أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم





خاص بمجلة الراصد ( 136 )

يظن كثير من المسلمين أن الغلو في أهل البيت ينحصر في الشيعة، ويغفل هؤلاء عن وجود ثقافة الغلو في أهل البيت عند بعض أهل السنة بصور متعددة أيضاً، وهي الظاهرة الخطيرة التي لا يسلط الضوء عليها في الأوساط السنية، وهذا مؤشر سلبي على هشاشة المناعة الفكرية ضد التشيع بينهم.

في هذه الأسطر سنستعرض بعض المظاهر التي تؤكد وجود ثقافة الغلو في أهل البيت عند أهل السنة، من أجل إطلاق الدعوة لضرورة دراسة ومعالجة هذه الظاهرة بطريقة علمية هادئة، وأهمية توعية الجمهور السني بالمعتقد الصحيح في أهل البيت والذي لا مجال للحيدة عنه نحو التطرف في حبهم والغلو في الإعجاب بهم.

1- الطعن في معاوية بن أبي سفيان
من المعلوم أن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما أحدث انقساماً في الأمة في القرن الهجري الأول، وهو انقسام سياسي بالدرجة الأولى إذ لم ينازع أحد في أفضلية علي وأحقيته بالصواب كما هو رأي جمهور أهل السنة.

لقد وضع السلف وعقلاء الأمة الخلاف بين علي ومعاوية في إطاره الصحيح دون شطح أو مبالغة لا سيما أنه أصبح من الماضي المؤلم الذي لا يحسن بالمسلمين نبشه واستذكاره (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون) إذ لا توجد أي فائدة مترتبة على الحديث في هذا الموضوع إلا بالقدر الذي اكتفى به السلف وبمنهجهم العاقل الهادئ في التعامل مع مثل هذه القضايا الحساسة.

وإذا كان منهج الشيعة قائما على الغلو في عليّ فليس من المستغرب أن يجعلوا من معاوية شيطاناً رجيماً يُلعن آناء الليل وأطراف النهار، لكن المستغرب أن تسري ثقافة اللعن هذه إلى بعض علماء السنة، بل ويتفنن بعضهم في ذم معاوية مصورا إياه بالفرعون الأكبر وصاحب الخطيئة التي لا تغتفر وكأنه قتل نبياً أو تصدى لدعوته وحارب أتباعه.

إن الحقيقة التاريخية والقواعد الدينية تمنع المسلم العاقل من الانحراف إلى الطعن في معاوية برغم تخطئتنا إياه، لكن ما الذي يدفع بعض السنة إلى هذا اللعن والكلام بطريقة موتورة عند الحديث عن معاوية؟

لا يمكن تبرير هذا الموقف إلا من خلال القول إن الغلو في علي وذريته هو الذي يحملهم على الحديث بنبرة ومنطق شيعي، وذلك أن الشيعي حينما يطعن في معاوية فإنما يطعن فيمن قاتل عليّاً الإمام المعصوم الحائز على مناقب وكرامات وقدرات لم تُمنح للنبيين والملائكة المقربين، فمِن المنطقي أن يكون الاعتقاد في مخالفه (معاوية) يتسم بالحدة والتطرف، وكذلك السني لا يتولد في قلبه كراهية معاوية والرغبة في ذمه إلا بالقدر الذي يزداد فيه منسوب الغلو عنده في علي والحسين.

هذه هي العلاقة الوحيدة التي تفسر الموقف المتشنج من معاوية لدى بعض السنة، أما القول بأن الحب الشرعي لآل البيت هو الذي يدفع للقدح في معاوية فأمر لا يستقيم إلا باتهام أكثر الأمة بأنها لا تحب آل البيت لأنها لا تذم معاوية ولا تلعنه، فاللعن ليس مذهبها، والذم ليس طريقتها.

2- الطعن في الأمويين وذمّهم
تاريخ الدولة الأموية تاريخ زاخر بالأحداث والمواقف العظيمة في نصرة الإسلام، وليس من الصعب تقييم أعمال الأمويين ووضعها في ميزان شرعي يمكن من خلاله معرفة ما لهم وما عليهم، ولكن موقف الطعن في الأمويين وذمهم بالمطلق هو مذهب الشيعة وبعض من تابعهم من أهل السنة.

وهو موقف لا يشير من قريب أو بعيد إلى وجود منهجية تاريخية أو موضوعية أو التزام بالضوابط الدينية أو الأخلاقية في الحُكم على مجموعة من الناس وحقبة من الزمن.

ويزداد الحرج على الطاعنين في الأمويين حينما يعلمون أن معظم الفتوحات والإنجازات العسكرية تمت في عهدهم، فلا يمكن الطعن فيهم من جهة إسلامهم بحال من الأحوال.

فالتذرع بحب آل البيت والتدين بلعن الأمويين وكرههم لا يستوي مع معرفة ما حققوه للإسلام في دولتهم، ومن يصور الخلاف بين الأمويين وآل البيت بأنه خلاف ديني عقدي لا ينجح في الإتيان بدليل واحد على ما جنح إليه.

الطريق الوحيد الذي يمكن من خلال فهم اللهجة الشديدة تجاه الأمويين من بعض أهل السنة على غرار تشبيه زعماء الأمويين بفرعون وهامان، أو بأبي جهل وأُبيّ بن خلف وابن أبي سلول، هو المبالغة في تعظيم آل البيت تعظيماً كتعظيم الأنبياء.

3- غلو الصوفية في أهل البيت
إن غلو الصوفية في الصالحين كان المدخل إلى الغلو في أهل البيت باعتبارهم يجمعون الصلاح والعبادة، والقرب من النبي صلى الله عليه وسلم، يقول علي الكوراني العاملي: (كان من الطبيعي أن يبحث شيوخ التصوف عن شخصيات عارفة لله عابدة ليتخذوها قدوة وأن يجدوا أهل البيت عليهم السلام في طليعتها، ولذلك تجد أكثر أصحاب الطرق الصوفية نسبوا طرقهم إلى أويس القرني رحمه الله ثم إلى أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين عليهم السلام، وزعموا أنهم أخذوا منهم أفكارهم في معرفة الله تعالى وعبادته، ولهذا دخل التشيع بمعنى حب أهل البيت عليهم السلام إلى ثقافة الصوفية عموماً، ودخلت مدائح علي عليه السلام في أناشيدهم وأذكارهم وأورادهم)([1]).

ويقول الدكتور ناصر القفاري: (والروافض يرون أن البيئات التي ينتشر فيها التصوف تمثّل المناخ أو التربة الصالحة لنشر الرفض، وقد أطلعني أحد الباحثين العراقيين قديماً على تقرير سري لخطة نشر المذهب الرافضي في البلاد المصرية، وكان التقرير ينص على أن البيئة المصرية، حسب زعمهم، بيئة صالحة لنشر مذهبهم؛ لوجود وانتشار الطرق الصوفية، وكذلك وجود ما يسمى مشاهد أهل البيت المزعومة، كمشهد الحسين والسيدة زينب، إضافة إلى وجود قبائل الجعافرة في الصعيد(([2]).

وقد ساهمت الثقافة الصوفية والتي تغلو في محبة أهل البيت، في التقارب مع الشيعة وفي إدخال ثقافة شيعية إلى الوسط السني بثوب سني كونها تترضى عن الصحابة وتحترمهم كذلك، ومعلوم أن الفكر الصوفي لا يملك أي حصانة ضد التشيع، بل مواضع الالتقاء معه كثيرة، وهذا ما يسهل تصاعد أفكار الغلو الشيعية في أهل البيت بين أهل السنة.

وينبّه الدكتور ناصر القفاري إلى وجود تيار شيعي يتغلغل في داخل الطرق الصوفية، وأن الموضوع لم يعد تشابها عفويا غير مقصود بين التشيع والتصوف، حيث يقول: (إن من المفاهيم الخاطئة الشائعة التي يجب أن تصحح، هو تصور عامة الناس أن العلاقة بين التشيع والتصوف هي نوع من التشابه غير المقصود، ولا ينبئ عن وجود طائفة قائمة لها كيانها ورجالها ومصادرها وتواصلها السري والعلني مع رموز الشيعة، واعتقاد بعضهم أن العلاقة بين التشيع والتصوف هي من قبيل الغزو الخارجي الشيعي للتصوف فقط، ولا وجود لطائفة باطنية رافضية قائمة تعيش وتقبع داخل الطرق الصوفية من مدة طويلة، ولا تزال هذه الطائفة تتوسع في تدميرها لكيان التصوف، ونقلهم إلى نحلتهم بأنواع الإغراءات وصنوف شتى من التلبيس والتدليس.

ويبدو من خلال الاستقراء والدراسة والنظر أن التيار الشيعي الباطني إذا أنهى أو أكمل عملية تحويل الطريقة الصوفية إلى المسار الشيعي الباطني؛ فإنه يتم حينئذ كشف المستور والخروج عن التقية كما ترى الحال بالنسبة للطريقة الختمية، حيث أفصحت وأعلنت تشيعها بالكامل من خلال ارتباطها اعتقاداً واستدلالاً ومنهجاً ومصيراً بالتشيع، ولذا ترى بعض شيوخ الطريقة الختمية المعاصرين يحتجون بنفس حجج الإمامية، ويطعنون في الصحابة كحال إخوانهم الرافضة، سواء بسواء، ومثل ذلك البكتاشية، حتى عدّها الكوثري من ألقاب الشيعة الإمامية، وكذلك الطريقة العزمية، ثم يتحدث بعض من لا يدرك أبعاد المكر الباطني بأن هذا تشابه، وهذا آخر ما وصلت إليه دراستهم)([3]).

4- اتهام بعض علماء أهل السنة بالنصب

بعض الشخصيات العلمية السنية والتي تنتحل التصوف([4]) لا تنفك تتهم عددا من علماء أهل السنة أمثال ابن حزم وابن تيمية وأبي بكر بن العربي المالكي بالنصب نتيجة ردودهم على الشيعة، ورفضهم الموقف المغالي في آل البيت، بالرغم من أن هؤلاء الأئمة وغيرهم عاشوا في فترات تاريخية لم تعرف أي وجود لبدعة النصب التي اقترنت بظروف سياسية معينة.

لذلك فتوجيه الاتهام بالنصب لعلماء سنة لمجرد إبداء رأيهم واجتهادهم الذي لم يخالفهم فيه أحد من فضلاء الأمة، هو شاهد على وجود ثقافة الغلو في أهل البيت عند أهل السنة بل وتسربها إلى طائفة من أهل العلم المتصوفة.

5- تداول واستخدام مفردة النواصب

لقد سمع الكثير من المسلمين اتهام الشيخ العراقي أحمد الكبيسي لأبناء محافظة الأنبار بأنهم نواصب، ونجد في كلام الشيخ السوري عداب الحمش وأمثاله من الطاعنين في الصحابة استعمال هذه المفردة.

ومعلوم أن بدعة النصب والنواصب ظهرت في ظل ظروف وأجواء سياسية ساهمت في تحويلها إلى معتقد ديني تميزت بها فئة من الناس في زمن بني أمية، وما لبثت أن انقرضت وذهبت، ولم يبق من أثرها شيء.

فالنصب لم يكن سوى ردة فعل تطورت نتيجة الخلاف السياسي بين العلويين والأمويين، ولم يكن منشؤها دينيا كالتشيع وغيره، وبالتالي فإن استخدام هذا المصطلح وإعادة تفعيله بعد اندثاره وموته وذهاب الداعي إلى استخدامه هو محاكاة للمنطق الشيعي الذي يصف أهل السنة بالنواصب، ولا يتصور وجود مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكون في قلبه شيء على آل البيت، فاتهام المسلمين بالنصب بلا دليل هو صورة من صور الغلو المذموم.

6- التهويل والمبالغة في قصة استشهاد الحسين

يذهب بعض السنة إلى التهويل في قصة استشهاد الحسين رضي الله عنه، مع أنه قد قتل من خيار الأمة الكثير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، ولم يكن أحد يحيي ذكرى مقتلهم ويبكي عليهم.

لقد جمع الحسين شرف الشهادة إلى الشرف الكبير الذي ناله في حياته، ولا ينتفع بأي بكاء أو حزن أو نياحة عليه بعد موته، لذلك لم يكن حزن الصحابة عليه متضمناً أي مظهر من مظاهر المبالغة، والتي في حقيقتها عقيدة شيعية وليس حزنا طبيعيا على السبط المقتول رضي الله عنه، وهذا ما تنبه له الإمام الغزالي، يقول المفسر حقي إسماعيل البروسوي: (ومن قرأ يوم عاشوراء وأوائل المحرم مقتل الحسين رضى الله عنه فقد تشبه بالروافض خصوصا إذا كان بألفاظ مخلة بالتعظيم لأجل تحزين السامعين، وفي كراهية القهستاني لو أراد ذكر مقتل الحسين ينبغي أن يذكر أولا مقتل سائر الصحابة لئلا يشابه الروافض) انتهى.

قال حجة الإسلام الغزالي: يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكايته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم فإنه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم وهم أعلام الدين وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة ولعل ذلك لخطأ فى الاجتهاد لا لطلب الرياسة والدنيا كما لا يخفى)([5]).

وهؤلاء الذين يبالغون في إظهار الحزن على الحسين لا يستذكرون جريمة اغتيال الخليفة عثمان، المقتول في الشهر الحرام في البلد الحرام، وهو الرجل الثالث في الإسلام وصاحب المنزلة الرفيعة عند الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقتْل عثمان أشنع من قتل الحسين، وحدثت بسببه فتن ومشاكل أكبر من تلك التي حصلت بسبب مقتل الحسين، ومع ذلك لا أحد من المتباكين على الحسين يذكر مصيبة الأمة في اغتيال خليفتها الثالث.

إن إظهار الحزن السنوي على الحسين والمبالغة في ذلك لا يمكن تصنيفه في خانة محبة النبي صلى الله عليه وسلم وآله والحزن على مصابهم، إنما هو نوع من الغلو فيهم، وجعْل الإسلام يتمحور حول الحسين ومصيبة استشهاده.

هذه بعض مظاهر الغلو في أهل البيت المنتشرة في الأوساط السنية ينبغي العناية بدراستها وغيرها وإيجاد طريقة ملائمة لعلاجها حتى لا تتفاقم وتحرف عقيدة المسلمين وأمنهم الفكري لاسيما في زمن المواجهة المفتوحة مع الشيعة.


[1] - كتاب (معرفة الله) ص 64 الطبعة الأولى 1427 هــ، دار الهدى – قم.

[2] - مقال (الشيعة المتصوفة)، د. ناصر القفاري، مجلة البيان، عدد (320).

[3]- المصدر السابق.

[4]- تراجع بعض هذه الاتهامات في كتاب (النصب والنواصب، دراسة تاريخية عقدية) لبدر بن ناصر العواد.

[5]- روح البيان (4/ 142).