أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


ضوابط ترتيب الجملة العربية في الأصل والعدول
المبحث الأول
بيان المصطلحات
أولاً: الرتبة

المقصود بالرتبة لغةً: "المكانة والمنزلة, يُقال: رَتَبَ الشيءُ أي ثَبَتَ فلم يتحرك, رَتَبَ رُتوبَ الكَعْب أي انتصب انتصابه, ورتَّبه تَرْتيباً: أثبته. وفي حديث لقمان بن عاد: رَتَبَ رُتوبَ الكعبِ, أي:انتصبَ كما ينتصِبُ الكعبُ إذا رَمَيْتَهُ, ومنه حديث ابن الزبير, رضي الله عنهما: كان يصلي في المسجد الحرام وأحجار المنجنيق تمُرُّ على أُذنه, وما يلتفت, كأنه كَعبٌ راتِب. والكعبُ: عقدةُ ما بين الأنبوبين من القصب والقنا, وقيل: هو أنبوب ما بين كل عُقدتين, وقيل: هو العظم الناشز عند ملتقى الساق بالقدم "( 1)
والمقصود بالرتبة اصطلاحاً: الموقع الأصلي الذي يجب أن تتخذه الوظيفة النحوية بالنسبة للوظائف الأخرى المرتبطة بها بعلاقة نحوية تركيبية, فهي (الرتبة) وصف لمواقع الكلمات في التركيب. -----------------------------------------
1- ابن منظور – لسان العرب ، مادة : رتب
2- لطيفة النجار – دور البنية الصرفية ، ص 196
----------------------------------------------
وسيرد استعمال لفظ (الرتبة) أيضاً, بالمعنى اللغوي, ليدل على المنزلة أو المكانة, والمعنيان (اللغوي والاصطلاحي) في هذه الدراسة متداخلان, فالتقدم في الرتبة يعني التقدم في المنزلة والموقع معاً, والتأخر في الرتبة يعني التأخر في المنزلة والموقع معاً كذلك.

ثانياً: الخاص

المقصود بالخاص في هذه الدراسةهو: القريب أو الأهم.
ثالثاً: العام
المقصود بالعام في هذه الدراسة هو: البعيدأو الأقل أهمية.
رابعاً: المبني عليه
المقصود بالمبني عليه في هذه الدراسة هو: الأساس الذي يتركب عليه الكلام (الطالب أو المحتاج).
خامسا: المبني
المقصود بالمبني في هذه الدراسة هو: الوظيفة النحوية في التركيب النحوي (المطلوب أو المحتاج إليه).
سادساً: الاحتياج
المقصود بالاحتياج في هذه الدراسة هو: الطلب أو العلاقة المعنوية.
-------------------------------------------

المبحث الثاني
ضوابط الترتيب
الإنسان يفكر باللغة ويلغو بالفكر،ومن المفترض أن الإنسان عندما يتكلم يقوم بالاختيار من ثقافته اللغوية ،وهذا الاختيار مضبوط بضوابط الاختيار أوضوابط التبادل المعجمي في المواقع التركيبية وهي:الضابط المعنوي،أوكما يسميها الجرجاني الفروق والوجوه، والضابط المعنوي اللفظي( أوالمحسنات البديعية المعنوية اللفظية)،وبعد الاختيار يأتي التأليف،وهاتان العمليتان تندمجان معا في ذهن الإنسسان،ثم يتحول النشاط اللغوي غير المحسوس أو المعاني تلقائيا إلى نشاط لغوي محسوس نسميه الكلام.
"وعملية تأليف الجمل تنتظمها رتب تختلف في اللغة الواحدة, إلاّ أن تغيرات الرتبة في اللغة الواحدة ليست اعتباطية أو غير محددة, بل هناك ما يدل على وجود قيود على رتب المكونات الكبرى, والصغرى, ومن أهداف النظرية اللسانية أن تبحث في مجموعة المبادئ التي تُقيد الرتب داخل اللغات, لأن كفايتها ليست مرهونة فقط بتخصيص ووصف ما يلاحظ من الظواهر الرتبية, بل أيضاً بحصر ما لا يمكن أن يلاحظ منها( 1)"فالكلمات لا تتوالى في الجملة على نحو عشوائي بل يخضع ترتيبها لأنساق تركيبية مضطردة"( 2) يتحكم المعنى في الجزء الأكبر منها ويتحكم اللفظ في القليل الباقي وتترتب الكلمات في الجملة العربيـة وفق ضوابط معينة تتحكم في ترتيبها وحركة عناصرها. وهذه الضوابط تتحكم أو تؤثر في الكلام المتراتب نحوياً ومعنوياً وأول هذه الضوابط هو ضابط المعنى وثانيهما هو ضابط اللفظ.

----------------------------------------------
(1) الفهري - اللسانيات واللغة العربية ، ص 103
(2) ممدوح الرمالي - العربية والوظائف النحوية، ص 220
--------------------------------------------
أَولاً: التقدم (بالسبب المعنوي)
فقـد قال سيبويه: "كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أعنى, وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم"(1 ) فالمهم يتقدم على الأقل أهمية والألفاظ تترتب بحسب ترتبها في النفس, وهذا ما يراه عبدالقاهر الجرجاني حيث يقول "وأما نظمُ الكلم فليس الأمرُ فيه كذلك لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني, وترتبها على حسب ترتب المعاني في النفس فهو إذن نظمٌ يُعتبر فيه حالُ المنظومِ بعضهُ من بعض وليس هو النظمُ الذي معناهُ ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق, مما يوجب اعتبارَ الأجزاء بعضَها من بعض, حتى يكون لوضع كلٍّ حيث وضِع علةٌ تقتضي كونه هناك, وحتى لو وضع في مكانٍ غيره لم يصلح "( 2)
فلا بد إذن من مراعاة مواقع الكلام بعضه من بعض, فقد تصلح الكلمة في موقع ولا تصلح في موقع آخر وذلك بالنظر إلى ائتلافها مع جاراتها من الكلمات في الجملة. ولا بد من أن يكون هناك سبب يقتضي وضع الكلمة في هذا الموقع أو ذاك, ولو وضعت في غير مكانها لم يصلح, فكل كلمة لها الموقع الذي يناسبها.
وقد فسر السهيلي (583هـ) كلام سيبويه قائلاً " وما تقدم من الكلام فتقديمه في اللسان على حسب تقدم المعاني في الجنان والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان, وإما
بالطبع, وإما بالرتبة, وإما بالسبب, وإما بالفضل والكمال فإذا سبق معنى من المعاني إلى الخلد والفكر بأحد هذه الأسباب الخمسة أو بأكثرها سبق اللفظُ الدالُ على ذلك المعنى وكان ترتب الألفاظ بحسب ذلك. نعم وربما كان ترتب الألفاظ بحسب الخفة والثقل لا بحسب المعنى كقولهم:
----------------------------------------------
( 1 ) سيبويه - الكتاب ، ج1،ص 34
( 2) عبدالقاهر الجرجاني - دلائل الإِعجاز ، ص 49
--------------------------------------------------
ربيعه ومضر. "(1)
أما العلائي (761هـ) فيقول في الفصول المفيدة في الواو المزيدة: "روي أن عمر رضي الله عنه أنكر على سحيم عبد بني الحسحاس قوله:"كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا"وقال:لو قدمت الإسلام على الشيب. ولم أجد لإنكار عمر رضي الله عنه على سحيم سنداً ولكنه مشهور في كثير من الكتب, وقد أجيب عنه بأن ذلك الإنكار على وجه الأدب في تقديم الأهم في الذكر ،فالنطق الواقع في الزمان الأول متقدم بالطبع على النطق الواقع في الزمان الذي بعده, وهو السر فيما حكاه سيبويه عن العرب أنهم يبدأون بما هو الأهم عندهم وكانت العناية به أشد, فكل ما قُدِّم بالزمان دلَّ على أن المتكلم قصد الاهتمام به أكثر مما بعده, وذلك يقتضي تفضيلاً.فإنكار عمر رضي الله عنه لهذا المعنى"(2 )
----------------------------------------------
( 1 ) السهيلي- نتائج الفكر،ص 268
( 2 ) العلائي - الفصول المفيدة ، ص 93-94
--------------------------------------------------
فالأصل أن يتقدم الإسلام على الشيب بالرتبة والفضل والشرف, ولكن تقدم الشيب بالسبب اللفظي عدولاً.
وبناءً على ما تقدم فالذي يبدو لي أن المباني تترتب بالرتبة (المنزلة) بغض النظر عن سبب التقدم
هذا, وتترتب الجملة العربية في الأصل من المبني عليه إلى المبني بالرتبة من الخاص (القريب) إلى العام (البعيد) والمباني إما أن تتقدم بالزمان وإما بالطبع, وإما بالرتبة, وإما بالسبب وإما بالفضل والكمال, وإما بالخفة والثقل, والعدول من العام إلى الخاص.
وهذا يتوافق وما يقوله ابن القيم كذلك من أن هناك طريقتين معروفتين في الكلام " الترقي من الأخص إلى ما هو أعم منه, إلى العام (البعيد)(أوالأقل أهمية)
(وهو الأصل) والنزول من الأعم (الأهم) إلى الأخص منه إلى الخاص (القريب)(الأقل أهمية)وهذا هو الخروج عن الأصل) (1)
فالكلام يترتب بحسب الأهمية المعنوية أصلا وعدولا.

ثانياً: التقدم بالسبب اللفظي

"وربما كان ترتيب الألفاظ بحسب الخفة والثقل لا بحسب المعنى"( 2) ومن الأسباب اللفظية التي تترتب بموجبها الألفاظ: الخفة والثقل, الصدارة, تناسب الفواصل, المشاكلة اللفظية … الخ
وخلاصة الأمر هو أن رتبة المباني (مواقعها أو ترتيبها) تترتب بفعل الرتبة (المنزلة) من الخاص إلى العام أصلاً ومن العام إلى الخاص عدولاً.
وإذا كان النظم عند الجرجاني " أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت"(3 ) وبما أن النظم يعتمد على الرتبة فمعنى ذلك أن النحو العربي يقوم على الرتبة كذلك وأن قانون الرتبة يستحق أن يُسمى " قانون تأليف الجُمل أصلاً وعدولاً. "
-------------------------------------------------
( 1) ابن القيم - بدائع الفوائد ،ج1،ص81.
( 2 ) السهيلي - نتائج الفكر ، ص 268.
( 3) عبد القاهر الجرجاني - دلائل الإعجاز , ص50.
============================


العدول عن أصل ترتيب الجملة العربية

يجيب الجرجاني ذاكراً كلام سيبويه عن التقديم والتأخير وتفسير النحويين له فيقول: واعلم أََنّا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئاً يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، ومعنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعلٍ ما ، أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه ، ( فإذا حدث الفعل ) وأراد مُريد الإخبار بذلك قَدَّم المفعول على الفاعل ،(وبهذا ينصب الفعل على المفعول) لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا شخص الفاعل جدوى وفائدة . فإذا وقع الفعل من شخص ليس من عادته فعل هذا الفعل، وأراد المخبر أن يخبر بذلك فإنه يقدم ذكر الفاعل, (وبهذا ينصب الفعل على الفاعل) ذاك لأن الذي يعنيه ويعني الناس طرافته وندرته ، ومعلوم أنه لم يكن نادراً وبعيداً من حيث كان واقعاً بالذي وقع به, ولكن من حيث كان واقعاً من الذي وقع منه . (1)
وهذا يدل على أن المباني تترتب بالمنزلة والأهمية أصلاً وعدولاً من أجل الهدف المعنوي .ولكن الجرجاني يرفض اقتصار التعليل على العناية والاهتمام ، من دون ذكر مصدر هذه العناية ، وبم كان أهم " (2) وأظنه قد أصاب عندما رفض هذه المفردة العامة والموجزة ،فلا بد من تفسير وتوضيح للعناية والاهتمام وإن كان التقديم لا يقتصر على الهدف المعنوي .
ولذلك ينبغي التفرقة بين الأهمية كأساس وبين الأهمية كهدف نسعى إليه وبين التقديم بالأهمية وللأهمية.
-----------------------------------------------
1-الجرجاني –دلائل الإعجاز-ص ص 108-108
2-المصدر نفسه،ص 108
----------------------------------------------
فعميلة تقديم عنصر لغوي مضبوطة بالمنزلة, من أجل هدف معين, فالأسـاس الذي تتم عملية التقديم والتأخير بناءً عليه هو المنزلة (قـوة العلاقـة المعنويـة ) من أجل هدف قد يكون معنوياً, أو بلاغياً, أو أمناً للبس .... إلخ .
وكما تترتب الجملة في الأصل بناءً على الضابطين المعنـوي واللفـظي ، فهي تترتب بناءً عليهما في العـدول ، ولأهـدافٍ كثيرة ، وتفصيل ذلك كما يلي:-
أ- العدول عن أصل الرتبة بالضابط المعنوي:-
1- للهدف المعنوي:-
ويظهر هذا من خلال الأمثلة التالية:-
فمن ذلك قوله تعالى ( أَئِفكا آلهةً دونَ اللهِ تريدون)(الصافات 86) وهذه الآية تترتب من العام إلى الخاص عدولاً, والأصل فيها أتريدون آلهة دون الله إفكاً " ثم انظر إلى حسن عكس الرتبة بإيراد المفعول لأجله أولاً, ثم المفعول به الموصوف بشبه الجملة, ثم الفعل وفاعله ، فالآية كما تعلم استفهام إنكاري, وما دام معناها الإنكار فإن ترتيب ألفاظها ينبغي أن يكون بحسب الأولوية في استحقاق الإنكار ، وأول الألفاظ بالإنكار لفظ " إفكا" لأن الكفر قد يكون ميراثاً عن الآباء, ولكنه قد يكون انحرافاً عن الحق متعمداً لا ينفع معه الدليل على فساده, فذلك هو الإفك, ثم يلي في الإنكار أن يذهب الإفك عن إشراك آلهة مع الله, فإذا كانت الآلهة دون الله لا معه فهذا أوغل في الشرك ، ويضاعف من سوء ذلك كله أن يكون ذلك بإرادتهم واختيارهم ولو أن سياق الكلام كان على صـورة أخرى مثل " أتريدون آلهة دون الله إفكاً " لانطفأ كل ما في الكلام من حرارة الإنكار, ولبدا الكلام وكأنه سؤال لهم عما يفضلونه من أنواع الشرك " (1) "وقد وجدنا أن المفعول لأجله وهو آخر الأبواب النحوية ترتيباً قد تصدر هذا الشاهد يتلوه المفعول به ونعته ، وذلك لأن أول ما تعلق به الاهتمام هو السببية التي عبر عنها المفعول لأجله ، لأن الكفر عن ضلال قد ترجى له الهداية, أما الكفر عن إفك فذلك انحراف مع تدبير وكيد وإصرار " (2).
ومن الملاحظ أن الإنسان ينصب المفاعيل قبل ذكر الفعل ،فهو يتحدث تحت رعاية الاحتياج المعنوي بين أجزاء التركيب مع علامات أمن اللبس.
فالأصل تقدم الفعل فالفاعل فالمفعول فالصفة فالمفعول لأجله بالأهمية ، ولكن عُدِل عن الأصل وتقدم المفعول لأجل بالمنزلة لِيَلي همزة الاستفهام الإنكاري لأن الاهتمام قد تعلق به ، ثم تبعه المفعول به في شدة الاستنكار ثم وصف المفعول …. والمباني مترتبة بالمنزلة من العام إلى الخاص ، وقد تمت إعادة توزيع الرتبة من أجل الهدف المعنوي ومعنى المعنى ، يقـول الجرجاني : " ومن الصفات التي تجدهم يجرونها في اللفظ ثم لا تعترض شبهة ولا يكون منك توقف ، في أنها ليست له ولكن لمعناه قولهم : لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناهُ لفظه ولفظه معناه ، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناهُ إلى قلبك " وقولهم : يدخل في الأذن بلا إذن ، فهذا مما لا يشكُّ العاقل في أنـه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى, وأنه لا يُتصور أن يراد به دلالة اللفظ على معناهُ الذي وضع له في اللغة
----------------------------------------------------
1-تمام حسان –البيان في روائع القراّن،ص 95
2-المصدر نفسه،ص 95
--------------------------------------------------
ويلاحظ التناغم الدلالي بين المباني بحفظ رتبة الموصوف وصفته في الأصل والعدول

2-للهدف البلاغي:-


وقد يعُدل عن الأصل من أجل الهدف البلاغي " وإنه يبدو أن التقديم والتأخير وفوائده هو أوضح ما جذب انتباه البلاغيين من الأساليب العدولية إذ جعلوا ذلك مبحثاً خاصاً من مباحث علمهم ، وربطوا بين التقديم والاهتمام بالمتقدم حتى لقد قاربوا في المعنى بين التقديم والقصر في الأكثر الأعم من الحالات " (1) ويظهر العدول عن الأصل من أجل الغرض البلاغي في الأمثلة التالية :
ومن ذلك قوله تعالى : ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) (فاطر 28) والأصل تقدم الفاعل على المفعول بالمنزلة ولكن تقدم المفعول بالرتبة من أجل الغرض البلاغي وهو الحصر وقد تقدمت إنما بالصدارة ثم تبعها الفعل بالرتبة لأنها دخـلت لمعنى فيه وهو قصر الخشية على العلماء ، ثم تقدم لفظ الجلالة ، فصارت الآية تترتب من العام إلى الخاص ، وإعادة توزيع الرتبـة جـاءت من أجل الغرض البلاغي وللاتصال المعنوي من
---------------------------------------------------
1-تمام حسان –البيان في روائع القراّن ،ص 387
------------------------------------------------------
العام إلى الخاص والمباني متقدمة بالرتبة من أجل قصر خشيـة الله على العلمـاء، والعـدول هنا واجب وذلك" لأنه لا يُعَرف متعلق الحصر إلاّ بتأخيره"(1)

3):-) أمن اللبس
وقد يعُدل عن الأصل من أجل أمن اللبس لأن " اللغة العربية – وكل لغة أخرى في الوجود تنظر إلى أمن اللبس باعتباره غاية لا يمكن التفريط فيها،لأن اللغة الملبسة لا تصلح واسطة للإفهام والفهم "(2) وقد يطرأ على الرتبة غير المحفوظة من دواعي أمن اللبس ما يدعـو إلى حفظها،كما في ضرب موسى عيسى،وأخي صديقي وقد يطرأ عليها من ذلك ما يحتم عكسها كالذي نراه من لزوم تقـديم الخبر على المبتدأ أحياناً وفي ذلك يقول ابن مالك :
ونحو عندي درهمٌ ولي وطرْ ملتزم فيه تقديم الخبر
كـذا إذا عـاد عليه مضمرُ مما به عنه مبيناً يخبر
وقال أيضاَ:وإن بشكل خيف لبس يجتنب ويمكن أن يظهر العدول عن الأصل من أجل أمن اللبس في الأمثلة التالية:-
ومـن العـدول عن الأصل من أجل أمن اللبس قولـه تعالى : (يؤتى الحكمة من يشاء ) إذ المعـروف في أخوات أعطـى أن الآخـذ هو المفعول الأول وأن المأخـوذ هو المفعـول الثاني ، وبهذا يكون
----------------------------------------------
1- ابن مالك ،شرح التسهيل،ج2،ص 66
2- تمام حسان-اللغة العربة معناها ومبناها،ص233
---------------------------------------------
الأصل في التركيب " يؤتى من يشاء الحكمة " ولكن هـذا التركيب ملبس لصلاح الحكمة أن تكون مفعول " يشـاء " لا مفعول " يؤتي " فعكست الرتبة لأمن اللبس (1) ولذلك تقدم العام على الخـاص بالمنزلـة،
والملاحـظ أن النحـاة كانوا يلمحون (الاحتياج المعنوي ومنزلة المعنى) بين طرفي الجملة كما كانوا يلمحونه أيضاً بين المعاني النحوية في داخل الجملة الواحدة، وهذا هو المعنى الذي نلاحظه في إعراب جملة مثل " يؤتي الحكمة من يشاء " حين نعرب " مَن " مفعولاً أولاً على رغم تأخرها والحكمة مفعولاً ثانياً على رغم تقدمها ويكون ذلك بإدراك ما بينهما من (علاقة الاحتياج المعنوي) إذا نقول إن " من " هي الآخذ " والحكمة " هي المأخوذ . والخلاصة أن مراعاة الآخذية والمأخوذية هنا هي الاعتبار الذي تم إعراب المفعولين طبقاً له " (2) ومراعاة معنى الآخذية والمأخوذية ما هي إلاّ المنزلة. ومثل الآية السابقة قوله تعالى: (والله يؤتي ملكه من يشاء )( البقرة 247) فقد تعلقت"ملكه"بيؤتي عدولاً عن الأصل من أجل أمن اللبس، لأن كونها مفعولاً ليؤتي أقرب من كونها مفعولاً ليشاء
فالكلام يترتب بالمنزلة والمكانة أصلا وعدولا،والإنسان يتحدث تحت رعاية الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس.
-------------------------------------------
1-تمام حسان-البيان في روائع القراّن،ص 288
2-المصدر نفسه،ص 194