القلوب، لكشف عورات المسلمين لأعدائهم، الذين لا يألون جهداً في محاولة الاطلاع على أحوال المسلمين قوةً وضعفاً، ليبينوا خططهم ويعدوا عددهم على ضوء معلومات دقيقة يستطيعون بها إنزال الضرر بالمسلمين والانتصار عليهم.

والذي يظهر أن الراجح ما قاله الإمام مالك رحمه الله وهو أن يترك حكمه لاجتهاد الإمام، فإن رأى أن في قتله مصلحة قتله، وإن رأى أن المصلحة في تعزريه عزره بما يراه.

ولهذا رأى بعض العلماء أنه يقتل إذا كان التجسس له عادة [راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (18/53)]. هذا في الجاسوس المسلم.

فما حكم الجاسوس غير المسلم.

وثبت في الجاسوس غير المسلم ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضِي الله عنه قال: "نزل رسول الله صَلى الله عليه وسلم منزلاً، فجاء عين المشركين، ورسول الله صَلى الله عليه وسلم وأصحابه يتصبحون، [أي يتناولون طعام الصباح] فدعوه إلى طعامهم، فلما فرغ الرجل ركب على راحلته، وذهب مسرعاً، لينذر أصحابه قال فأدركته، فأنخت راحلته، وضربت عنقه، فغنمني رسول الله صَلى الله عليه وسلم سلبه". [ترتيب المسند المسمى: (الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 14/112)].

هذا سياق أحمد، وهو عند البخاري بلفظ: "أتى النبيَّ صَلى الله عليه وسلم عينٌ من المشركين، وهو في سفر، فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل، فقال النبي صَلى الله عليه وسلم: (اطلبوه واقتلوه، فقتله فنفله سلبه) [البخاري رقم الحديث 3051، وهو في الفتح (6/168)].

وهو يوضح أن سلمة رضِي الله عنه طلبه وقتله بأمر من النبي صَلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح مسلم وفيه: "ثم تقدم يتغذى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضَعْفَةٌ ورقه في الظهر، وبعضنا مشاة، فأتى جمله، فأطلق قيده، ثم أناخه، وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل…الخ" [مسلم (3/1374) رقم الحديث 1754].

وهو بيّنٌ أن الرجل اطلع على عورة المسلمين، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح [6/169].

قال النووي: "وفيه قتل الجاسوس الكافر الحربي، وهو كذلك بإجماع المسلمين… وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي يصير ناقضاً للعهد، فإن رأى استرقاقه أرقه، ويجوز قتله، وقال جماهير العلماء: لا ينقض عهده بذلك، قال أصحابنا، إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك. [شرح النووي على صحيح مسلم (12/67)]

وعلى مجاهدي المسلمين أن يحذروا من تسلل عناصر الفساد إلى صفوفهم بإبداء الولاء لهم، وقصدهم الاطلاع على عورات المسلمين ونقلها إلى عدوهم، وقد يظهرون أنهم جواسيس للمسلمين على أعدائهم، فينقلون لهم – أي للمسلمين – معلومات مزيفة، أو ليست ذات بال، وينقلون لأعدائهم ما يضرهم.

وعلى المسلمين أن يمتحنوا من أراد الدخول في صفوفهم، بتكليفهم بذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، لأن ذلك هو منهج الله الذي يمحص به المنتسبين إلى الإسلام، فيظهر الصادق منهم من الكاذب.

كما قال تعالى: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون} [التوبة: 16].

وقال تعالى: {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت:1-3].

قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسير الآية الأخيرة: "يقول الله تعالى ذكره: لقد اختبرنا الذين من قبلهم من الأمم، ممن أرسلنا إليهم رسلنا فقالوا مثل ما قالته أمتك يا محمد بأعدائهم؟ وتمكيننا إياهم من أذاهم، كموسى إذ أرسلناه إلى بني إسرائيل، فابتليناهم بفرعون وملئه، وكعيسى إذْ أرسلناه إلى بني إسرائيل، فابتلينا من اتبعه بمن تولى عنه، فكذلك ابتلينا أتباعك بمخالفيك من أعدائك. {فليعلمن الله الذين صدقوا} منهم في قيلهم: آمنا، {وليعلمن الكاذبين} منهم في قيلهم ذلك. والله عالم بذلك قبل الاختبار، وفي حال الاختبار وبعد الاختبار، ولكن معنى ذلك: وليظهرن الله صدق الصادق منهم في قيله: آمنا بالله من كذب الكاذب منهم بابتلائه إياه بعدوه ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه". [جامع البيان عن تأويل القرآن (20/128-129)].

إعداد العيون الساهرة لجمع المعلومات عن الأعداء:

وإذا كان يجب على المجاهدين في سبيل الله، أن يحذروا من جواسيس العدو، ويقطعوا عليهم كل طريق إلى أخذ المعلومات العسكرية الإسلامية أو غيرها مما يستفيد منه العدو، فإن عليهم أن يعدوا الرجال القادرين على جمع معلومات العدو، بطرق خفية لا يقدر على كشفها، اقتداء برسول الله صَلى الله عليه وسلم، الذي كان يبعث عيونه في العدو، لأخذ أدق المعلومات والأسرار من أعلى مستوى فيه (مستوى القيادة.)

وهذه أمثلة لحرص القيادة النبوية على جمع أسرار العدو، عن طريق عيونه الذين كان يبعثهم صَلى الله عليه وسلم.

عن محمد بن كعب القرظي قال: "قال فتى منا، من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صَلى الله عليه وسلم وصحبتموه، قال: نعم يا بن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: والله لو أدركَنا ما تركناه يمشي على الأرض، ولجعلناه على أعناقنا، قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله صَلى الله عليه وسلمبالخندق، وصلى رسول الله صلى اله عليه وسلم من الليل هويّاً، ثم التفت إلينا فقال: (مَن رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع) –يشترط له رسول الله صَلى الله عليه وسلمأنه يرجع – أدخله الله الجنة، فما قام رجل، ثم صلى رسول الله صلى اله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إلينا فقال: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع) –يشترط له رسول الله صَلى الله عليه وسلمالرجعة – (أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة)، فما قام رجل من القوم مع شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد.

فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صَلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: (يا حذيفة فاذهب، فادخل في القوم، فانظر ما يفعلون، ولا تحدثَنْ شيئاً حتى تأتينا).

قال فذهبت، فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل ما تفعل، لا تقر لهم قدر ولا نار ولا بناء، فقام أبو سفيان بن حرب، فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ مَن جليسه؟

فأخذت بيد الرجل الذي جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع، وأخلفتنا بطون قريظة، بلغنا منهم الذي نكره، ولقينا من هذه الرياح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صَلى الله عليه وسلملا تحدث شيئاً حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم.

قال حذيفة: ثم رجعت إلى رسول الله صَلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مربط لبعض نسائه مرجل، فلما رآني أدخلني إلى رحله، وطرح عليَّ طرف المرط، ثم ركع وسجد، وإنه لفيه فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش وانشمروا إلى بلادهم" [المسند (5/392) وهو في مسلم (3/1414) مع اختلاف في بعض الألفاظ].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "اشتد الأمر يوم الخندق، فقال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتينا بخبر بني قريظة، فانطلق الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضاً، فذكر ثلاث مرات، فقال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حوارياً، وأن الزبير حواري) [المسند وهو في الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للساعاتي (4/49) والبخاري رقم الحديث 2747 فتح الباري (6/53) مسلم (4/1879)، وفيه ما يفسر قوله ثلاث مرات: ندب رسول الله صَلى الله عليه وسلميوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير].

وكذلك بعث صَلى الله عليه وسلمعيناً ينظر عير أبي سفيان، كما في صحيح مسلم عن أنس قال:"بعث رسول الله صَلى الله عليه وسلمبسيسة، عيناً ينظر ما صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صَلى الله عليه وسلم، قال: فحدثه الحديث، قال فخرج رسول الله صَلى الله عليه وسلمفتكلم فقال: (إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا) [صحيح مسلم (3/1509-1510) رقم الحديث 1901].

ويجب أن يكون عيون المجاهدين في سبيل الله، ممن عرفوا بتقوى الله تعالى وقوة الصلة به، وبالصدق والأمانة والقدرة على أداء واجبهم، دون أن يكشف العدو عملهم، وذلك يتطلب ذكاء وحكمة وتدريبا محكما. [انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (28/246-247)].

وإن المؤمن ليحزن حزنا شديدا، عندما يعلم أن أعداء الإسلام اليوم، قد أعدوا من الجواسيس -حتى من المسلمين- ووسائل التجسس، ما جعلهم يحصلون على أدق المعلومات المتعلقة بالمسلمين، في كل مجال من مجالات حياتهم: الدينية، والاجتماعية، والتعليمية والإعلامية والاقتصادية والسياسية، والعسكرية، ولا نبالغ إذا قلنا: إنهم يطلعون على أدق تفاصيل حياة الزعماء في البلدان الإسلامية.
ولا أظن أن مؤسسة من مؤسسات المسلمين الخطيرة، تخلو من جواسيسهم، سواء كانوا من الأعداء الأجانب، أو من أوليائهم المنتسبين من الإسلام...

هذا مع تقصير ولاة أمر المسلمين الشديد في إعداد القوة الجاسوسية المقابلة، التي يخترقون بها قلاع عدوهم، كما يخترق عدوهم قلاعهم.

ولو أن حكومات الشعوب الإسلامية أعدت هذه القوة الإعداد المطلوب، لحققت بذلك أهدافا عظيمة، تتقي بها شر أعدائها، وتكتشف بها أسرارهم السياسية والاقتصادية والصناعية والعسكرية، وتعلم بذلك أصول وقواعد التكنولوجيا المتطورة، في جميع العلوم التي يحتكرونها، ويحجبون غيرهم عنها، كوسائل الاتصال وأنواع السلاح الهجومية التي أوجب الله على المسلمين إعدادها، ليرهبوا بها عدوهم.

ولهذا عاقب الله المسلمين، بتسليط عدوهم عليهم، وأصبح هذا العدو هو الذي يُرهِبُهم ويخيفهم، بدلا من إرهابهم له الذي كلفهم الله القيام به: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال]

وإن أشد ما يحزن المسلم، أن يرى حكومات الشعوب الإسلامية، التي تفرط في التجسس على عدوها، تعد أجهزة تجسس قوية على شعوبها، لتكمم الأفواه، وتكبت الحريات، وترهب الناس حتى يخلو لها الجو، فتستأثر بخيرات الشعوب، وتطغى عليهم، وتأمر وتنهى كما تريد، لا تتقيد بخلق أو قانون، وتعتدي على ضرورات حياة الناس، الدين، والنفس، والنسل، والعقل والمال، وتملأ بمن يخالفها السجون والمعتقلات...

ثالثاً: العناية بجرحى المسلمين وموتاهم:
ولا بد للمجاهدين من اصطحاب فرق كافية لخدمة المقاتلين، لطهي الطعام ونقل الماء، ومداواة الجرحى، ونقلهم من المكان الذي يخشى عليهم فيه من إجهاز العدو عليهم، إلى مكان لا يخشى عليهم منهم فيه، ونقل الموتى كذلك، حتى لا يمثل بهم العدو.

ويستعمل في هذه الأمور من لا يجب عليه مباشرة القتال، فقد كان النساء يقمن بهذه الأعمال في عهد رسول الله صَلى الله عليه وسلم.

كما في حديث أنس رَضي الله عنه، قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صَلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صَلى الله عليه وسلممجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلاً رامياً، شديد القدّ، يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: (انثرها لأبي طلحة) فأشرف النبي صَلى الله عليه وسلمينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك – قال - ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وإنهما لمشتمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة، إما مرتين، وإما ثلاثاً". [البخاري رقم الحديث 3811، فتح الباري (7/128) ومسلم (3/1443)]. ففي هذا الحديث قيام النساء بسقي المجاهدين ونقل الماء لهم، ومثله في الحكم والطعام ونحوه، مما يحتاج إليه الجرحى.

وفي حديث سهل بن سعد رَضي الله عنه قيام المرأة بالتمريض ومداواة الجروح، والأصل أن يكون الجريح الذي تداويه المرأة محرماً لها، كما هو واضح في الحديث الذي يذكر نصه قريباً، ولكن إذا دعت الضرورة إلى مداواتها غير محرم، فلا مانع من ذلك للضرورة.

سئل سهل رَضي الله عنه عن جرح النبي صَلى الله عليه وسلميوم أحد؟ فقال: "جرح وجه النبي صَلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة عليها السلام تغسل الدم وعلي يمسك، فلما رأت أن الدم لا يزيد إلا كثرة، أخذت حصيراً فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألزقته فاستمسك الدم" [البخاري رقم 2911، فتح الباري (6/96) ومسلم (3/1416)].

وفي حديث الربيع بنت معوذ قالت: "كنا نغزو مع رسول الله صَلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة" وفي رواية: "ونداوي الجرحى". [البخاري رقم الحديث 2883، فتح الباري (6/80)] وقولها: "ونخدمهم" عام يشمل كل خدمة يحتاج إليها المجاهد في المعركة.

وفي حديث أم عطية قالت: "غزوت مع النبي صَلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى" [مسلم (3/1447)].

قال الحافظ: "وأوضح سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حازم فيما أخرجه الطبراني من طريقه، سبب مجيء فاطمة إلى أحد، ولفظه: لما كان يوم أحد، وانصرف المشركون خرج النساء إلى الصحابة يعينونهم – هكذا - فكانت فاطمة فيمن خرج" [فتح الباري (7/373)].

الأصل عدم خروج المرأة للجهاد

هذا وليعلم أن الأصل عدم خروج المرأة مع المجاهدين، لاسيما لإرادة القتال، لما في ذلك من مخالفة المطلوب منها، وهو سترها، ولهذا لما سأل النبيَّ صَلى الله عليه وسلم أزواجُه أن يأذن لهن في الجهاد قال: (جهادكن الحج) [البخاري رقم الحديث 2875، 2876، وانظر فتح الباري (6/75، 76)].

وقد كره العلماء أخذ النساء الشواب إلى أرض العدو، لأنهن لسن من أهل القتال، وقلما ينتفع بهن فيه، لاستيلاء الخور والجبن عليهن، ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن [المغني لابن قدامة (9/ 214-215)].

ولا ينافي ذلك أخذ الرسول صَلى الله عليه وسلممن كانت تقع عليها القرعة من زوجاته، لأنها زوجة يأخذها لحاجته إليها. [نفس المراجع السابقة (9/215) وانظر حواشي فتح القدير لابن الهمام (5/450) فما بعدها وكذا حاشية ابن عابدين (4/125)].

وفي هذه النصوص الدالة على أن الأصل في المرأة ألا تخرج مع المجاهدين، إلا لضرورة مع الحيطة المستطاعة، ما يبين فساد ما عليه الآن كثير من جيوش الشعوب الإسلامية، التي تجند فيها المرأة في وقت السلم والحرب على السواء، لا للخدمة والإعانة التي كانت تقوم بها نساء الصحابة رَضي الله عنهم، وإنما لإفسادهن وإفساد رجولة جيوش الشعوب الإسلامية.

إذ يختلط النساء – وهن بدون محارم - بالرجال مدة طويلة ويختلي الرجل بالمرأة، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، وهذه إحدى المعاصي التي عاقب الله بها المسلمين الذين يرون هذا المنكر وغيره في أبنائهم وبناتهم فلا ينكرونه، فسلط الله عليهم عدوهم، فأذلهم واستباح حرماتهم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وليعلم هؤلاء أن الإسلام يقر المرأة عند الضرورة على أن تقاتل كالرجال، كما في حديث أنس بن مالك أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (ما هذا الخنجر)؟ قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صَلى الله عليه وسلميضحك. قالت: يا رسول الله اقتل مَن بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن) [مسلم (3/1442)].

وإذا دعت الحاجة لخروجها، فإن الإسلام لا يمنعها من ذلك، ولكنه يصونها عن ذئاب المعاصي والفسق والفجور.