هذ
ا التنظيم البربري، اذا ما دخل بلاداً اعمل القتل في اهلها، واغتصب نساءها، وسبى رجالها وسرق الممتلكات والثروات واباح السيف في رقاب المعارضين، محولاً المناطق التي يتوجد فيه الى بؤر للكراهية والحق

اخترقت "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المعروفة باسم "داعش" أسماع العراقيين والعالم بعد تركيزها في عملياتها منذ بداية العام 2014 على الاراضي العراقية لتتمكن في نهاية المطاف من اجتياح الموصل، بعد تمكّنها من الفلوجة.





































واذا كانت "داعش"، باعتبارها تنظيماً ارهابياً اذهلت العالم بخفّة حركتها وسهولة تنقلها، معتمدة على "حرب العصابات"
التي يصعب حسمها في معركة نظامية وفق الأنساق العسكرية المعروفة، الا انها لم تُفاجأ العراقيين
الذي خبروا تحركات تنظيم القاعدة في خلال حقبة الارهابي الزرقاوي منذ العام 2003، والذي أباح القتل، والذبح الجماعي، في الكثير من مناطق العراق.

لقد اصبح تنظيم "داعش" منذ اندلاع نار الاحداث في سوريا، الجسر الواصل بين دول رسمت خرائطها اتفاقية سايكس بيكو، معلنا هدم علامات الحدود تمهيداً لدولته الاسلامية المفترضة التي رسمها في مخيلته، وتغطي مساحات شاسعة من الاراضي العراقية والسورية وصولا الى الاردن والسعودية، واغلبها مناطق صحراوية تسهّل عمليات الكر والفر، ويمكن عبرها الاختباء، لكن هذه المناطق في نفس الوقت تضم معابر استراتيجية للدول المتجاورة، فضلاً عن احتوائها على آبار نفط، ومصافي بترول، وانابيب ناقلة للطاقة، وطرق امدادات رئيسية بين الدول.لقد تحوّل تنظيم "داعش" منذ العام 2013 من مجرّد جماعة لقيطة، تعتمد على الفرصة والصدفة في الحرب، باسلوب قطّاع الطرق، الى جماعة منظّمة، انضم اليها الكثير من المتطرفين في العراق وسوريا، ويدين لها بالولاء متشدّدين في الاردن وسوريا والمغرب ودول اخرى مثلما استقطبت تكفيرييّ السعودية ودول اخرى، وأغرت بعض المتطرفين المقيمين في أوربا من الانضمام اليها.
ولم يعد اليوم، بعد توسّع "داعش" على الارض وازياد اعدادها، متّسع للقول ان هذا التنظيم يضم عدداً من الغرباء، ويعتمد على ما يحصل اليه من "أتاوات" وتبرّعات فحسب، بعدما أصبح من أثرى التنظيمات في العالم، يسيطر على آبار نفط، ومصالح اقتصادية، وبنوك ومؤسسات مالية واقتصادية في المدن التي اجتاحها.
سيرة عراقية.. من الزرقاوي الى البغدادي
نَمَت "داعش" مثل الكثير من التنظيمات المسلحة في العالم، بالتدريج، وعبر تكتيك يضمن لها الاستمرار والتمدّد في اللحظة المناسبة، بل انها صارت رمزاً للإرهاب المعاصر القادر على اغراء الكثير من الشباب بتأثيرات الخطاب الديني الذي تدّعي فيه التزامها بالشريعة، والسعي الى اقامة "الدولة العادلة".
وليست داعش اليوم سوى إبناً شرعياً لتنظيمات القاعدة التي ولدت في العراق بعد العام 2003، حتى اتاح لها الظرف السوري استعادة قوتها بعد الضربات القاصمة التي تلقتها في العراق.
والى الان، يلاحظ المرء تأثيرات أول تشكيل لجماعة "التوحيد والجهاد" في عام 2004، على أدبيات التنظيم و تحركاته الميدانية على الارض، بزعامة ابي مصعب الزرقاوي الذي بايع زعيم تنظيم القاعدة السابق اسامة بن لادن وقتها، مستبدلاً اسم جماعته بـ "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"، حتى اذا بسط نفوذه على الكثير من المناطق في غرب العراق وشمال بغداد، خرج الزرقاوي العام 2006 على الملأ معلنا عن تشكيل "مجلس شورى المجاهدين" بزعامة عبدالله رشيد البغدادي.
غير ان مقتل الزرقاوي، اتاح خيار الزعامات المتعدّدة لـ"داعش"، التي سعت الى اتباع الاسلوب المركزي في القيادة مع سرعة الحركة والقسوة مع الاعداء، فكان انتخاب ابي حمزة المهاجر زعيما للتنظيم بعد مقتل الزرقاوي في الشهر عينه، والذي شكل بداية "دولة العراق الاسلامية" التي لم يعلن عنها الا في حقبة زعامة ابي عمر البغدادي.
وحين قتلت القوات الاميركية والعراقية ابي عمر البغدادي وابي حمزة المهاجر في 19 نيسان 2010، اختار "مجلس شورى الدولة"، ابي بكر البغدادي، خليفة له، حيث شهد عهده عبور التنظيم بشكل علني الى سوريا، والتركيز على رغبة التنظيم على العمل في الاردن والسعودية.
وفي تطور تنظيمي لافت، اعلن البغدادي في التاسع من نيسان العام 2011، عن تحالف او اندماج "جبهة النصرة" في سوريا بـ"دولة العراق الاسلامية"، تحت مسمى "الدولة الاسلامية في العراق والشام"، لكن "جبهة النصرة" رفضت الالتحاق بهذا الكيان الجديد.
سيرة عالمية.. عبد الله عزام وبن لادن
واذا كانت اعداد التنظيم لا تتجاوز المئات قبل اندلاع شرارة اعمال العنف في سوريا، فان تشارلز ليستر الباحث في مركز "بروكينغز" الامريكي في الدوحة يعتقد بانضمام الالاف له بعد ذلك التاريخ، وتوافد الكثير من المسلحين الاجانب للقتال بين صفوفه.
وفي الوقت الذي كانت فيه القاعدة في بداية فعالياتها في العراق 2003، لا تضم قيادات عراقية، فان تنظيم "داعش" يضم بين صفوفه اليوم، زعماء عراقيين، باتوا يشكّلون الطليعة في هذا التنظيم.
لكن ما يثير في "داعش" ثقتها بنفسها، وعملها منفردة لا تعترف بالآخرين حتى من الذين يتوافقون معها في نهجها العقائدي، فنأت بنفسها عن تنظيم القاعدة، وخاضت المعارك مع جبهة النصرة، وتمرّدت على ايمن الظواهري ورفضت الانصياع لإرادة زعماء الارهاب التقليديين.
ومنذ اجتياح "داعش" للفلوجة، اقتصر العمل ضدها في العراق على القوات الامنية التي امتازت حربها على هذا التنظيم بالكرّ والفرّ، حتى جاءت فتوى المرجعية الدينية في النجف الاشرف بـ"الجهاد الكفائي" ضد "داعش" والارهاب، ليتحوّل القتال ضدها من تكليف "رسمي" الى واجب "ديني"، وفعالية شعبية ما جعل الملايين من العراقيين يتطوّعون للقتال ضد "داعش" في اول فتوى دينية وضعت النقاط على الحروف في تعرية هذه التنظيم الخطير على الامة، لكن مقابل ذلك توسّعت حواضن الارهاب في الرمادي والموصل ومناطق اخرى استجابة لدعوات طائفية تروّج لفكرة ان ما يحدث هو "ثورة شعبية" ضد "الحكم الرافضي"، بتعبير الأدبيات والخطابات الداعمة للإرهاب.
أموال
ولم يكن سهلاً القول ان دولاً معينة بذاتها تدعم الارهاب، فحتى الاتهامات التي تُوجه الى السعودية وقطر بدعم التنظيم الارهابي كانت تنتظر الادلة والبراهين القاطعة، وتتجاوز الاتهامات عبر الاعلام.
لكن المؤكد ان الكثير من الشخصيات المتطرفة من سياسيين ورجال اعمال وتجار ورجال دين، اقاموا شبكات سرية لدعم "داعش" معنوياً ومادياً، وهي شبكات تتعامى حكومات الدول عن رؤيتها، متعمدة، لتمرير مصالحها.
لكن تمويل التنظيم في الوقت الحاضر تجاوز الاعتماد على الهبات والدعم الذي يأتيه من شخصيات وجهات خليجية وبشكل غير رسمي، الى الاعتماد على موارد المدن التي يحتلّها.
ففي الموصل، دَعَم التنظيم امكاناته العسكرية بالسيطرة على مخازن الاسلحة، وغَنَمَ في الموصل خمس طائرات هليكوبتر أميركية الصنع، حتى وصل تبجحه الى الحد الذي طالب فيه الولايات المتحدة وباستهزاء واضح الصيانة الدورية لهذه الطائرات.
ووفق تقارير، اكّدها محافظ نينوى الفار اثيل النجيفي، فان "داعش" استولت على نحو 400 مليون دولار أميركي من البنك المركزي في الموصل، مثلما نَهَبَت الخزائن في جميع البنوك الأخرى، وتسعى الى السيطرة على أحد أكبر مصافي النفط في بيجي.
وعبر فرض "الأتاوات" في الموصل والفلوجة ومناطق اخرى، يحصل التنظيم على نحو ثمانية ملايين دولار شهرياً، عبر فرض الضرائب، لاسيما على المركبات في الطرق الخارجية، لكي يسنى لها العبور الآمن.
كما شرع في أخذ "الجزية" من غير المسلمين في الموصل والفلوجة، اضافة الى موارد من أعمال الابتزاز والخطف والسطو والتهريب.
ممولو داعش
يحرص داعمو وممولو "داعش" على العمل وفق اجندة وتنسيق شبكي غاية في السرية، الا ان المواقف السياسية العلنية غالبا ما تعرّي اولئك الداعمين، وعلى رأسهم تركيا، فمن وجهة نظر الكاتب الأمريكي دانيال بايبس، فأن القادة الأتراك يدعمون "داعش" في سعيهم الى ابقاء الاوضاع مضطربة في كل من العراق وسوريا، لان ذلك يصب في مصلحتهم.
فيما يرى الكاتب الأمريكي دانيال غرينفيلد، ان خليفة الرئيس العراقي السابق صدام حسين في حزب البعث، عزت إبراهيم الدوري، يدعم داعش، عبر اموال يتلقاها من جهات خليجية في قطر والسعودية.
كما كشفت وثائق أمريكية عن 131 اسما لأكاديميين وناشطين ورجال دين من العراق والسعودية وقطر ودول خليجية اخرى، يوفرون الدعم للحركات "الجهادية" والمجاميع المسلحة.
برابرة
لقد اختار تنظيم "داعش" الموصل بعد تمكنّه من مدينة الرقة السورية، وتواجده في الفلوجة، على امل انشاء دولته الاسلامية الموعودة، مستغلا فراغ القوة والجغرافيا الواسعة في هذه المناطق، ومعوّلا على غسيل الدماغ لشباب يغريهم بالجنة الموعودة والحور العين، والدولة العادلة التي ينوي اقامتها، فيما تشير المعطيات الى ان هذا التنظيم البربري، اذا ما دخل بلادا اعمل القتل في اهلها، واغتصب نساءها، وسبى رجالها وسرق الممتلكات والثروات واباح السيف في رقاب المعارضين، محولاً المناطق التي يتوجد فيه الى بؤر للكراهية والحقد على الحضارة المعاصرة.
حروب الوكالة
لقد كشف اجتياح "داعش" للفلوجة، حروباً تخوضها هذه الجماعة الارهابية بالوكالة، نيابة عن دول مثل السعودية وقطر لتحقيق أهدافها في اضعاف الدول المجاورة مثل العراق وسوريا.
وعلى رغم ان السياسات الرسمية لهاتين الدولتين، توحيان بمحاربتهما لـ"داعش" والارهاب الا ان الدعم عبر القنوات السرية مثل الجمعيات الخيرية والدينية، والتبرعات عبر رجال الاعمال ورجال الدين، قائم على قدم وساق.
ولم يعد سراً القول، ان "داعش"، تحوّلت الى اداة تؤجرها القوى الاقليمية لتحقيق مصالحها، وهو ما تسبّب في نجاح "داعش" في احتلال الموصل، بل انّ زعيماً قبلياً عراقياً مثل مسعود البارزاني لم يتواني عن استخدام "داعش" و بالتنسيق مع رجال "جيش الطريقة النقشبندية"، كورقة لتمرير مخططاته في سرقة النفط، وابتلاع المناطق المتنازع، عليها، مستغلاً انشغال حكومة المركز والجيش بطرد الارهاب من المناطق التي يتواجد فيها.