بناء القصيدة الوجدانية عند شعراء المدينة المنورة المعاصرين للباحثة رحمة مهدي علي الريمي
كتب محمد عباس عرابي عضو الرابطة عضو اتحاد الكتاب مجلة الأدب الإسلامي
العدد31
شعراء المدينة المنورة هم كوكبة أدبية انطلقت تستلهم خصائص المذهب الوجداني؛ آخذين منه ما يتفق مع مقاصدهم ورؤيتهم الفنية، وانطلقوا مبدعين لا متبعين، إذ مازالوا محتفظين بشخصيتهم الأدبية التي اكتسبوا خصائصها من الدين والأرض.
ويشكل نتاج هؤلاء الشعراء مادة أدبية متجانسة جديرة بالدراسة، من هنا جاءت الرسالة الأكاديمية التي قدمتها الطالبة رحمة الريمي بعنوان: (بناء القصيدة الوجدانية عند شعراء المدينة المنورة المعاصرين) لجامعة أم القرى للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب العربي عام 1426هـ-2005م، وأشرف على الرسالة د.صالح جمال بدوي.
درست الباحثة بناء القصيدة المعاصرة عند شعراء المدينة المنورة الوجدانيين من خلال معالجة العناصر الموضوعية والفنية المكونة لبنية القصيدة على مستوى الشكل والمضمون، وجاءت الدراسة في مقدمة ومدخل وقسمين من ستة فصول تعددت مباحثها وجزيئاتها. وأسهمت دراسة العناصر الموضوعية والفنية بنصيب وافر في كشف التماسك البنائي للنصوص الشعرية في شعر المدنيين .وفيما يأتي عرض لمكونات الرسالة ونتائجها:
أولا:عرض موجز لمكونات الرسالة:
القسم الأول عني بمحاور الرؤية الفنية، واشتمل على دراسة المضامين التي عني بها شعراء الوجدان، والسمات المميزة لها، وتمثل في فصلين: عرض الأول التجارب الذاتية والعاطفية –التي تغلب على نتاجهم- حيث انطلقوا من مفهوم النظرة الوجدانية التي ترى أن الشعر تعبير عن الذات، فوقفت على مضامين هذه التجارب وخصائصها، وكيف عبر شعرهم عن ذواتهم، واتسم بسمات أهمها، الشكوى والقلق والتأمل الفكري، ثم البحث عن الملاذ من آلام النفس وقلقها، وكيف تشكلت رؤيتهم تجاه المرأة والحب، حيث تناولت بالتحليل والتفسير ما ذهبوا إليه من رؤى مختلفة، ومواقف متباينة. وتلمس الدراسة خصوصية الشعراء من حيث محاور الرؤية المختلفة لكل شاعر، وطريقة الأساليب التي عالجوا بها قضاياهم العاطفية.
وجاء الفصل الثاني بالتجربة الوطنية وجها آخر من أوجه الألم الذاتي، امتزجت فيه الذات بالموضوع، حيث عالجوا القضايا الوطنية برؤية وجدانية متكئة على رؤية واقعية للحال والمآل.
أما القسم الثاني فتضمن عناصر بناء القصيدة، ومظاهر التميز والتجديد عند الشعراء، وشمل الفصل الأول المعجم الشعري والأسلوب، حيث عالجت الباحثة من منظورات مختلفة؛ معجم اللفظة والدلالة الشعورية لها، والقيم الإيحائية في أصواتها، وتتبع البحث مسالك أساليبهم في الأداء الشعري للكشف عن الجديد مسايرة للعصر.
وتناول الفصل الثاني الموسيقى والإيقاع الشعري، وما اشتمل عليه من تجديد في أشكال البناء الموسيقي الخارجي، وما تؤديه الموسيقى الداخلية من وظيفة فنية ونفسية تقوي عنصر الإيقاع، وما تجلى فيه من تجديد في أساليب تشكيل الإيقاع، من حيث لجوؤهم إلى أشكال وزنية ساعدت على ظهور الشعر بمظهر معاصر.
أما الفصل الثالث فاختص بالصورة الشعرية وما جاء فيها من تطور في نظام التصوير، حيث أفادوا من الرمز والتراسل في الحواس، وتعقيد الصورة والجنوح بها إلى الرمز الفني والنفسي، وما حدث فيه من تجديد وابتكار مستمد من المذاهب الحديثة التي تساند ميلهم إلى التجديد.
وجاء الفصل الرابع والأخير بتوظيف التراث الذي يعتبر انطلاقة فنية في عالم التجديد، وعالجت الباحثة فيه تنوع التوظيف من حيث هو جزئي وكلي، وكيف أصبح نقطة فاصلة في عالم المعاصرة عند الشعراء على اختلاف بينهم، وكيف أفادوا منه في بناء النصوص الشعرية لتأخذ القصيدة طابع الشمولية، ثم أردفت الفصول بخاتمة عرضت أهم النتائج التي توصل إليها البحث.
ثانيا: نتائج الرسالة:
توصل البحث على مستوى تشكيل البناء الفني، إلى اهتمام الشعراء بالعناصر الفنية المكونة لبنية النص، بدءًا بالعنوان الذي من خلاله يدرك معنى القصيدة، حيث نشأ رابط قوي بين العناوين وبين مضامين القصائد، ولقد توصلت الباحثة إلى العديد من النتائج أبرزها:
* سمات المذهب الوجداني : نتاج المدنيين يحمل إلى حد كبير سمات المذهب في المضامين والأفكار، وكذلك في الشكل، فجاءت اللغة وجدانية محلقة حالمة متأثرة بلغة الحياة ومعطياتها المعاصرة، معبرة عن نوازع النفس، ومتجانسة مع المشاعر، فالنسيج اللغوي تصوير بالكلمات لأفكار الشاعر، وترجمة لوثبات خياله، وهو القابض على عناصر الشعر المختلفة .ومن خلال القراءة المتأنية للرسالة يتضح أن الباحثة توصلت من حيث المضمون إلى تلبس الشعراء خصائص المذهب الوجداني، وظهر واضحًا تأثرهم به من حيث كثرة الشكوى والإحساس بالغربة، والشعور بالنبوغ والتفوق، وكان أكبر دواعي الشكوى إحساسهم بالألم الذاتي والألم الجماعي فأدى بهم إلى قلق فكري، خرجوا منه إلى التأمل في حالهم ومآلهم، وبحثوا عن مهرب منه إلى عوالم الخيال، وإلى المجهول، وإلى كل ما يأنسون إليه؛ المرأة والأبناء والطفولة والماضي، ولكن المدنيين لم يزجوا بأنفسهم في متاهات الشك والحيرة والضياع كما فعل بعض أهل المذهب ورواده مما قادهم إلى لحظة يأس مريرة، يعودون بعده إلى الله في ابتهال ورجاء. ولهذا لمس البحث سريان الحس الديني في سائر الموضوعات والمضامين.
وحاول الشاعر المدني وهو يعبر عن تجاربه أن يبرز رؤية ذاتية تكسب تجربته خصوصية وتميزا، من خلال تكثيف جميع عناصر البناء داخل التجربة. وقد برزت الذات الوجدانية في شتى المضامين التي عني بها المدنيون، وكانت الذات محور الارتكاز، وظهرت تموجات المد النفسي والعاطفي التي انعكست على البنية الفنية للنص، وظل الشعور العاطفي قائمًا متناميًا حتى مع طول القصائد التي يفرغ فيها الشاعر شحنته العاطفية. وعادة ما ينتظم القصائد هذا الشعور أو ذاك فتأخذ الفكرة محوريتها في النص، ويتماهى المضمون داخل الشكل متآزرًا مع عناصره المختلفة.
وقد عالج الشعراء التجارب الإنسانية، والقضايا المصيرية، منطلقين من ذواتهم، ومعبرين عن تجارب خاصة، ورؤى مختلفة تلتحم فيها الذات بالموضوع التحامًا متينًا يصل إلى التعلق، فقد تغنوا بالمدينة المنورة غناء المجد والفخار، معبرين عن عمق ارتباطهم بها روحانيًا وتاريخيًا وحضاريًا، ففاضت مشاعر الحنين والشوق، وذاعت مشاعر الفخر والاعتزاز، وارتقت المشاعر الوطنية إلى درجة الإحساس بحال الأمة وأوضاعها، تشدهم الغيرة الدينية التي يستنهضون بها حمية قومهم وغيرتهم، ووقفوا مع المستضعفين من الناس والمظلومين، يدفعهم التعاطف مع الفئة المغلوبة على أمرها. وقد كشف هذا عن الموقف الإنساني والديني المتأصل في وجدانهم والمستمد من المبادئ التي استقوها من أرض المدينة المنورة.
* مفردات اللغة: جاءت مفردات اللغة تشكل من حيث الدلالة على المعاني المرتكز الأول في بناء القصيدة، حيث استوعبت التجارب الفنية بوسائلها الدلالية والإيحائية. ووجد أن المواقف الوطنية كانت تقيم بنيانها من مفردات وجدانية وعبارات حالمة، كأثر من آثار المذهب، كما تجسدت مشاعرهم بصور تضافرت مع اللغة في إيقاعات لحنية تجعل الوطنية لونًا من شعر الذات.
إن عناصر القصيدة تآزرت في وحدة بنائية تضم علاقات وروابط داخل النص، تمنح القصيدة سمة العصرية، وأن الشعراء احتذوا في تشكيل البناء اللغوي بالمذهب الوجداني، فهي لا تخرج عن كونها لغة وجدانية حالمة تستقي مقوماتها من منابت معاصرة، إذ جاءت محملة بالدلالات والإيحاءات لحاجة الشاعر إلى تلوين شعره بلون ذاته، فاستوعبت تجاربهم الذاتية، ونهضت المفردات والتراكيب بحمولة من المعاني ومعنى المعاني، وشاعت الألفاظ الهامسة، ومالت اللغة إلى البساطة المتأثرة بالمعطيات المعاصرة والمعبرة عن نوازع النفس، وجاءت منسجمة مع أحاسيسهم، ومتلاحمة مع مشاعرهم، وحين يجسد الشعراء معاناتهم فإنهم يسهبون في توالي الجمل وتراكمها بصورة مكثفة، يعينهم في ذلك استخدامهم للبحور القصيرة والمجزوءة، وشعر التفعيلة، فهي تساعدهم في إفراغ شحنات مشاعرهم، وذلك في إيقاعات سريعة خفيفة يتبين من خلالها صور القتامة والمعاناة. وقد وصلوا باللغة إلى مسارب الحديث العادي متكيفًا مع البيئة المحلية للمدينة المنورة، غير أنها لم تصل إلى الابتذال، فقد حافظ المدنيون على الرصانة والقوة فلم تضعف، ولم تعد تحتفظ اللغة كثيرًا بدلالتها المعجمية، بل خرجت إلى دلالات جديدة تتلاءم مع التجارب الذاتية، وتواكب روح العصر وطاقاته، وكان للأساليب المتنوعة داخل السياق اللغوي دور في بناء الشعور والعاطفة، وتباين زوايا الرؤية، مثل التكرار والاستفهام واستخدام بعض الضمائر الدلالية والحذف والإضمار وغيرها من الوسائل التي تكشف عن نفسياتهم وتميز الواحد منهم عن الآخر.
*الإيقاع الشعري : جاء دور الإيقاع الشعري كبيرًا في البناء الشعري، فالقصيدة إيقاع قبل أي شيء آخر، ويأتي في البناء منسجمًا مع العواطف، ثري الإيحاء. وقد تنوع التشكيل الموسيقي ليلائم توجهاتهم، مع غلبة القصيد على نماذج التشكيل الأخرى، الذي عدل كفة الميزان، حيث وجدوه يستوعب تجاربهم، مع ما صاحبه من تجديدات فنية داخل النص يؤازر بعضها بعضًا في وحدة البناء.
وقد حافظ المدنيون على القالب الموروث، وحمل في داخله سلسلة من الانفعالات التي ظهرت في البنى الصوتية والتركيبات التصويرية، تآزرت في بنية التجربة الشعرية، وعكست تجديدًا في الوحدة البنائية، فلم يعقهم عن استيعاب تجاربهم الشعرية، غير أنهم لم يتعصبوا له، بل وجدوا فيه جلالا لا يهمل، ورأوا في التنوع حرية لا تغفل، فاستخدموا نظام المقطعات وبشكل واسع عند بعضهم، ونوعوا في القوافي، وأحدثوا تجديدات داخل البناء الموسيقي، مثل الجمع بين أكثر من وزن، أو بين الوزن تامًا ومجزوءًا أو مشطورًا في القصيدة الواحدة، والجمع بين أكثر من شكل، كأن يجمع بين القصدي والتفعيلي في بناء النص الشعري، وغيرها من أنواع التشكيل الموسيقي، معززين الإيقاع بأنساق موسيقية تنسجم فيها الألفاظ والعبارات، مصاحبًا فنيات أخرى داخل النص تآزر بعضها في وحدة البناء.
*التصوير: قام التصوير بدور كبير مستخدمًا طاقات اللغة، وإمكاناتها لتجسيد المشاعر، والعمل على إقامة علاقات بين العاطفة والفكر والشعور واللغة والإيقاع، وكذلك الرمز الذي حمل طاقات هائلة من المشاعر والانفعالات. لقد جاء الأداء التصويري في سياق بياني يجسد المشاعر، ويعمل على إقامة علاقات بين الفكرة والعاطفة واللغة والإيقاع، في صور حية مستمدة من الشعور والحس والخيال معًا، وأبدع الشعراء في إنبات صور تتفق مع مقاصدهم ورؤاهم. وظهر أن التشبيه أول ما يجتاح الشاعر فيؤدي دوره ، ثم يأتي دور التشخيص والتجسيد والتجريد والمجاز، فيفضي بالعاطفة، ويعمق الإيحاء بالتجربة، على أن الاستعارة كذلك هي التشكيل البارز الذي يدخل في نسيج العمل كعنصر أساسي في بناء القصائد. وكان دور الرمز كبيرًا في تشكيل الصورة عند المدنيين لدلالته الرحيبة، فاستعملوا الرمز اللفظي والرمز النفسي وتراسل الحواس وغيرها من الوسائل الحديثة. ووصلوا إلى الغموض الرمزي الذي ساروا فيه على بعض المذاهب الحديثة.
والحقيقة أن المدنيين لا يميلون إلى هذا النوع من الرمز إلا فيما ندر، ويعتبر الخطراوي الأكثر بين شعراء المدينة المنورة إيغالا في الغموض والتعتيم، فقد ذهب فيه إلى شيء من الرمزية والسريالية، وأتيح له أن يتابع كل جديد من الاتجاهات الحديثة المعاصرة، ويستعمله ليفجر عنده كثيرًا من مضامينه.
*توظيف التراث : جاء توظيف التراث منطلقًا جديدًا في تشكيل الرؤية الفنية، حيث أفرغ على القصيدة قدرًا من العراقة والأصالة، جنح بها إلى الشمولية والكلية، وساعد على إبراز مواقف الشعراء، ونهض بأداء معانيهم وأفكارهم، مفيدين مما فيه من معطيات تستجيب لها المشاعر. وأدى توظيف التراث تشكيلا مهمًا في الرؤية الشعرية، ويعتبر تقنية فنية مميزة داخل بناء القصيدة، حيث ساعد الشعراء على إبراز مشاعرهم ومواقفهم الفكرية المختلفة، وكان طريقًا للبوح بما لا يمكن البوح به مباشرة، وقد استمد الشعراء عناصر رموزهم من التراث الإنساني العام والخاص بادئين باستلهام عناصره من القرآن الكريم ثم المواقف والشخصيات، ولجوء الشاعر المدني إلى التراث باستنهاض مواقفه الجليلة، ورجالاته العظماء أفرغ على القصيدة المعاصرة قدرًا من العراقة والأصالة، وامتد الماضي في الحاضر، فتميزت القصيدة بالشمولية.
ويعبر استرفاد التراث عن التعلق بأمجاده الخالدة التي يجسد بها الشاعر معاناة الحاضر، وطالما ربط الشعراء الحاضر بالماضي، وبحثوا في الماضي عن مصدر المجد والعز بغية استنهاض الحاضر الذي يرونه منكسرًا بضعف قوته.
وقد كان هذا التوظيف العلامة الفارقة في تجديد بناء القصيدة، وتلاحم أجزائها، والانطلاقة بالشعر إلى آفاق التأويل وتعدد القراءات. وكان الخطراوي وأسامة عبد الرحمن رائدين في ذلك، فقد نهضا بالشعر إلى آفاق عالية من حيث مضامينه وأفكاره مفيدين مما في التراث من رموز ونماذج تؤثر في نفس المتلقي فيتفاعل معه.
وقد كان لهذه العناصر مجتمعة دور في عملية بناء النص الشعري، حيث تترابط. في موقف فكري موحد، يبني سلسلة من الانفعالات والمؤثرات، ليصبح النص الشعري تشكيل متناسق الأجزاء، مترابط البناء، تتجسد فيه حالة من الانسجام والالتحام، لا يمكن معه فصل جزئياته، أو الاستغناء عن أحدها.