أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


إتحافُ الطالِب الحاذِق اللَّبيب، بما يحصِّل العلم الرَّحيب الرَّطيب

للعلامة أبي المواهب جعفر بن إدريس الشريف الكتاني، رحمه الله تعالى

تحقيق: حسام الحفناوي

مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وبعد:

فهذه رسالة لطيفة في الحَثِّ على تَصحيح النِّيَّة في طلب العلم، والاجتهاد في تحصيله، وبيان بعض الآداب التي يَلْزَم طالب العلم أن يَتَحَلَّى بها، وهذا بابٌ عظيمٌ من الأبواب التي اهتم العلماء قديمًا وحديثًا بالتَّصنيف فيه، فمنهم من تناول بعض مسائله، ومنهم من حاول استيعاب هذا الباب.

ومن أشهر التَّصَانيف فيه: "الجامع لأخْلاق الرَّاوي وآدابِ السَّامع" للخطيب البغدادي، و"جامع بيان العلم وفضله" لابن عبدالبر، و"أدب الإملاء والاستملاء" لابن السَّمْعَاني، و"تَعْليم المُتَعَلِّم طريق التَّعَلُّم" للزّرْنوجي، و"تَذْكِرة السَّامع والمُتَكِّلم في أدب العالم والمُتَعَلِّم" لابن جَماعة، و"أدب الطَّلَب" للشَّوْكاني، و"حِلْيَة طالب العلم" للشَّيخ بكر أبي زيد، وغيرها كثير.

والرِّسالة التي معنا لواحدٍ من عُلماء المغرِب، الذين لا نعرف عنهم الكثير؛ إذِ اقتصرت معرفَتُنا بعلماء المغرب والأندلس على أسْماءٍ بعَيْنِها، أمَّا أكْثَرُهم فهم - كما قال بعض العلماء المعاصرين – مظلومون؛ إذْ لا نكاد نعرف عنهم شيئًا، رحِم الله جَميع علماء المسلمين، وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء.

وهي مطبوعة على الحجر بفاس، بتصْحيح مؤلِّفها - رحِمه الله تعالى - منذُ أكثرَ من قرن.


ترجمة العلاَّمة الشَّيخ جعفر بن إدريس الكتَّاني
رحمه الله تعالى[1]
هو العَلاَّمة الفقيه، المُحَدِّث، النَّسَّابة، أبو المواهب، جعفر بن إدريس، الكتاني، الحسني، المالكي.

وُلد - رحِمه الله تعالى - بفاس حوالَي سنة ست وأرْبعين ومائتين وألف، وأخَذَ بِها عن كبار مشايخِها، ونَبَغ مبكِّرًا، فتَصَدَّر للتَّدريس والخطابة والإمامة في رَيْعان شبابِه بجامع القرويين، وغيره من جوامع ومساجد وزوايا فاس.

وقد رفض - رحِمه الله تعالى - تَوَلِّي القضاء في أي من مدن المغرب، ومع ذلك فقد ظلَّ المرْجع في الأحكام التي تُستأنف عند سُلطان بلاد المغرب في ذلك الوقْت، وهو السلطان الحسن الأوَّل العلوي، وكان السلطان المذكور قد قَرَّب الشيخ جعفرًا؛ لما رأى من نُبوغه، وصار الشَّيخ أحد رجال مجلس الشورى عنده، وواحدًا من الذين ساهموا في النهضة العلمية والحضاريَّة، التي شهِدَها عصر السلطان المذكور.

وكان عالمًا، ورعًا، مُنْقَبِضًا عن النَّاس، كثيرَ التَّصْنيف، قليلَ التَّدريس، مُهابًا في أعيُن النَّاس، مُحَبَّبًا لهم، يُرْجَع إليْه في النَّوازل والأحكام، ولا يُداهِن أحدًا، وكان يُعرف في عصره بِمالكٍ الصَّغير؛ نظرًا لتَبَحُّره في الفِقْه، ومعرفته بأساليب الاستِدْلال، وحفْظِه لنصوص المذهب، مع ميْله للآثار، واعتِنائه بنوازل الوقْت.

ترك - رحِمه الله تعالى - مؤلَّفات تُقارب المائة، منها: حَوَاشٍ على الصَّحيح، وأُخرى على جامع الترمذي، وصَنَّف "الشِّرْب المُحْتَضَر في رجال القرن السادس عشر"، وله عِدَّةُ أَثْباتٍ ذكر فيها شيوخَه، وكان يروي بالإجازة العامَّة عن الشيخ عابد السِّندي، رحمه الله تعالى.

وكان له - رحِمه الله - دَوْر مهمٌّ في إحْياء تراث علماء المغرب، فقام بتحْقيق وتصحيح مَجموعة من أمَّهات المؤلَّفات، كحاشية المَكُودي على ألفية ابن مالك، وغيره.

خَتَمَ الصحيحين سَرْدًا ودراسة بالزَّاوية الكِتَّانِيَّة بفَاسٍ أَزْيَد من عشرين مرَّة، كما أَقْرَأ بها بَقِيَّة الكتب السِّتة، عدا ابن ماجه.

وكان - رحِمه الله تعالى - سيفًا على رقاب المُتَجَنِّسين بجنسيَّات الكفار، كما قام بدور كبير في تحريض سلطان بلاده على قتال الفرنسيين، عندما حاولوا احتلال موريتانيا، وصَنَّف في ذلك رسالة يَسْتَنْفِر فيها السلطان وجنوده.

توفي - رحِمه الله تعالى - بفاس في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف، عن نَيِّف وسبعين سنة، وخرج جُلُّ أهل فاس في جنازته، ولما بَلَغَت وفاتُه مكةَ المكرمة، صُلِّيَ عليه بالمسجد الحرام صلاة الغائب.

وأنْجَبَ عِدَّة أولادٍ كانوا أطوادًا للعلم، دَرَّسوا وخَطَبوا وأفْتَوا ونَظَموا ونَثَروا وحَدَّثوا[2]، رحم الله الجميع.


صورة الغلاف



صورة الصفحة الأولى


صورة الصفحة الأخيرة
* * * * *


بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
حمدًا لمن أخرجنا من الجهل، بمحْض الكرم والجود والفضل، بعدما هَيَّأ أسباب ذلك، ويَسَّرَها لمن أراد فوزه بما هنالك، وصلاةً وسلامًا على مدينة العلم ولُبَابها، وآله وصحبه، سِيَّما نسل بابها[3]، وبعد:

فهذا بعون الله تقييدٌ منيفٌ[4]، ومختصرٌ لطيفٌ ظريفٌ شريف، تَضَمَّن ما يَحتاج إليه طالب العلم، مِمَّا هو سبب في الإدراك والتحصيل والفهْم.
* * * * *

اعلم أنَّ أوَّل ما يحتاج إليه مُتَعَلِّم العلم أن يُصَحِّح نيَّته؛ لينتفع بما يتعلم، وينتفع به من يأخذ عنه، وذلك بأن ينوي بتعلمه:
أ- الخروج من الجهل؛ لأنَّ الله تعالى قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

ب- ومنفعة الخلق؛ لأنَّ النَّبيَّ - عليْه السَّلام – قال: ((خير النَّاس مَن ينفع الناس))[5].

ج- وإحياء العلم؛ لأن الناس لو تركوا التعلم لذهب العلم؛ قال - عليه السلام -: ((تعلَّموا العلم قبل أن يُرْفَع، ورَفْعُه بذهاب العلماء))[6].

د- والعمل به؛ لأنَّ العلم آلةٌ للعمل، وطلب الآلة - لا للعمل -لَغو، والعلم بلا عمل وَبال، والعمل بلا علم ضلال.

هـ- ووجه الله تعالى، والدار الآخرة، لا الدنيا؛ قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَاوَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].

وقال - عليه السلام -: ((مَن كانت نيَّته الدنيا، فَرَّق اللهُ عليه أمره، وجَعَل فَقْرَه بين عينيه، ولم يَأْتِه من الدنيا إلا ما كتب الله له، ومن كانت نِيَّتُه الآخرة، جَمَع الله شَمْلَه، وجَعَل غِناه في قَلْبِه، وأتتْه الدنيا وهي رَاغِمَةٌ ذَليلَةٌ))[7].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((من تَعَلَّم علمًا ممَّا يُبْتغى به وجهُ الله - عزَّ وجلَّ - لا يتعلَّمه إلا ليصيبَ به عَرَضًا من الدنيا - لم يجد عَرْفَ – أي: رائحة - الجنة يوم القيامة))[8].
* * * * *


فإن لم يقدر على تصحيح نيَّته، فالتعلم أفضل من تركه؛ لأنَّه إذا تعلَّم العلم، يُرْجى بأن يُصَحِّح العلمُ نيَّته؛ كما قال مجاهد: "طلبنا هذا العلم وما كان لنا فيه كثيرٌ من النيَّة، ثم رزق الله لنا فيه النيَّة"[9].

على أنَّ الوعيد الوارد إنَّما هو لمن كان أصل عمله الرياء والسمعة والدنيا، أمَّا من كان أصل عمله لله، وعلى ذلك عقد نيته، فلا تضرُّه إن شاء الله الخَطَرات التي تقع بالقلب ولا تُمْلَك، كما قال مالك - رحمه الله.
* * * * *


ولا يُحَصِّل العلم إلا من كان جادًّا في طلبه، بالعناية والمباحثة، والملازمة والنَّصَب، والصَّبر على الطلب، مع هداية الله تعالى وتيسيره؛ كما حكى الله عن سيِّدنا موسى - عليه السلام - أنَّه قال لسيدنا الخضر: {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف: 69]، وأنَّه قال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف: 62].

وقال سعيد بن المسيب: "إنْ كنتُ لأرحل في طلب العلم والحديث الواحد مسيرة الأيَّام والليالي"[10].

وبذلك ساد أهل عصره، وكان يُسمَّى سَيِّد التابعين.

وقال مالك - رحمه الله -: أقمت خَمْس عشرة سنة، أغدو من منزلي إلى منزل ابن هُرْمُز، وأقيم عنده إلى صلاة الظهر[11]، مع ملازمته لغيره، وكثْرة عنايته، وبذلك فاق أهل عصره، وسُمِّي إمام دار الهجرة.

وأقام ابن القاسم[12] مُتغرِّبًا عن بلَده في رحلته إلى مالك عشرين سنة، حتى مات مالك - رحمه الله.

ورحل أيضًا سُحنون[13] - رحمه الله - إلى ابن القاسم، فكان ممَّا قرأ عليه مسائل المُدَوَّنة والمُخْتَلِطة[14]، وكان سُحنون إذا حَثَّ على طلب العلم والصبر عليه، تَمَثَّل بهذا البيت:

أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ وَمُدْمِنِ القَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا[15]


وفي مختصر المَتِّيطِيَّة[16]: في الحديث "لا يُنال العلم براحة الجسم"[17].

قال يحيى بن يحيى[18]: إنَّ رجلاً من الطلبة ذكر هذا الحديث وهو على بطن امرأته، فنزل عنها قبل أن يقضي حاجته، وأخذ دَفْتَره من العلم يقرؤه.
* * * * *


وإذا أراد الخروج إلى الغربة في طلب العِلْم، فالأفضل له أن يَخرج بإِذْن أبويْه، فإن لَم يأْذَنا له، فلا بأْسَ بالخروج إذا كانا مُسْتَغْنِيَينِ عنه.

وفي حديث مسلم عن أبي هريرة: ((ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة))[19]، وفيه دليل على استحباب المشي في طلب العلم.

ويُروى أنَّ الله - سبحانه وتعالى - أوحى إلى سيدنا داود - عليه السلام – أنْ: "خذ عصًا من حديد، ونعلين من حديد، وامش في طلب العلم، حتى يتَخَرَّق النَّعْلان، وتنكسر العصا"[20].
وفيه دليلٌ على خدمة العلماء، وملازمتهم، والسفر معهم، واكتساب العلم منهم.

قال الله تعالى حاكيًا عن سيِّدنا موسى - عليه السلام -: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66].

وبتعظيم أستاذِه تظهَرُ فيه بركة العلم، وبالاستخفاف به تذهب عنه.

وقال العلاَّمة ابن مرزوق[21] في "شرح البُرْدة"[22]: ولا يَحْصُل العلم إلا مع تَفَرُّغ البال له، وقطْع العلائق التي تشغل عنه، ولذلك كان أيضًا[23] أوقات طلبه الليل، ألا ترى أنَّ أصله إنَّما حَصَل لسيد البشر - صلى الله عليه وسلم - بعد تنقية قلبه من علاقة الدنيا، التي هي حظُّ الشيطان، وذلك تفرغ البال، وأيضًا الليل وقت الخَلَوات، وهدوء الأصوات.

وقال مالك: لا يُنال هذا العلم حتى يُذاق فيه طعْم الفقْر، وذكر ما نزل برَبيعة من الفقر، حتَّى باع خُشُب سَقْف بيته في طلب العلم[24].

وقال سُحنون: لا يَحْصُلُ العلم لمن يأكل حتى يشبع، ولا لمن يَهْتَمُّ بغَسْل ثوبه[25].

وقال ابن عباس: خُيِّر سُليْمان - عليْه السَّلام - بين العلم والمال والمُلك، فاختار العِلْم، فأعْطاه الله تعالى المالَ والمُلك معه[26].

وفي كتاب "الذَّرِيعَة" لابن العِماد[27]: تَكَفَّل الله تعالى برزق طالب العلم؛ أي: تكفلاً خاصًّا، وإلاَّ فالله تعالى تَكَفَّل برزق كلِّ أحد.

وللمرادي[28]:


فَوَائِدُ العِلْمِ يَحْوِيهَا وَيَجْمَعُهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ هَمُّهُ أَنْ يَجْمَعَ الذَّهَبَا


أي: المُطْغِي، والذي يُوجب نقصَ حظِّ الآخرة، وأمَّا القَدْرُ الضروري الذي يتَقَوَّى به على العلم، فلا بُدَّ منه، فيَرْضَى بالدُّونِ من العَيْش من غير أن يترك حَظَّ نفسه من الأكل والشرب والنوم.
* * * * *


ولا ينبغي له أن يترك شيئًا من الفرائض، أو يُؤخرها عن وقتها، ولا من السُّنَن والنَّوافل، ولا أن يُؤذي أحدًا لأجل التَّعَلُّم، فتذهب بَرَكة العلم، ولا أن يكون بخيلاً بعلمه، من إعارة كتاب، أو تَفَهُّم مسألة، أو نحو ذلك لمن كان أهلاً؛ لأنَّه يَقْصِد بتَعَلُّمِه أمورًا، من جُملتها: مَنْفَعَةُ الخَلْق في المآل، فلا يمنع منفعته في الحال.
* * * * *


وينبغي له أن يُعَظِّم العلم، ويُقَلِّل معاشرة الناس ومُخالطتهم، ومُباشرة النِّساء ومُخَالَطَتَهُنَّ، ويَشْتَغِل بِما يَعْنِيه، ويَتَذَاكر المسائل مع أصحابه، أو وَحْدَه.

قيل لابن عباس - رضي الله عنهما -: بِمَ أدركتَ العلم؟ قال: بلِسانٍ سَؤول، وقَلْبٍ عَقُول، وفُؤادٍ غيرِ مَلُول، وكَفٍّ بَذُول، وبَدَنٍ في السَّراء والضَّراء صَبُور[29].

ويقال: مَنْ رقَّ وَجْهُه، رقَّ عِلْمُه[30].

وقيل لبعضهم: بِمَ نِلْتَ ما نِلْت؟ قال: ببُكُورٍ كبُكُورِ الغُراب، وتَمَلُّق كتَمَلُّق الكلب، وتَضَرُّع كتَضَرُّع السِّنَّوْر، وحِرْصٍ كحرص الخِنزير، وصَبْر كصبر الحمار[31].

ويستعمل الرِّفق والإنصاف إذا وقعتْ بينه وبين إنسان مُنازعة أو خُصومة؛ ليَظْهَر الفَرْقُ بينه وبين الجاهل، ويُداري الناس؛ إذ خَيْرُهُم مَنْ يُداري، وشَرُّهُم مَنْ يُمَاري.

وإنما ينتفع المُتَعَلِّم بكلام العالم إذا كان فيه خِصال التَّواضع في نفسه، والحرص على التَّعَلُّم، والتَّعظيم للعالم، فبتواضعه ينجح فيه العلم، وبحِرْصِه يستخرج العلم، وبتعظيمه يستعطف العلماء.

ويُقال: المُخْتَصُّ بالمُتَعَلِّم من التوفيق أربعة: شِدَّة العِناية، وذكاء القَرِيْحَة[32]، ومُعَلِّمٌ ذو نصيحة، واستواء الطبيعة؛ أي: خُلوُّها من المَيْل لغير ما يُلْقَى إليها.

وإذا جَمَع العالمُ ثلاثًا، تَمَّت النِّعْمَة على المُتَعَلِّم: الصبر، والتواضع، وحسن الخلق، وإذا جمع المتعلم ثلاثًا، تمت النعمة على العالم: العقل، والأدب، وحُسْن الفهم.

ويقال: العلم يَفْتَقِر إلى خمسة أشياء، متى نقص منها شيء، نقص من علمه بقَدْر ذلك، وهي: ذِهْن ثاقب[33]، وشهوة باعثة[34]، وعُمُر، وجِدَة، وأُستاذ.

والجِدَة: الاستغناء، والمُراد به: ما كان من ضروريات المعيشة، التي لا يُتَوَصَّل للعلم إلا به؛ إذ لا يتَفَرَّغ للعلم إلا من كُفي ذلك، والمراد بالفقر في قول مالك: حتى يُذاق فيه طعم الفقر: عدم الزيادة على ذلك القدر.

وله خَمسُ مراتب: أن تذهب وتستمع، ثم أن تسأل فتفهم ما تسمع، ثم أن تحفظ ما تفهم، ثم أن تعمل بما تعلم، ثم أن تُعَلِّم ما تَعْلَم، والله الموفق.

قاله جامِعُه ومُلَفِّقُه، عَبْدُ رَبِّه، جعفر بن إدريس الكِتَّاني، مَنَحَه اللهُ دار التَّهاني، بفَضْله ومَنِّه، آمين.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
[1] هذه الترجمة مستفادة من كتاب "فهرس الفهارس والأثبات" لمحمد عبدالحي بن عبدالكبير الكتَّاني، رحمه الله تعالى (1/186- 188) ومن الترجمة التي صنعها الشيخ الدكتور حمزة الكتَّاني، وقد أرسل إليَّ بنسخة منها، جزاه الله خيرًا.
[2] من أولاده: العلاَّمة محمد بن جعفر الكِتَّاني صاحب "الرسالة المُسْتَطْرَفَة".
[3] يشير إلى ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله "أنا مَدينة العِلْم، وعَلِيٌّ بابُها" وفي لفظ "أنا دارُ الحِكْمَة، وعَلِيٌّ بابُها" وهو حديث كذب، لا أصل له؛ كما قال ابن معين، وابن حبان، وحكم عليه بالوضع غير واحد من الأئمة، منهم: ابن طاهر، وابن الجَوْزي، والنَّووي، وابن تَيْمِيَّة، والذَّهَبي، وغيرهم، واسْتَغْرَبَه التَّرمذي بعد أن رواه، ووَصَفَه في بعض نُسَخِه بالنَّكارة، ونقل الأئمَّة الذين خَرَّجَوا الحديث عن البخاري إنكار أن يكون له وجهٌ صحيحٌ، وعن أبي زُرْعَة قوله في هذا الحديث: كم خَلْق افْتُضِحُوا فيه، ووَصَفَه الدَّارقُطني بالاضطراب وعدم الثُبوت، وقال العُقَيْلي: لا يَصِحُّ في هذا المتن حديث.
نعم، صَحَّحَه الحاكم، وحَسَّنَه بمَجْموع طُرُقه العَلائي، وابن حجر.
أمَّا الحاكم، فقد صَحَّح غَيْرَ مَتْنٍ موضوع في مُسْتَدْرَكه، وهذا منها.
وأمَّا تحسين الحديث بمجموع طرقه، فلا يَستقيم مع تصريح الأئمَّة كابن حبان، وابن عدي بأنَّ هذا الحديث إنَّما يُعرف بأبي الصَّلْت الهَرَوي، وإنَّما كَثُرَت طُرُقه لكون سُرَّاق الحديث سرقوه منه، ورَكَّبُوا له أسانيد عِدَّة.
انظر: "المجروحين" لابن حبَّان (2/94،152،151)، و"الكامل" لابن عدي (1/189،192)، و(2/341)، و(3/412)، و(5/177،67)، و "ضعفاء العُقيلي" (3/149)، و"علل الدارقطني" (3/247)، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/410)، و(18/123،377)، و"كشف الخفاء" للعجلوني (1/234-236)، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص349،348)، و"السلسلة الضعيفة" للألباني (برقم2955).
وكنتُ أنوي تَخريج الحديث هنا، ثم أعْرَضْتُ عن ذلك خَشية الإطالة؛ إذ مثل هذه الرسالة لا تتَحَمَّل مثل هذا التَّطويل، لا من حيث حجمُها، ولا من حيثُ طبيعة موضوعها، فالله المستعان.
[4] ناف الشيء: ارتفع، وأشرف، فلَعَلَّ المصنف أراد وَصْفَ تقييده للرسالة برفعة الشأن، والله أعلم.
وانظر: لسان العرب، مادة (نَوَفَ)
[5] أخرجه الطَّبَرَاني في "الأوسط" (6/58)، والقُضَاعِي في "مُسند الشِّهاب" (1/108)، (2/223)، وأبو سعيد النَّقَّاش في "فوائد العِراقيين" برقم 99، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (8/404)، وغيرهم من حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - بلفظ ((خير الناس أنفعهم للناس))، وهذا اللفظ جزء من الحديث، وليس هو بتمامه.
قال المناوي في فيض القدير (3/481)، بعد أن ذكر عزو السيوطي الحديث لمسند الشهاب: وفيه عمرو بن أبي بكر - كذا والصواب عمرو بن بكر- السَّكْسَكي الرَّمْلي، قال في الميزان: واهٍ، وقال ابن عدي: له مناكير، وقال ابن حبان: يروي عن الثِّقات الطَّامَّات، ثم أورد له أخبارًا هذا منها.
قلت: الحديث إنما ذكره السيوطي في هذا الموضع من "الجامع الصغير" مَعْزوًا للقضاعي كما سبق، وقد رواه في موضعين من مسنده ذكرتهما آنفًا بإسنادٍ واحدٍ، وليس فيه السَّكْسَكي المذكور، وإنما وجدته في إسناد ابن عساكر في الموضع المذكور سابقًا.
وأورد ابن حبان هذا الحديث في ترجمته من المجروحين (2/79)، بعد أن قال فيه: يروي عن إبراهيم بن أبي عبلة، وابن جريج، وغيرهما من الثقات - الأَوَابَدَ والطَّامَّات التي لا يَشُكُّ مَنْ هذا الشَّأنُ صِنَاعَتُه أنها مَعْمُولَةٌ أو مَقْلُوبَةٌ، لا يَحِلُّ الاحْتِجَاجُ به، وذكر أنه روى هذا الحديث عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر.
لكن الحديث في مسند الشهاب، و كذا المصدرين الآخرين اللذين عزوت إليهما - وهما المعجم الأوسط وفوائد العراقيين - من طريق علي بن بُهرام، عن عبدالملك بن أبي كريمة، عن ابن جريج بالإسناد المذكور، وعبدالملك ثقة.
وقال الطبراني عقب روايته للحديث: "لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلا عبدالملك بن أبي كريمة، تَفَرَّد به علي ابن بُهرام". اهـ.
فلعلَّ السَّكْسَكي المذكور سَرَقه من عبدالملك، فرواه، لكن علي بن بُهرام لم أقف على تعديل فيه ولا تجريح، وترجمته في "تاريخ بغداد" (11/353)، وذكر أربعة رووا عنه، وإكمال ابن ماكولا (2/395)، وقد صَرَّح الهَيْثَمَي في "مَجْمَع الزَّوائد" (10/484): أنَّه لم يعرف علي بن بهرام هذا، وذكر في موضع أنَّه لم يقف على من تَرْجَمَه (3/614)، والأغرب من هذا أنَّه قال في حديث (8/166،165): "رواه الطبراني في "الأوسط" من طريق عليِّ بن بهرام عن عبدالملك بن أبي كريمة ولم أعرِفْهما، وبقيَّة رجاله رجال الصحيح". اهـ؛ فإنَّ عبدالملك مُتَرْجَم في "تهذيب الكمال" (18/396،395).
وقد عَزَا السَّيوطي الحديث في "الجامع الصغير"، في موضع آخر (برقم 11608 بترقيم الجامع مع الزيادة) للدَّارقطني في "الأفْراد"، والضياء في "المختارة"، وحَسَّنَه العَلاَّمة الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (6662، 3289)، وصَحَّحَه في "السلسلة الصحيحة" (426).
وقد رُوي من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بلفظ ((أَحَبُّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس))؛ أخرجه الطبراني في الصغير (2/106)، والأوسط (6/139)، والكبير (12/453)، قال الهيثمي في "المجمع" (8/349): "رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه سكين بن سراج، وهو ضعيف". اهـ.
قلت: قال البخاري - كما في لسان الميزان (3/56) -: منكر الحديث، ونقل الخطيب عن أبي علي الحافظ (14/297) مثل قول البخاري، وزاد وَصْفَه بالجََهَالة، وقال ابن حبان في المجروحين (1/360): يروي الموضوعات عن الأثبات، وقال أبو نعيم في الضعفاء (ص90) نحو قوله.
وقد رُوي الحديث بإسناد آخر عن ابن عمر، رَكَّبَه أحد الوضّاعين.
انظر "لسان الميزان" (5/201).
والحديث حَسَّنَه الألباني في "صحيح الترغيب" (برقم 2623) لغيره، وهو في "السلسلة الصحيحة" (برقم 906).
ورواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحَوائج" (برقم36) عن عبدالله بن دينار عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُسَمِّ الصَّحابي، وهو من التابعين، وكان مولى لابن عمر، وقد سبق أنَّ الحديث روي عنه.
ورُوي من حديث أنس بلفظ "الخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله"؛ رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (بغية الباحث 2/857)، وأبو يعلى في مسنده (6/65)، وابن عدي في "الكامل" (7/153)، والقضاعي في مسنده (2/255)، والبيهقي في "الشُّعَب" (6/43،42) وغيرهم.
قال ابن عدي - بعد أن أورد هذا الحديث ضمن أحاديث أخرى في ترجمة يوسف بن عطية -: "وكلُّها غير محفوظة"، وقال البيهقي: "تَفَرَّد به يوسف بن عطية"، وضعَّفه النَّوَوي في فتاويه، وقال الهيثمي في "المجمع" (8/349): "رواه أبو يعلى، والبزَّار، وفيه يوسف بن عطيَّة الصَّفَّار، وهو متروك".
ووافق السيوطي في "الدرر المنتثرة" (ص214) الزَّرْكَشي على تضعيفه، وقد ذكر الذهبي في "الميزان" (4/469) هذا الحديث من مناكير يوسف بن عطية.
وقد رُوي هذا الحديث من حديث ابن مسعود - رضي الله عنهما - مرفوعًا بنحوه؛ أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5/356)، و"الكبير" (10/86)، وابن عدي في "الكامل" (6/341)، والبيهقي في "الشُّعَب" (6/43) وضَعَّفَه.
قال ابن عدي في "الكامل" في ترجمة موسى بن عمير: "وعامَّة ما يرويه مما لا يُتابعه الثِّقات عليه".
وقال ابن حبان في "المجروحين" عنه (2/238): "كان ممن يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، حتَّى ربَّما سبق إلى قلب المستمع لها أنه كان المتعمد لها"، ثم أورد هذا الحديث.
وقال ابن الجوزي: "حديث لا يصح"، وقال الهيْثمي في "المجمع" عن روايته عند الطبراني في "الأوسط"، و"الكبير" (8/349): "وفيه موسى بن عُمير، وهو أبو هارون القرشي متروك".
وقد ضَعَّف الألباني في "الجامع الصغير" (برقم 2946) حديث أنس، وابن مسعود جدًا.
ورُوي من حديث الحسن البصري مرسلاً بنحو حديث أنس، وابن مسعود، أخرجه عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد (الجامع الصغير مع الزيادة 172)، قال المناوي في "فيض القدير" (1/174): بإسناد ضعيف، لكن شواهده كثيرة، وحَسَّنَه الألباني في "صحيح الجامع" (برقم 172) ولعلَّه لشواهده المذكورة.
وعزاه في "كشف الخفاء" (2/200) للطبراني، من حديث زيد بن خالد - رضي الله عنهما - بلفظ حديث جابر بن عبدالله، ولم أجده فيه.
وعزاه في "الكنز" (برقم 16170) للديلمي من حديث أبي هريرة، وللخطيب من حديث ابن عباس (16171).
قال ابن حجر المكي في "الفتاوى الحديثية" (ص159): "ورد من طرق كثيرة، لكنها ضعيفة".
تنبيه: لفظ الحديث الذي ذكره المصنف أعلاه قال عنه العَجْلوني في "كشف الخفاء" (2/234): "لم أرَ من ذكر أنَّه حديث أو لا، فليُراجع، لكن معناه صحيح". اهـ.
ولم أقف على اللفظ المذكور في شيء من الكتب.
أمَّا صحَّة معناه، فهي واضحة؛ ولذلك فإنَّ العلماء المحقِّقين لا زالوا يُردِّدون مَضْمَونه في تصانيفهم، وإن لم ينسبوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شكَّ أنَّ كلَّ ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق، ولكن ليس كل حق قاله الرَّسول، فلا ننسب له إلا ما صَحَّتْ نسبته إليه - صلى الله عليه وسلم.
[6] أخرجه الدارمي في مسنده (1/90)، وأحمد في "الزهد" (ص144)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/113)، والبيهقي في "الشعب" (2/73)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" من (47/132)، ومن طريقٍ آخر (47/172)، من طرق عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - موقوفًا. قال حسين سليم أسد في تعليقه على الدارمي: "إسناده ضعيف لانقطاعه؛ سالم لم يُدرك أبا الدرداء - فيما نعلم".
قلت: قد رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/213)، من طريق معاوية بن قرة، عن أبيه، عن أبي الدرداء، وظاهر إسناده النظافة، عدا شيخ أبي نعيم، وشيخ شيخه، فلم أقف على تراجِمهم إلى الآن.
ورواه الحافظ أبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" (2/651) من حديث أبي أمامة مرفوعًا بلفظ: "خذوا العلم قبل أن يُقبض؛ فإن قَبْض العلم ذهابُ العلماء"، وهو من رواية القاسم بن عبدالرحمن الشامي عنه، وقد كان أحمد يحمل في المناكير المروية من طريق القاسم عليه، وذكر غير واحد أن البلاء إنما يكون ممن رووا عنه من الضعفاء، لا منه، لكن الراوي عنه هنا هو الوليد بن عبدالرحمن بن أبي مالك، وقد وثقه كثير من الأئمة، كما أن في إسناده مؤمل بن إسماعيل، وهو مع صدقه وإمامته في السُّنَّة كَثُر خطؤه، حتى قال البخاري عنه: منكر الحديث، وفي إسناده كذلك حجاج بن أرطاة، وهو صدوق كثير التدليس، وكان يُخطئ.
وعلى كل حال، فإن هذا المعنى – أي: ذهاب العلم بذهاب العلماء - قد جاء في عدة أحاديث مرفوعة، وآثار موقوفة، ومن أشهرها - وهو أصَحُّها إن شاء الله -: ما أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب: كيف يُقبض العلم (100)، ومسلم في كتاب العلم أيضًا، باب: رفع العلم وقبضه (2673)، من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – مرفوعًا: ((إن الله لا يَقْبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقْبض العلم بقَبْض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضَلُّوا، وأضَلُّوا))، وهذا لفظ البخاري في الموضع المذكور.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في شرحه للحديث (1/195)، وكذا في شرحه للحديث لمّا أعاده البخاري في باب: "ما يُذكر من ذَمِّ الرأي" (13/283-286) - آثارًا أخرى في هذا المعنى، والموضع الأخير أكثر استيفاءً.
[7] ورد من حديث أنس بن مالك، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - ومن حديث الحسن البصري مرسلاً.
فأما حديث أنس، فورد من طريق يزيد الرَّقاشي عنه مرفوعًا، ومن طريق إسماعيل بن مسلم المكي، عن الحسن وقتادة، كلاهما عنه مرفوعًا.
فأخرجه الترمذي (4/642)، وابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" (برقم 399،353)، وهناد في "الزهد" (2/355)، وابن الأعرابي في "الزهد" (برقم73)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/307،308) من طرق عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي عنه، والربيع صدوق سيء الحفظ، ويزيد الرقاشي ضعيف مع زهده وورعه، وكان شعبة يَحْمِل عليه بشدة، ويُشَبِّهه بأبان أبي عياش، وأبان متروك، وروى أبو طالب عن أحمد قال: لا يكتب حديث يزيد الرقاشي، فقال أبو طالب: لم تُرِك حديثه؟ لهوى كان فيه؟ قال: لا، ولكن كان منكر الحديث.
قال الحافظ المنذري في الترغيب (4/57): رواه الترمذي عن يزيد الرقاشي عنه، ويزيد قد وُثِّق، ولا بأس به في المتابعات. كذا قال، ثم عزاه للبزار.
وأخرجه هناد في "الزهد" (2/354)، وابن الأعرابي في "الزهد" (برقم 72)، وابن عدي في "الكامل" (1/284)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/796) من طريق إسماعيل بن مسلم، عن الحسن وقتادة، عن أنس.
قال ابن عدي في آخر ترجمته من "الكامل" - بعد أن أورد له عدة أحاديث هذا منها -: "وأحاديثه غير محفوظة عن أهل الحجاز والبصرة والكوفة؛ إلا أنه ممن يُكتب حديثه"، وقال ابن الجوزي في "العلل": هذا حديث لا يصح، قال ابن المديني: لا يُكتب حديث إسماعيل بن مسلم، وقال النسائي: متروك الحديث.
وقد روي هذا الحديث عن قتادة عن أنس، من غير طريق إسماعيل بن مسلم، أخرجه ابن الأعرابي في "الزهد" (برقم73)، وابن عدي في "الكامل" (3/100)، من طريق داود بن المحبر، عن همام، عن قتادة، عن أنس، وداود كذاب.
وقد رواه الطبراني في "الأوسط" (8/363) من طريق أيوب بن خوط، عن قتادة به، وأيوب متروك.
وقد صحح الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (3/127) حديث أنس لغيره.
وأما حديث زيد بن ثابت، فأخرجه أحمد في مسنده (5/183)، وفي "الزهد" (ص33)، وابن ماجه (2/1375)، والدارمي في مسنده (1/86)، وابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" (برقم 352)، وابن حبان في صحيحه (2/454)، والطبراني في الكبير (5/143)، والبيهقي في الشعب (7/288)، وتمام في فوائده (2/175)، كلهم من طرق عن عبدالرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن زيد.
قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/56): رواه ابن ماجه، ورواته ثقات، ثم ذكر لفظ الطبراني، وقال: رواه بإسناد لا بأس به، وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه": إسناده صحيح، رجاله ثقات، وقال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (4/164): أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن ثابت بإسناد جيد، وصَحَّحه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (برقم 3313).
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (7/202،201)، وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (1/345)، وابن عساكر في تاريخه (43/545) من طرق عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن زيد، قال الهيثمي في "المجمع" (10/432): رواه الطبراني في "الأوسط"، ورجاله وُثِّقوا.
قلت: الأمر كما قال، عدا شيخ الطبراني، فلم أقف على ترجمته، والعبارة التي قالها الهيثمي - رحمه الله تعالى - لا تكفي للحكم على الحديث بالصحة أو الحسن، فقد يكون الرجال موثقين، والحديث شاذًّا أو معللاً، فضلاً عن كون وصفهم بهذه العبارة أقلَّ مرتبة من توثيقهم، وهذا متحقِّق في إسناد هذا الحديث، فإن فيهم من تُكُلِّمَ فيه.
ففي إسناد الحديث موسى بن عامر، وهو وإن كان ابن حبان قد ذكره في الثقات؛ إلا أن أبا داود السجستاني كان لا يحدث عنه، ووصفه ابن عدي بأن عنده أفراد وأحاديث يَعِزُّ وجودها عند غيره، وهذا من ابن عدي فيه إشارة إلى وقوع الغرائب والمناكير في مروياته.
وفي إسناد الحديث عنده كذلك عراك بن خالد بن يزيد، قال أبو حاتم: مضطرب الحديث، ليس بقوي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب وخالف، وذكر المزي في ترجمته من "تهذيب الكمال" (19/544): أن أبا داود قد أخرج له هذا الحديث في القَدَر.
أما حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - فقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5/186)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/227)، قال الهيثمي في "المجمع" (10/433): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب، وهو كذاب، وقال الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب" (2/161): موضوع.
أما مرسل الحسن البصري، فقد رواه عبدالله في زوائد الزهد (ص33)، وروى الإمام أحمد في "الزهد" (ص286) لفظًا قريبًا منه مع بعض اختلاف من حديث الحسن مرفوعًا أيضًا.
ورواه الدارمي في مسنده (1/108) عن الحسن مقطوعًا، ولم يرفعه.
ومعلوم أن مراسيل الحسن البصري - رحمه الله تعالى - من أوهى المراسيل عندهم.
تنبيه: اللفظ الذي ذكره المصنف الظاهر أنه أورده من حفظه، ولم أقف في أي من طرق الحديث على لفظ "ذليلة" في آخره، وإنما هذا شرح لمعنى الكلمة الأخيرة من الحديث"راغمة"
[8] أخرجه أبو داود (2/346)، وابن ماجه (1/92)، وأحمد في مسنده (2/338)، وابن حبان في صحيحه (1/279)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/466)، والحاكم في "المستدرك" (1/160)، وغيرهم من طرق، عن فُليح بن سليمان، عن أبي طوالة، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا.
قال العقيلي - بعد أن رواه في ترجمة فليح -: الرواية في هذا الباب لينة.
قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (10/399) - بعد أن أورد كلام العقيلي -: "هذا الحديث على نكارته على شروط الشَّيخين، ولم يخرجاه". اهـ. كذا قال.
وقال الحاكم في "المستدرك": هذا حديث صحيح، سنده ثقات على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال النَّووي في "التبيان في آداب حملة القرآن" (ص13): رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (1/39): أخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد جيد.
وأخرجه الدارمي في مسنده (1/92) من طريق محمد بن عمارة بن حزم، عن أبي طوالة عبدالله بن عبدالرحمن مرسلاً أو معضلاً، قال الدارقطني في "العلل" (11/10) - بعد أن ذكر رواية فليح الموصولة المسندة، ثم هذه الرواية المرسلة -: "المرسل أشبه بالصواب".
وقد صَحَّح الألباني في "صحيح الترغيب" (1/25) الحديث لغيره.
[9] رواه الدارمي في مسنده (1/113)، والفَسَوي في "المعرفة والتاريخ" (1/712)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (57/37،36)، وذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام"، في ترجمة الإمام مجاهد بن جبر (7/237)، وقد حَسَّن إسناده حسين سليم أسد في تعليقه على الدارمي.
وقد رواه خيثمة الأطرابلسي في حديثه (ص170)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/267) عن حبيب بن أبي ثابت، وهو أيضًا تابعي ثقة، فقيه، جليل القدر.
[10] أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/381)، (5/120)، وابن أبي خيثمة في تاريخه - كما في التعديل والتجريح للباجي (3/1083) - والخطيب في "الرحلة في طلب الحديث" (برقم 44،42،41)، وفي "الجامع لأخلاق الراوي" (2/226برقم 1688)، من طرق عن مالك بن أنس أنَّه بلغه أن سعيد بن المُسيّب قال، فذكره بنحوه.
ورواه الخطيب في "الرحلة" (برقم43)، و"الجامع" (برقم 1689) من طريق خالد بن نزار، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب موصولاً.
وخالد ذكره ابن حبان في الثقات (8/224،223)، وقال: يُغرب ويُخطئ.
وفي أحد ألفاظ الأثر "إن كنت لأغيب"، وليس في شيء من ألفاظه لفظة "العلم" المذكورة أعلاه.
[11] لم أقف على أثر بهذا اللفظ إلى الآن، ولكن رواه محمد بن مخلد في "ما رواه الأكابر عن مالك بن أنس"(ص58) بلفظ "رُحْتُ إلى الظهر من بيت ابن هرمز اثنتي عشرة سنة"، وأورده الذهبي في ترجمة عبدالله بن يزيد بن هرمز من "تاريخ الإسلام" (8/159)، وهو المراد هنا، لا عبدالرحمن بن هرمز الأعرج، صاحب أبي هريرة.
وعبدالله بن يزيد بن هرمز كان أحد فقهاء المدينة وصالحيها، ذكره ابن حبان في الثقات (7/12)، وابن شاهين في الثقات (ص131)، ونقل عن أبي مُسْهِر توثيقه، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، يُكتب حديثه، وهو أحد فقهاء أهل المدينة، وذكر ابن عبدالبر في "التَّمهيد" (19/171): أنَّ مالكًا لم يرو في الموطأ حديثًا واحدًا مسندًا عن عبدالله بن يزيد، والله أعلم.
وذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك (1/81)، نقلاً عن بهلول بن راشد - وهو واحد من كبار أصحاب مالك - رواية فيها: أنَّ مالكًا جالس ابن هرمز ثلاث عشرة سنة، وقيل: ست عشرة، ونقل القاضي (1/55) عن مالك أنه قال: إن كان الرجل ليختلف للرَّجُل ثلاثين سنة يتعلَّم منه، قال الراوي عنه: فظنَنَّا أنَّه يريد نفسه مع ابن هرمز.
ونقل عن مصعب الزبيري أنَّ مالكًا قال: كنت آتي ابن هرمز بكرة، فما أخرج من بيته حتى الليل، وهذا القول الأخير قد رواه ابن سعد في "الطبقات" (1/287).
وأورد الذهبي أيضًا في ترجمة مالك من تاريخه قول مالك: جلست إلى ابن هرمز ثلاث عشرة سنة، وكنت قد اتخذت في الشتاء سراويل، محشوًا، كنا نجلس معه في الصحن في الشتاء.
[12] هو الإمام، أبو عبدالله عبدالرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة، العُتَقي، المصري، الفقيه، راوية المسائل عن مالك، قال النسائي: ثقة مأمون، أحد الفقهاء، وقال ابن حبان: كان خَيِّرًا فاضلاً، ممن تَفَقَّه على مذهب مالك، وفَرَّع على أصوله، وذَبَّ عنها، ونصر من انتحلها، وقال أبو زرعة الرازي: ثقة، رجل صالح، كان عنده ثلاثمائة جلد أو نحوه عن مالك مسائل.
تُوفي سنة إحدى وتسعين ومائة.
انظر: ترتيب المدارك (2/433 وما بعدها)، وتهذيب الكمال (17/344-346).
وأمَّا كونه صحب مالكًا عشرين سنة، فقد قال هذا الإمام أبو إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" (ص150)، وقد نقل المزي في "تهذيب الكمال" (17/346)، عن الحافظ أبي نعيم بإسناده إلى ابن القاسم أنه قال: خرجت إلى مالك بن أنس اثنتي عشرة خَرْجَة، أنفقت في كل خَرْجَة ألف دينار.
[13] هو الإمام، أبو سعيد، عبدالسلام بن سعيد بن حبيب، التنوخي، المغربي، الملقب بسحنون، وهو اسم نوع من أنواع الطيور، راوية مسائل مالك عن ابن القاسم.
وترجمته في ترتيب المدارك (2/585 وما بعدها) مطولة، وثناء العلماء عليه كثير جدًا، وأفرده بعضهم بالتصنيف، كأبي العرب القيراوني، وكان سيد أهل المغرب، وهو الذي نشر علم مالك بالمغرب - رحمه الله تعالى - وكان إلى جانب حفظه وفقهه، وورعه وزهده، وكرم أخلاقه وصرامته في الحق، وتجافيه عن السلاطين - مرابطًا مجاهدًا كشيخه ابن القاسم، وكم من علماء رابطوا في الثغور، وجمعوا بين عقد الدروس وتقديم النفوس والرؤوس، ولا يحصيهم إلا الله تعالى، رحمهم الله وأجزل لهم المثوبة.
وقد خرج سحنون إلى ابن القاسم وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقدم من عنده وهو ابن ثلاثين سنة.
[14] قال الشيرازي: اقتصر النَّاس - يقصد المتفقِّهين على مذهب مالك في تلك الطبقة وما بعدها - على التفقُّه في كتب سحنون، ونظر سحنون فيها نظرًا آخر، فهَذَّبَها، وبَوَّبها، ودَوَّنها، وألحق فيها من خِلاف كبار أصحاب مالك ما اختار ذكره، وذيَّل أبوابها بالحديث والآثار، إلا كتباً منها مُفَرّقة، بقيت على أصل اختلاطِها في السَّماع، فهذه هي كتب سحنون: المُدَوَّنة والمُخْتَلِطة، وهي أصل المذهب، المُرَجَّح روايتها على غيرها عند المغاربة، وإيَّاها اختصر مُخْتَصِروهم، وشرح شارِحُوههم، وبها مُناظرتهم ومُذاكرتهم.
وانظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي (157،156)، و"ترتيب المدارك" (2/585).
[15] البيت من قصيدة لمحمد بن بشير الرِّياشي.
انظر: "البيان والتبيين" للجاحظ (ص390)، و"ديوان الحماسة" (2/34)، و"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني (14/43).
[16] متِّيْطَة: قرية بناحية من الجزيرة الخضراء بالأندلس، منها الفقيه القاضي، أبو الحسن، علي بن عبدالله بن إبراهيم، الأنصاري، المالكي، المُتَوَفَّى بشريش بالأندلس سنة سبعين وخمسمائة، مُصَنِّف كتاب (النهاية والتمام في معرفة الوثائق والأحكام)، والذي اختصره الإمام ابن هارون الكناني المالكي.
انظر ترجمته في "إيضاح المكنون" (2/693)، و"شجرة النور الزكيَّة" (1/163)، و"معجم المؤلفين" (7/129).
[17] رواه مسلم في صحيحه، كتاب: الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس، عن يحيى بن يحيى، عن عبدالله بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه مقطوعًا (برقم612) بلفظ: "لا يستطاع العلم".
وقد ورد هذا الأثر بلفظ "لا ينال العلم" في بعض الكتب؛ كـ "الشذا الفَيَّاح" للبرهان الأبناسي (1/404)، و"تدريب الراوي" (2/141)، وبعض كتب ابن القيم؛ كـ "تحفة المودود" (ص241)، ولم أجدْه بِهذا اللفظ في شيء من الكتب المسندة، والله أعلم.
ولم أقف على أحد ذكر هذا الكلام مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ الظاهر من قول المُصَنِّف: "في الحديث" أنَّه مرفوع، مع أنَّ هذه العبارة تطلق في كلام المتقدمين على الموقوفات، والمقاطيع، لكن غلب على المتأخرين إطلاقها في حقِّ المرفوعات، والله أعلم.
وقد أخرجه ابن عدي في "الكامل" (4/215) عنه بلفظ "كان يقال" فذكره، فهو على هذه الرواية مِنْ نقله، لا من قوْله، لكن رواية مسلم قد تقدَّمت.
وعن سبب رواية مسلم لهذا الأثر المقطوع - والمقطوع هو ما روي عن التابعين فمن بعدهم من الأقوال موقوفًا عليهِمْ من أقوالهم - مع أنَّ هذه ليست عادة مسلم في صحيحه انظر: "شرح النووي" (5/113).
وقد اشتهر استشهاد الإمام أبي حاتم الرازي بهذه العبارة في موقف حدث له في أثناء رحلته إلى مصر في طلب العلم، وفيه شَحْذٌ للهِمَم القاصرة، أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/361).
[18] المشهورون بهذا الاسم ثلاثة، وهم:
يحيى بن يحيى الغساني: إمام أهل دمشق، وفقيههم، وسيدهم، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة، المترجم في "تَهذيب الكمال" (32/37-40).
ويحيى بن يحيى النيسابوري: الإمام الحافظ الجليل، وترجمته في "تَهذيب الكمال" (32/31-36)، والرَّاجح: أنَّه هو المقصود هنا؛ لأنَّه شيخ مسلم في هذا الأثر كما مرَّ.
والثَّالث هو الإمام يحيى بن يحيى الليثي القرطبي: الفقيه المالكي، وهو من أشهر رواة الموطَّأ عن مالك، بل هو الذي أظهر الله على يديه مذهب مالك في بلاد الأندلس.
انظر ترجمته في "ترتيب المدارك" (2/534 وما بعدها)، و"تاريخ الإسلام" (17/414-417).
ولم أقِفْ على قصَّة هذا الطَّالب إلى الآن.
[19] أخرجه مسلم، كتاب: الذكر، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699).
[20] أخرجه الخطيب البغدادي في "الرحلة في طلب الحديث" (برقم 9)، ومن طريقه ابن عبدالدائم في مشيخته (برقم 46)، عن أبي مطيع معاوية بن يحيى، وهو أبومطيع، معاوية بن يحيى، الأطرابلسي، الدمشقي، المترجم في "تهذيب الكمال" (28/224-226).
وأخرج الدارمي في مسنده (1/149) عن عبدالله بن عبدالرحمن القشيري قال: قال داود النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قل لصاحب العلم يتخذ.."، فذكره.
قال محقق الدارمي: إسناده مظلم.
وأخرج ابن أبي الدنيا في التفكر والاعتبار (كما في تفسير ابن كثير3/305) عن مالك بن دينار: أنَّ الله - تعالى - أوْحى إلى موسى - عليْه السَّلام - فذكر نحو هذا الأثر، غير أن الله تعالى حَثَّه في هذا الخبر على طلب العبر والآثار، لا العلم.
وأمثال هذه الأخبار المأخوذة عن كتب بني إسرائيل - إذا لم يكن فيها ما يخالف الكتاب والسنة - فهي تُروى ولا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب، وإنما يُستأنس بها فقط في أخذ العِبِر والعِظات ونحوها.
وأخرج الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص40) جزءًا منه من كلام عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما .
وافترى الوضَّاعون حديثًا مرفوعًا نسبوه إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – فيه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلَّم - أمر عليًّا - رضِي الله عنْه - باتِّخاذ نعلَيْن من حديد، وعصًا من حديد في طلب العلم حتَّى تفنيا.
قال ابن تيمية في "الفتاوى" (18/382): ليس هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وانظر: "الفوائد المجموعة" (ص285).
[21] هو أبو عبدالله، محمد بن أحمد بن محمد بن مرزوق، التلمساني، المالكي، المولود سنة إحدى عشرة وسبعمائة، والمتوفى سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، وترجمته في "إنباء الغمر" لابن حجر (1/75)، و"نفح الطيب" للمقري (5/420-433).
[22] شرحه على بُردة البوصيري يُسمى بـ (الاستيعاب لما فيها من البيان والإعراب)، وله شرح آخر يسمى: (إظهار صدق المودة في شرح قصيدة البُردة)، وقد وصف حاجي خليفة في "كشف الظنون" كلا الشرحين بالعظمة.
انظر: "كشف الظنون" (2/1331)، وشروحات البردة كثيرة جدًا.
وقد وقع في البردة من الغلو في النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا يُنكره مُنْصِف، انظر إلى قوله:
دَعْ ما ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي نَبِيِّهِمُ وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ
فكأنَّه ظنَّ أنَّ الغلوَّ المنهيَّ عنْه في النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم – هو: أن تعتقِد فيه ما اعتقده النَّصارى في المسيح، من أنَّه هو الله - تعالى الله عن ذلك - أو أنَّه ابن الله - جَلَّ الله عن الولد - وما سوى ذلك من المدْح والإطْراء المبالغ فيه، فلا يَعُدُّه البوصيري غلوًّا، وقوله:
يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ سِوَاكَ عِنْدَ حُدُوثِ الحَادِثِ العَمَمِ
إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي فَضْلاً وَإِلاَّ فَقُلْ يَا زَلَّةَ القَدَمِ
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضُرَّتَهَا وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ
والغلوُّ في المدح لم يقتصر على النبي - صلّى الله عليه وسلَّم - بل شمِل الصالحين والأولياء، ومن قرأ شيئًا من الأشْعار التي قيلت في الشَّيخ عبدالقادر الجيلاني - رحمه الله تعالى - مثلاً، علم ذلك، هذا فضلاً عن غلوِّ الشيعة - الإسماعيلية منهم والإماميَّة - في أئمَّتهم، وإضفاء صفات الألوهية عليهم، بل رأينا من يُصَرِّح بذلك، كقول بعض شعراء الرَّوافض المعاصرين مُخاطبًا عليًّا - رضي الله عنْه -:
أَبَا حَسَنٍ أَنْتَ عَيْنُ الإِلَهِ وَعُنْوَانُ قُدْرَتِهِ السَّامِيَهْ
وَأَنْتَ المُحِيطُ بِعِلْمِ الغُيُوبِ فَهَلْ عَنْكَ تَعْزُبُ مِنْ خَافِيَهْ
لَكَ الأَمْرُ إِنْ شِئْتَ تُنَجِي غَدًا وَإِنْ شِئْتَ تَسْفَعُ بِالنَّاصِيَهْ
وقال آخر - وهو يتكلَّم عن عليٍّ رضِي الله عنْه -:
إِنْ قُلْتُ ذَا بَشَرٌ فَالعَقْلُ يَمْنَعُنِي أَخْشَى مِنَ اللهِ فِي قَوْلِي هو اللهُ
[23] كذا بالأصل، ولعلَّ ثمَّة سبق قلَم من المصنِّف - رحمه الله تعالى - وأظنُّ صوابها (أفضل).
[24] نقل القاضي عياض في ترتيب المدارك (1/100) عن ابن القاسم: أن مالكًا قال: "لن يُنال هذا الأمر حتى يُذاق فيه طعم الفقر"، ونقل عن ابن القاسم أيضًا (1/54) أنَّه قال: "أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نَقَض سقف بيته، فباع خشبه، ثم مالت عليه الدنيا بعد".
قال القاضي عياض: وروي مثل هذا عن ربيعة.
وربيعة المذكور هنا: هو الإمام التابعي الجليل، ربيعة بن أبي عبدالرحمن، القرشي، التَّيْمِي، مولى آل المُنْكدر، المعروف بربيعة الرأي، وكان من كبار فقهاء المدينة والمُفتين فيها، المتوفى سنة ست وثلاثين ومائة - رحمه الله تعالى.
انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (9/123-130).
وممن اشتهر عنه نحو هذا: الإمام أبو عبدالرحمن، عبيد الله بن محمد بن حفص، القرشي، البصري، المعروف بابن عائشة، روى الخطيب البغدادي في تاريخه (10/316): أنَّ يعقوب بن شيْبة قال: أنفق ابن عائشة على إخوانِه أربعمائة ألف دينار في الله - عزَّ وجلَّ - حتَّى التجأ إلى أن باع سقف بيته.
وانظر: "تهذيب الكمال" (10/316).
[25] نقل القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (1/72) عن سحنون أنه قال: "لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع".
[26] أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/275،274) من حديث ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - مرفوعًا، وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" (الجامع مع الزيادة 6678) للديلمي في "مسند الفردوس"، قال الألباني في "ضعيف الجامع" (2933): موضوع.
قال المناوي في "فيض القدير" (3/500): وذكره ابن عبدالبر مُعَلَّقًا. اهـ.
قلت: إنَّما وجدته في "جامع بيان العلم وفضله" (2/237) معلَّقا عن عبدالله بن المبارك - رحمه الله تعالى.
أمَّا مجيء الخبر موقوفًا على ابن عباس - رضي الله عنهما - فلم أقف عليه في شيء من الكتب المسندة، وإنَّما ذكره موقوفًا كثيرٌ من المُصَنِّفين، كالغزالي في "الإحياء" (1/7)، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (17/300)، والآلوسي في "روح المعاني" (28/29).
[27] ذكره حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/826) باسم "الذريعة إلى معرفة الأعداد الواردة في الشريعة"، ومُصَنِّفه هو الإمام، شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن عماد، الأقفهسي، المصري، الشافعي، المتوفى سنة سبع وستين وثمانمائة، رحمه الله تعالى.
انظر ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي (7/24)
[28] من المشهورين بهذه النسبة: الإمام بدر الدين، أبو محمد، حسن بن قاسم بن عبدالله، المرادي، المصري، المالكي، اللغوي، المعروف بابن أم قاسم، المتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، صاحب كتاب "الجَنَى الداني في حروف المعاني"، المطبوع بمطبعة الجوائب، لصاحبها أحمد فارس الشدياق - رحمه الله تعالى - وكذا الإمام أبو الفضل، محمد خليل بن علي بهاء الدين، المرادي، البخاري، الدمشقي، الحنفي، المتوفى سنة ست ومائتين وألف، صاحب كتاب "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر".
[29] أخرج عبدالله بن أحمد في "زوائد فضائل الصحابة" (برقم 1903) جزءًا منه، وقد ذكر هذه العبارة عن ابن عباس كثير من المصنفين، فما رأيتهم ذكروا ما يزيد على هذا.
وقد أخرج عبدالرزاق في "المصنف" (11/241)، ومن طريقه أحمد في "فضائل الصحابة" (2/844 برقم 1555)، والحاكم في "المستدرك" (3/621) عن الزهري: أن عمر بن الخطاب وصف ابن عباس بقوله: " ذاكم فتى الكهول، إن له لسانًا سؤولاً، وقلبًا عقولاً"، قال الذهبي في "التلخيص": منقطع.
قلت: يشير إلى انقطاع إسناده بين الزهري وعمر.
وأخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (4/376)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (10/265) عن الحسن، عن عمر، وهو أيضًا منقطع بين الحسن وعمر - رضي الله عنه.
وأخرجه حمزة السهمي في "تاريخ جرجان" (برقم 971) عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن عبدالله، قال: قال عمر، فذكره.
ولم أدْرِ من هو محمد بن عبدالله هذا.
وقد اشتهر هذا المعنى عن دَغْفَل النَّسَّابة - رحْمة الله عليه - وقد قيل: إنَّ له صحبة؛ فقد روى ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3/294)، وابن أبي الدنيا في "العيال" (برقم 349)، والطبراني في "الكبير" (4/226)، والبغوي في "معرفة الصحابة" (إصابة2/389)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (17/292)، وأخرجه من طريق ابن بشران (17/291)، كلهم يَرْوُونه من طريق أبي هلال الراسبي، عن عبدالله بن بريدة: أن معاوية - رضي الله عنه - أرسل إلى دغفل، فسأله عن العربية، وعن أنساب الناس، وعن النجوم، فإذا هو عالم، فقال: يا دغفل، أين حفظت هذا؟ فقال: "حفظت هذا بلسان سؤول، وقلب عقول، وإن آفة العلم النسيان"، وفي رواية ابن أبي عاصم: "وأذن واعية"، بدلاً من قوله: "وإن آفة العلم النسيان".
وأخرجه ابن أبي عاصم (3/293) عن عمران بن حطان، عن دغفل، أنه قال: قال لي معاوية، فذكر نحوه، غير أنه زاد بعد قوله"وأذن واعية" قوله: "للعلم".
غير أنَّ الزمخشري قد ذكر قول دغفل هذا في كتابه "المستقصى في أمثال العرب" (1/252،253)، والسيوطي في "المزهر في علوم اللغة" (1/392) بزيادة طويلة، فانظرها في الموضِعَين المذكورين إن شئت.
[30] رُوي هذا القول عن عمر بن الخطاب وابنه - رضي الله عنهما - وعن عامر بن شراحيل الشعبي، وسفيان الثوري، وإبراهيم النخعي - رحمهم الله جميعًا.
أمَّا أثر عمر - رضي الله عنه - فأخرجه الدارمي في مسنده (برقم550)، وضعَّفه حسين سليم أسد في تعليقه على الدارمي؛ لجهالة حفص بن عمر الراوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه.
وأمَّا أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه عباس الدوري في تاريخه عن ابن معين (3/74).
وأمَّا أثر الشعبي، فأخرجه الدارمي (برقم550)، وابن حبان في "الثقات" (9/130)، وصحح إسناده مُحقق الدارمي.
وأمَّا أثر سفيان الثوري، فأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/364).
وأمَّا أثر إبراهيم النخعي، فأخرجه الدارمي في مسنده (برقم550)، وصحح إسناده محقق المسند.
[31] بعض هذا القول مشهور عن الإمام التابعي الجليل، الفقيه الحافظ، عامر بن شراحيل، الشعبي، الهمداني، الكوفي، المتوفى بعد سنة مائة من الهجرة.
انظر ترجمته في "تذكرة الحفَّاظ" (1/81-88)، و"تهذيب الكمال" (14/28-40).
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (25/355) عن أبي الحسن المدائني: أنه قال في كتاب الحكمة: فذكره هكذا دون إسناد، وبينه وبين الشعبي نحو رجلين؛ لأنَّه ولد سنة إحدى أو اثنين وثلاثين ومائة.
وذكره الذهبي في "تذكرة الحفَّاظ" (1/81)، ووقع فيه: "وعن ابن المديني"، وأظنُّه تصحيفًا؛ لأنَّ ناقل هذا الخبر عن الشعبي هو المدائني المؤرخ - كما مرَّ - لا علي بن المديني الحافظ، ولفظه فيهما: بنفي الاعتماد - ووقع في "تاريخ دمشق": بنفي الاغتمام، ولعله تحريف - والسَّير في البلاد، وصبرٍ كصبْر الجماد - وفي "تاريخ دمشق" كصبر الحمار - وبكورٍ كبكور الغراب".
ورُوي أيضًا عن الحكيم الفارسي بزرجمهر، أخرجه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص112) من طريق الخرائطي قال: أخبرني إبراهيم بن محمد، قال: قال بزرجمهر: "إنما أدركت ما أدركت من العلم ببكور كبكور الغراب، وصبر كصبر الحمار، وحرص كحرص الخنزير".
وروى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/24) عن ابن المُعْتَزِّ الأديب قال: يُروى عن بزرجمهر أنَّه قال: "أخذت من كلِّ شيء أحسن ما فيه، حتَّى انتهيتُ إلى الكلب والهِرِّ والخنزير والغراب، فقيل له: وما أخذت من الكلب؟ قال: إلْفُه لأهله، وذَبُّه عن حَريمه، قيل له: فمِنَ الغراب؟ قال: شدَّة حَذَره، قيل له: فمن الخنزير؟ قال: بكوره في إرادته، قيل: فمن الهِرِّ؟ قال: حسنُ رِفْقِها عند المسألة، ولينُ صِياحِها"، ونقل هذه العبارة أيضًا عنه ابن الجوزي في "المدهش" (ص520).
ثُم وجدت المناوي في "فيض القدير" (3/196) قد ذكر العبارة باللفظ الذي ذكره المصنف - رحمه الله تعالى - أعْلاه، وجعلها من قول بزرجمهر، والظَّاهر أنه نقلها عن ابن كمال باشا - رحمه الله تعالى - ولعلَّ الشَّعبي - رحمه الله تعالى - إن صحَّ عنه القول المذكور قد استفاد من تلك الحكمة المروية عن بزرجمهر، فالحكمة ضالَّة المؤمن، وكان بزرجمهر حكيمًا فارسيًّا أيَّام كسرى أنوشروان، وتولَّى الوزارة له، وله كتاب في الحكمة اسمه "ظفر نامه"، وهي أسئِلة سألها له أنوشروان، وأجابه عنها، ترجمه من اللغة الفهلوية إلى الفارسية ابن سينا الفيلسوف بأمْرٍ من نوح بن منصور الساماني، ملك الدولة السامانية.
انظر: "كشف الظنون" (2/1120)، وهو عند الفرس كأفلاطون عند اليونان، وقد ذكر بعض أمثاله وحكمه أحمد زكي باشا في كتابه "جمهرة خطب العرب" (1/136-141)، مع حكم أكثم بن صيفي الحكيم العربي.
وكان أبو مسلم الخراساني، الدَّاعي إلى الدولة العباسية من ذرية بزرجمهر هذا. انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" (10/207).
[32] قَريحَةُ الإنسان: طبيعَتُه التي جُبِلَ عليها، وجَمْعُها: قَرَائح، وقريحةُ الشباب: أولُهُ، وقيل: قريحة كل شيء: أوله، والقريحة والقُرْحُ: أول ما يخرج من البئر حين تُحْفَر، ومنه قولهم: لفُلانٍ قريحة جَيِّدة، يُراد استنباط العلم بجودة الطبع.
انظر: لسان العرب، مادة (قرح).
[33] أي: مُتَوَقِّد مضيء.
[34] المراد - والله أعلم - هو اشتهاء العلم، الباعث لصاحبه على تحصيله.
قال محمد بن أبي حاتم وَرَّاق البخاري: بلغني أنَّ أبا عبدالله - يقصد البخاري - شرب البَلاذُر للحفظ، فقلت له: هل من دواء يشربه الرجل للحفظ؟ فقال: لا أعلم، ثم أقبل عليَّ وقال: لا أعلم شيئًا أنفع لحفظٍ من نَهْمَة الرَّجُل، ومُداومة النَّظر. انظر: "تاريخ الإسلام" (19/250)
والبَلاذُر: دواء كانوا يتناولونه لتقوية الحفظ، وهو الذي أخذه المؤرِّخ النَّسَّابة، أحمد بن يحيى بن جابر، البغدادي، فأحدث شيئًا في عقْله، فنُسِبَ إليه، وعُرِف بالبَلاذُري.
انظر ترجمته في "تاريخ الإسلام" (20/290،289).

المصدر: شبكة الألوكة