أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم



تَنْبِيهُ أُولِي الأباب إِلَى أَنَّ الْكَذِبَ يَقَعُ عَلَى عِدَّةٍ مَعانٍ

الحمدُ للهِ الذي قَبِلَ بصحيحِ النيّةِ حسنَ العملِ، وحَملَ الضعيفَ المنقطِعَ على مراسيلِ لُطفِهِ فاتّصلَ، ورفعَ مَنْ أسندَ في بابهِ، ووقفَ مَنْ شَذَّ عنْ جنابهِ وانفصلَ، ووصلَ مقاطيعَ حُبِّهِ، وأدرجَهُمْ في سلسلةِ حزبهِ؛ فسكنَتْ نفوسُهُم عن الاضطرابِ والعِللِ، فموضوعُهُم لا يكونُ محمولاً، ومقلوبُهُم لا يكونُ مقبُولاً ولا يُحْتَمَلُ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه، الفردُ في الأزلِ. وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، أرسلَهُ والدينُ غريبٌ فأصبحَ عزيزاً مشهوراً واكتملَ، وأوضحَ به معضلاتِ الأُمورِ، وأزالَ به منكراتِ الدُّهُورِ الأُوَلِ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلمَ ما علا الإسنادُ ونزَلَ، وطلعَ نجمٌوأفلَ.
وَبَعْد ..

فَإِنَّ النَّاظِرَ بِعَيْنَ الْحِذْق ، الْفاهِمُ الْعَاقِلُ ، لِمَّا وُجْدَ مِنْ فُنُونِ شَتَّى وَعُلُومً عُظمَى ، أَدْرَّكَ سِراعًا أَنَّ لِكُلِّ فَنٍّ وَعِلْمُ أَلْفَاظِهِ وَمَدْلُولَاتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ ؛ وَالَّتِي قَدْ تَشْتَرِكُ مَعَ بَعْض الْعُلُومِ الآخرى ، وَلَكِنَّهَا فِي الْغَالِبِ الْأَعَمَّ مُتَغايِرَة اللَّفْظِ أَوْ الْمَعَنّى فَنَتِيجَةٌ لِهَذَا يَتَغَيَّرُ الْمَدْلُولُ ، وَيَخْتَلِفُ التَّطْبِيقُ فِي كُلُّ عِلْمٍ وَفَنٍّ مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ !

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (...وكذلك الألفاظُ المشتركة والمنقولة والمغيَّرة شرعًا نقلاً وتغييرًا شرعيَّين أو عُرْفيَّين إنما يريد بها المتكلِّم في الغالب أحدَ المعنيين مع أن المعاني الأُخَر جائزة الإرادة ولم تُرَد...
إلى أن قال:
وهذا بابٌ واسع فمن تأمَّل كلَّ لفظٍ في كلامِ متكلِّمٍ رأى أنه يجوز أن يُراد به من المعاني ما شاء اللهُ والمتكلِّم لم يُرِد إلا واحدًا من تلك المعاني...) ا.ه تنبيه الرجل العاقل ((2/474/475))

وقال أيضاً :( ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعادتهم في الكلام وإلاّ حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قوم وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ مايريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك.) ا.ه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (( ص 164 ))


وقال شيخ الإسلام الثاني العالم الرباني ابن القيم الجوزية-رحمه الله-: (وَالْعِلْمُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ يُعْرَفُ تَارَةً مِنْ عُمُومِ لَفْظِهِ، وَتَارَةً مِنْ عُمُومِ عِلَّتِهِ، وَالْحَوَالَةُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْضَحُ لِأَرْبَابِ الْأَلْفَاظِ، وَعَلَى الثَّانِي أَوْضَحُ لِأَرْبَابِ الْمَعَانِي وَالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِكُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَا يُخِلُّ بِمَعْرِفَةِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَيَعْرِضُ لِأَرْبَابِ الْأَلْفَاظِ التَّقْصِيرُ بِهَا عَنْ عُمُومِهَا، وَهَضْمُهَا تَارَةً وَتَحْمِيلُهَا فَوْقَ مَا أُرِيدَ بِهَا تَارَةً، وَيَعْرِضُ لِأَرْبَابِ الْمَعَانِي فِيهَا نَظِيرُ مَا يَعْرِضُ لِأَرْبَابِ الْأَلْفَاظِ فَهَذِهِ أَرْبَعُ آفَاتٍ هِيَ مُنْشَأُ غَلَطِ الْفَرِيقَيْنِ.) إعلام الموقعين ((1/168)) وانظر مقال بعنوان: ((أخمية معرفة الإصطلاحات الخاصة)) للشيخ إبراهيم المديهش


ثُمَّ إِنَّ الْإعْرَاضَ عَنْ تَفَهُّمٍ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ ، وَعَدَمُ الْوُقُوفِ عَلَى مَدْلُولِهَا ،وَالتَّفْتِيشُ عَنْ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا ، مَعَ مُرَاعَاةٍ فِي إِي فَنًّ قِيّلت وَدُوّنْت ، وَعَلَى لِسَانٍ مِنْ أُطْلِقْت ؛ يَنْشَأُ عَنْهُ تَخْلِيط وَيُنْتِجُ عَنْه الْأَعاجِيبَ !
وَيُوَقِّعُ صَاحِبُهُ فِي الْخَطَأِ الْقَبِيحِ ، وَيَجُرُّهُ إِلَى فَهْمٍ وَتَطْبِيقً لِمُرَادِهُمْ عَلِيلِ سَقِيمٍ !

قال ابن تيمية-رحمه الله-: (وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْغَلَطِ فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَنْشَأَ الرَّجُلُ عَلَى اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ فَيُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَ اللَّهِ بِذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ وَيَحْمِلَهُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا) مجموع الفتاوى ((12/107))

قُلْتِ : وَمِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ الَّتِي لَهَا أَصطلاحَاتِهَا وألفاظها الْجَارِيَةَ وَبِكَثْرَةٍ عَلَى لِسَانِ الْمُحْدَثَيْنِ الْأئِمَّةَ النُقَّادَ ، عِلم الْجَرْح وَالتَّعْدِيل وَمُصْطَلَحَاتِهِ !
إِذْ أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ عِنْدَ كُلِّ مِنْ مَارِس وَشدى شيئاً مِنْهُ ، أَنَّ لِكُلُّ نَاقِدِ أَلْفَاظِهُ الْخَاصَّةِ الَّتِي قَدْ يَشْرَكُهُ مَعَه فِيهَا غَيْرَه !
فَهَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتُ يَجِبُ أَنْ يُتَأَنَّى فِي تَنْزِيلِهَا عَلَى الرُّوَاةِ ، أَوْ الْمَسَائِلَ الْحَدِيثِيَّةَ والإسنادية ، فَالْبَحْثُ وَالتَّفْتِيشَ وَمَعْرِفَةُ مَدْلُولٍ تِلْكَ الْعَبَّارَة عِنْدَ هَذَا النَّاقِدِ وَالْعَمَل عَلَى إعتبار الْقرائنَ وَالْمُلاَبَسََاتِ وَالظُّروف الَّتِي قَيَّلْتِ فِيهَا ، وَتَفْسِيرُ مَعَانِيِهِ بِدِرَاسَةِ تَطْبِيقَاتِهِ وَمُمَارِسَاتِهِ الْعَمَلِيَّةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ ...
مِمَّا يُعَيِّنَ الْبَاحِثُ وَالطَّالِبُ عَلَى الْوُصُولِ لِلصَّوَابِ ، وَإصابَةُ كَبِدِ الْحَقِّ وَالْإِنْصاف ..

قال الإمام أبو الوليد الباجي-رحمه الله-: (فعلى هَذَا يحمل أَلْفَاظ الْجرْح وَالتَّعْدِيل من فهم أَقْوَالهم وأغراضهم وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا لمن كَانَ من أهل الصِّنَاعَة وَالْعلم بِهَذَا الشَّأْن وَأما من لم يعلم ذَلِك وَلَيْسَ عِنْده من أَحْوَال الْمُحدثين إِلَّا مَا يَأْخُذهُ من أَلْفَاظ أهل الْجرْح وَالتَّعْدِيل فَإِنَّهُ لَا يُمكنهُ تَنْزِيل الْأَلْفَاظ هَذَا التَّنْزِيل وَلَا اعْتِبَارهَا بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا وَإِنَّمَا يتبع فِي ذَلِك ظَاهر ألفاظهم فِيمَا وَقع الِاتِّفَاق عَلَيْهِ وَيقف عِنْد اخْتلَافهمْ وَاخْتِلَاف عباراتهم وَالله الْمُوفق للصَّوَاب برحمته) ا.ه التجريح والتعديل ((1/288))

لِذَلِكَ كَانَ الْوُقُوفُ عَلَى عَبَّارَاتِهُمْ وَالتَّفْتِيش عَنْ مَدْلُولِ ألفَاظِهمُ مِنْ عظيم مَا يُحْتَاجُ إِلَيه ، وَمِنْ مَسِيسٍ مَا يُدْلِجُ فِي مَعْرِفَتِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَيه !!

قال الحافظ الذهبي-رحمه الله-: (ثم نحن نفتَقِرُ إلى تحرير عباراتِ التعديلِ والجرح، وما بين ذلك مِن العباراتِ المُتَجَاذَبَة. ثم أهَمُّ مِن ذلك، أن نَعلمَ بالاستقراءِ التامِّ عُرْفَ ذلك الإمامِ الجِهْبِذ، واصطلاحَه، ومقاصِدَه، بعباراتِه الكثيرة) ا.ه الموقظة ((ص 82))

وقال الحافظ ابن كثير-رحمه الله-: (وثم اصطلاحات لأشخاص، ينبغي التوقيف عليها.) ا.ه الباعث الحثيث ((105-106))

وقال الحافظ السخاوي-رحمه الله-: (..فَمَنْ نَظَرَ كُتُبَ الرِّجَالِ، كَكِتَابِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الْمَذْكُورِ، وَ (الْكَامِلِ) لِابْنِ عَدِيٍّ، وَ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرِهَا، ظَفَرَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوِ اعْتَنَى بَارِعٌ بِتَتَبُّعِهَا، وَوَضَعَ كُلَّ لَفْظَةٍ بِالْمَرْتَبَةِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا، مَعَ شَرْحِ مَعَانِيهَا لُغَةً وَاصْطِلَاحًا لَكَانَ حَسَنًا.
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا يَلْهَجُ بِذِكْرِ ذَلِكَ، فَمَا تَيَسَّرَ، وَالْوَاقِفُ عَلَى عِبَارَاتِ الْقَوْمِ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ بِمَا عُرِفَ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِقَرَائِنَ تُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ) ا.ه فتح المغيث ((2/114))

وَمِنْ هَذِهٍ الألفاظ الشَّائِعَةُ الْكَثِيرَةُ الإستعمال الْجَارِيَةَ وَبِكَثْرَةٍ عَلَى أَلْسُنٍ الإئمة النُقَّاد ، قَوَّلَهُمْ فِي الرواي (( كَذَّابٌ )) أَوْ (( كَذُوبٌ )) أَوْ مَا جَاءَ فِي معناها مِنْ عِبَارََاتٍ وَجَرَى فِي مِضْمَارِهَا مِنْ إصطلاحات ، مِمَّا يُطْلِقُونَهُ وَيَوْسُمُونَ بِهِ الراوٍ .
فَهَذِهِ اللَّفْظَةُ كَغَيْرِهَا مِنْ الألْفَاظٍ ، جائت عَلَى عِدَّةٍ معان ، وَاِسُتَعْمِلْت فِي عِدَّةِ مَوَاضِعِ ، فَتَارَةً تَأَتِّي عَلَى ظاهِرِهَا ، وتاراة تَاتِي مُخَالَفَةِ وَمُغَايِرَةٍ لمَا يَتَبَادَرُ مِنْ ظاهِرِهَا ، مِنْ إِرَادَةِ الْكَذِبِ وَالْوَضْع !

قال الإمام ابن الأنباري-رحمه الله-: ((إِنّ الكَذِبَ ينقسمُ إِلى خَمْسَة أَقسام:
إِحداهُنَّ تَغْيِيرُ الحاكي مَا يَسمَعُ، وقولُهُ مَا لَا يَعْلَمُ نقلا ورِوَايَةً، وَهَذَا القسمُ هُوَ الَّذِي يُؤْثِمُ ويَهْدِمُ المُرُوءَةَ.
الثّاني: أَنْ يقولَ قولا يُشْبِهُ الكَذِبَ، وَلَا يَقْصِد بِهِ إِلاَّ الحَقَّ، وَمِنْه حديثُ: (كَذَبَ إِبراهِيمُ ثَلاثَ كَذِباتٍ) ، أَي: قالَ قولا يُشْبِهُ الكَذِبَ، وَهُوَ صادقٌ فِي الثّلاث.
الثّالثُ بِمَعْنى الخَطَإِ، وَهُوَ كثيرٌ فِي كَلَامهم.
والرّابعُ البُطُولُ، كَذَبَ الرَّجُلُ: بِمَعْنى بَطَلَ عَلَيْهِ أَمَلُهُ وَمَا رَجاهُ. الخامسُ بِمَعْنى الإِغراءِ، وَقد تقدَّم بيانُه. وعَلى الثّالث خَرَّجُوا حديثَ صَلاةِ الوِتْر (كَذَبَ أَبو محمَّد) ، أَي: أَخطأَ، سمّاهُ كاذِباً، لاِءَنَّهُ شَبِيهُهُ فِي كَوْنِه ضِدَّ الصَّواب، كَمَا أَنَّ الكَذِبَ ضِدُّ الصِّدق وإِن افْتَرقا مِنْ حَيْثُ النِّيَّةُ والقَصْدُ؛ لاِءَنَّ الكاذبَ يَعلَم أَنّ مَا يقولُهُ كَذِبٌ، والمُخطِىءَ لَا يعلَمُ. وهاذا الرَّجُلُ لَيْسَ بمُخْبِرٍ، وإِنّما قَالَه بِاجْتِهَاد أَدَّاهُ إِلى أَنَّ الوِتْرَ واجبٌ، والاجتهادُ لَا يدخُلُه الكَذِبُ، وإِنّما يدخُلُه الخَطأُ وأَبو محمّدٍ الصَّحابيُّ: اسمهُ مسعودُ بْنُ زَيْدٍ...)) ا.ه تاج العروس ((4/129))

وَأَنَا هُنَا فِي رسالتي الْمُتَوَاضِعَةَ هَذِهٍ ، مُتَكَلِّمٌ - بِحَوْلِ اللهِ - عَلَى الْكَذِبِ الَّذِي يجيئ وَيَحْمِلَ مَعْنَى الْخَطَأِ ، موضحاً إِيَّاهُ بِبَعْضِ النُّقُولِ ومتتماً إِيَّاهُ بِبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ وَالتَّطْبِيقَاتُ الْعَمَلِيَّة
فِي هَذِهِ الْبَابِ .


قال الحافظ ابن حجر العسقلاني-رحمه الله-: ( وَلَكِنَّ قُلُوبَ الْعُلَمَاءِ تَنْفِرُ إِذَا سَمِعَتْ غَيْرَ الْحَقِّ فَيُطْلِقُونَ أَمْثَالَ هَذَا الْكَلَامِ لِقَصْدِ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ وَحَقِيقَتُهُ غَيْرُ مُرَادَةٍ قُلْتُ وَيَجُوزُ أَنْ يكون بن عَبَّاسٍ اتَّهَمَ نَوْفًا فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ فِي حَقِّ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ تَوَارُدِهِمَا عَلَيْهَا وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ لِلْعَالِمِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ فَسَمِعَ غَيْرَهُ يَذْكُرُ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أَنْ يُكَذِّبَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ أَيْ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ) ا.ه فتح الباري ((1/219))

قُلْت : فَأَنْتَ تَرى - يا رَاعَاكَ الله - أَنَّ لَفْظَةَ الْكَذِبِ جَرَى أطلاقها عَلَى لِسَانِ اِبْنِ عَبَّاسٍ وَرَمَى بِهَا أَحَدَّهُمْ ، وَلَكِنَّه لَمْ يُرِدْ بِهَا الْكَذِبَ الَّذِي يَأْتِي بِمعَنّى :(( تَغْيِيرُ الحاكي مَا يَسمَعُ، وقولُهُ مَا لَا يَعْلَمُ نقلا ورِوَايَةً،..))

وَمِمَّا يَزِيدُ الْأَمْرُ وُضُوحَا وَيَجِلِّيه وَيَزِلَّ بِهِ اللَّبْسُ وَيَزِيدُ فِي الْفَهْمِ ، مَا قَالَهُ وَقُرِّرَهُ شَيْخ الْإِسْلامِ ابن تيمية في رده على الإخنائي((ص 18)):
(والمقصود: أن من تكلم بلا علم يسوغ، وقال غير الحق فإنه يسمى كاذبا، فكيف بمن ينقل عن كلام موجود خلاف ما هو فيه مما يعرف كلّ من تدبر الكلام أن هذا نقل باطل؟ فإن مثل هذا كذب ظاهر، والأول على صاحبه إثم الكذب ويطلق عليه الكذب...)) ا.ه

جاء في ترجمة ((برد مولى سعيد بن الْمسيب الْقرشِي)) كما في الثقات لإبن حبان ((6/114)): (من أهل الْمَدِينَة يروي عَن سعيد بن الْمسيب روى عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن حَرْمَلَة كَانَ يخطىء وَأهل الْحجاز يسمون الْخَطَأ كذباً) أ.ه

قُلَّتْ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ - ولِلَّهِ الْحَمْدُ - فَأَنْتَ تَرى أَنَّ الْأَلْفَاظَ وَالْمَعَانِي تَخْتَلِفُ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ فَمَا يُرَادُ هُنَا لَا يُرَادُ الْبَتَّة هُنَاكً ، فَعَلِيّكَ الإحتياط وَالتَّنَبَّهَ والإستيقاظ وَالتَّفَطُّنَ لِمِثْل هَذِهٍ الْأُمُور وَأَنَّ تَوَلها أَشِدُّ الْعِنَايَةَ وَأَنْ تَتَعَامَلَ مَعَهَا بِأقْصَى أَنْوَاعٍ الإحتياط وَالْأَناة !

قال العلامة ذهبي العصر عبد الرحمن المعلمي: ((أقول: قال علي بن الحسن الهسنجاني عن ابن معين: «بالكوفة كذابان أبو نعيم النخعي وأبو نعيم ضرار بن صرد» وظاهر هذا تعمد الكذب لكن قال الأستاذ ص(163) «الإخبار بخلاف الواقع هو الكذب، والكذب بهذا المعنى يشمل الغالط والواهم فمن غلط أو وهم في شيء يمكن عده كاذباً على هذا الرأي ... فلا يعتد بقول من يقول: فلان يكذب. ما لَم يفسر وجه كذبه ولذا عد عند كثير من أهل النقد قول القائل: كذب فلان. من الجرح غير المفسر ... » أقول وقد قال ابن معين لشجاع بن الوليد أبي بدر السكوني: يا كذاب وقد قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين «شجاع بن الوليد ثقة» وثقه غيره ولكنه يهم ويغلط..) ا.ه التنكيل ((2/495))

قُلْت: وَمِنْ هَذَا الْبَابُ وَعَلَيه يَجِبُ أَنْ يُحْمَل قَول الْأئِمَّةِ النُقَّاد فِي رُوَاةٍ عَابِدِينَ صَالِحِينَ زُهَّادٍ ، فَقَدْ وُسِمَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْكَذِبِ ، وَكَانَ يُرَادُّ بِهِ الْخَطَأَ ، فَلَا تَعَجّلْ وَتَأْن .
جاء في مقدمة الإمام مسلم لصحيحه ((1/17)): (وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَتَّابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَفَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «لَمْ نَرَ الصَّالِحِينَ فِي شَيْءٍ أَكْذَبَ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ» قَالَ ابْنُ أَبِي عَتَّابٍ: فَلَقِيتُ أَنَا مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ، «لَمْ تَرَ أَهْلَ الْخَيْرِ فِي شَيْءٍ أَكْذَبَ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ». قَالَ مُسْلِمٌ: " يَقُولُ: يَجْرِي الْكَذِبُ عَلَى لِسَانِهِمْ، وَلَا يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ ")) ا.ه

ويفسر هذا الأمر ويبينه، ما جاء في ترجمة ((ثابت بْن مُحَمد الزاهد)) كما في الكامل لإبن عدي، ما نصه: (وثابت الزاهد هَذَا هُوَ عندي ممن لا يتعمد الكذب ولعله يخطئ وله عَن الثَّوْريّ وعن غيره غير ما ذكرت وفي أحاديثه يشتبه عَلَيْهِ فيرويه حسب ما يستحسنه والزهاد والصالحون كثيرا ما يشتبه عليهم فيروونها عَلَى حسن نياتهم.) ا.ه ((2/301))

ويزده وضوحاً ما جاء في ترجمة ((زكريا بْن يَحْيى أبو يَحْيى الوقار)) كما في الكامل: (سَمِعْتُ مشايخ أهل مصر يثنون عليه في باب العبادة والاجتهاد والفضل وله حديث كثير بعضها مستقيمة وبعضها ما ذكرت وغير ما ذكرت موضوعات وكان يتهم الوقار بوضعها لأنه يروي عن قوم ثقات أحاديث موضوعات والصالحون قد رسموا بهذا الرسم إن يرووا في فضائل الأعمال موضوعة بواطيل ويتهم جماعة منهم بوضعها) ا.ه كلام ابن عدي بحروفه ((4/176))

وجاء في ترجمة ((جعفر بن الزبير الحنفي وقيل الباهلي الدمشقي)) كما في التهذيب للحافظ، نقلاً عن ابن معين، قوله فيه: ((ليس بشيء))
وقال في رواية ابن محرز عنه (1/60): (قال سمعت يحيى بن معين وقيل له جعفر بن الزبير كان من الصالحين قال كيف يكون صالحا وكان يكذب) ا.ه
وقوله كان يكذب، أراده فيه أنه كان كثير الخطأ ، فالرمترجم له من أحد كبار الصالحين، فيلزم حمل قول ابن معين في هذه الرواية على الكذب الذي هو بمعنى الخطأ.

جاء في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/1098):
((
ذَكَرَ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ فِي قِصَّةِ عِكْرِمَةَ ذَبًّا عَنْهُ وَدَفْعًا لِمَا قِيلَ فِيهِ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي بَابِنَا هَذَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ سَمُرَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكْتَتَانِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ فَقَالَ: كَذَبَ سَمُرَةُ وَكَتَبُوا إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَتَبَ أَنْ صَدَقَ سَمُرَةُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ جِدًّا)) أ.ه

وجاء فيه أيظاً: ((نا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَا: أنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: " كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِحَتْمٍ فَخُذُوا مِنْهُ" أَوْ دَعُوا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَذَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ: «مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَوَاحِدَةٌ»)) ا.ه


وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكً كَثِيرَةً جداً يَصْعُبَ حَصْرُهَا وَتَعْدَادَهَا وَلَمْ شِمْلَهَا !
هَذَا مَا أَرَتُّ التنبِيّهَ عَلَيه ، فَإِنَّ أَصَبْتُ فَمَنًّ اللَّهُ وَحَدَّهُ ، وَإِنَّ أَخْطَأْتُ فَمِنِْي وَمِنْ الشَّيْطَانِ ..
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلَه وَصَحْبَه وَسلَّم.
وَكَتَبَهُ ؛
أَبُو بَكْرِ الْأثَرِيّ
- عَفَا اللهُ عَنْه -