.
.
ثقافة استعدادهم للمطر قلّلت من خسائر الأرواح والممتلكات رغم تواضع إمكاناتهم


أجدادنا عرفوا « مجرى السيل» ولم يتعدوا عليه..!


«مرازيم» السيول تنزل بغزارة على الشارع العام في إحدى حواري الرياض القديمة

تعامل الأجداد في معظم أنحاء الجزيرة العربية مع السيول والأمطار بقدر كبير من السعادة والفرح والسرور، فالصحراء التي هي تاريخهم وتراثهم وحكاية آبائهم وأجدادهم، لا تكاد في معظم فصول السنة أن تحكي لهم عن زهورها ومروجها الغنّاء إلا بعد موسم الأمطار، الذي يحسن الجميع التعامل مع بروقه وصواعقه وأوديته وسيوله الجارفة.

وكانت الاحترازات المناخية والاستعدادات المستقبيلة لمواسم الأمطار والسيول تبدأ من حيث البيت والمسكن، الذي لم يكن -منذ تشييده- يخلو من ملاقيف الهواء، ومرازيم تصريف المياه التي تصب في "الحسو" أو تنساب إلى حيث المزارع والنخيل، في حين كانت الهندسة المعمارية للبيوت الطينية والحجرية تراعي -أكثر ما تراعي- في أسس البناء والتشييد مقاومة مياه السيول والأمطار الجارفة، لا سيما السحب التي لا ينقطع مطرها "الديمة" التي قابلها "الأستاد" أو المقاول -وإن شئت قل المهندس- بالأسقف المائلة والعوازل الحجرية والجلدية، التي تعد من جلود الماعز والأبقار والخيش، الذي يدهن بالزيوت المتوفرة، كما يراعى في ذلك متانة ونقاوة الأخشاب وجذوع النخل من التسوس والشقوق ومتانة الجدر الجانبية، كما كانوا يحرصون أثناء البناء أن يكون اللبن والطين المستخدم في الإعمار طيناً خالياً من المواد العضوية، ولذا فهم يختارون الطين البعيد عن القشرة الأرضية، بل إنهم يحتفظون ببقايا حفر الآبار لاستخدامها في البناء لكونها طيناً صلصالياً لزجاً خالياً من المواد العضوية والكائنات الدقيقة، كما كان لهم حيل في معالجة تقلصاته بعد جفافه، حيث تستخدم المواد المتجانسة كالقش والتبن التي تساعد على تماسك اللبن، ناهيك عن كون الطين يملك خاصية امتصاص رطوبة الهواء الزائدة وإعادتها عند جفاف الجو، ولذا فهو يحتفظ -وفق رأي المهندسين- بنسبة خمسين بالمائة، وهذا يؤمن مناخاً صحياً على مدار العام، كما يخزن الحرارة في ليالي الشتاء، هذا مع خاصية إمكانية تكرار استعماله لعدة مرات دونما أي تأثير على البيئة، ولذا كانوا يقصرون بناء بيوتهم ومنازلهم على الدور الأرضي؛ كي لا يحملون أعمدة الطين مالا تحتمل، كما كانوا يقدرون حين بناء الميازيب والمرازيم نزول الماء على قواعد منازلهم، فيلجأون إلى إطالتها كي يسقط الماء وسط الطرق والأزقة ويتجنبون الطرق الواسعة؛ لأنها في الغالب هي طرق المارة، خاصة في مثل هذه الأوقات، كما كانوا يحصنون أطراف منازلهم ودورهم بالأحجار والصخور التي تدار على قواعد وأطراف المنزل؛ كي تكون حصناً منيعاً لأساساته وتمنع من وصول ماء السيل وخراطيم الميازيب القصيرة التي تلقي بمائها على أسوار الدار، كذلك يراعون ارتفاع الأرض عند اختيار موقع المنزل وعلوه عن منسوب الشوارع المحيطة بها، ناهيك عن تأمين بعض القرى مسارات للسيل، يتجمع فيها أكبر مخزون ممكن من الثروة المائية وهو أمر مشاهد ومتكرر في كثير من المدن التي تم التنقيب عنها مؤخراً كمدينة الربذة ومدينة فيد والفاو.



سنة «الهدام» في نجد عام 1376ه

عموم الفرح
لم تكن هذه الحيطة والحذر في التعامل مع السيول لتطغى على فرحة الناس ببشائر الخير والبركة، فالفرح بمواسم المطر والاحتفال بقدومه كان مظهراً من المظاهر التي لا تغيب عن عامة الناس وخاصتهم لمَ لا؟، وهم الذين ينتظرونه طوال العام ليسقيهم ويسقي زرعهم وحلالهم ويبث في نفوسهم روح الفرح والسرور، ففيه -بإذن الله- حياتهم وحياة أراضيهم وماشيتهم، حتى إنهم يتباركون بحلوله ويهنئون بعضهم البعض مثل ما يفرحون بقدوم هلالي العيد ورمضان، بل كانوا يخرجون جماعات ويحرصون على صلاة الاستسقاء بقلوب مؤمنة بما عند الله، ولا أدل على ذلك إلاّ قصيدة "محسن الهزاني" الشهيرة التي قالها بعد أن صلى ببعض أبناء بلدته "الحريق" صلاة الاستسقاء وعاد إلى منزله وهو يقول:

دع لـذيــذ الكــرى وانـتـبــه ثـم صـل

واستـقـم في الـدجى وابتـهل ثـم قـل:

يـا مـجـيب الـدعا يا عـظـيـم الـجـلال

يــا لــطــيـف بـنــا دايـــم لــم يــــزل

ثم وصف الغيث وصفاً أخاذاً، وهو يقول:

واســــألـك غــــادي مــادي كـلـــمــا

لــج فـيه الـرعـد حـل فـيـنـا الـوجـل

وادق صــــادق غــــادق ضــاحــــك

بــاكي كـلــمـا ضحـك مــزنه هـطــل

اـلمـحـث الـمــرث الـمـحـن الـمـــرن

هــــامي ســــــامي داني مـــتـــصـل

بــه يحـط الحـصا بـالوطـا مـن عـلا

مـنـحي بــالـرفــا والـغـثــا بـالـشـلل

أسـألـك بـعـد ذا عــارض ســايـــــح

كـن بـه طــق مـثــنى سحـابـه طـبل

دايــــر حــايــــر عــــارض رايــــح

كـل مـن شـاف بـرقـه تخاطف جفـل

من سحـاب حقـوق صـدوق جـفـول

عــريــض مــريــــض وني عـجـــل

كـن مـزنــه إلى ما ارتــدم وارتـكــم

في مـثـاني السـدى دامـرات الـحـلل

نـاشي غـاشي سـداه فــوق الـسـها

كـن مـقـدم سحـابـه يجـرجـر عجـل

مـدهـش مـرهـش مـرعـش منـعـش

كـن بـه لـمـع هــنـد بـكــون تـســل

أدهــــم مـظــلـــم مــوجــف مـركــم

جــور مـايـه يعـم الـوعـر والسهـل

كل ما اخـتـفـق واصطـفـق واندفـق

استـهل وانتـهل وانــهـمـل الهــلـل

به يحـط الحـصى بالوطا من عـلاه

منـحي بـالـرفــا والغــثـــا بالـشـلل

حـين ما اسـتـوى وارـتوى واقتوى

استـقـل وانتـقـل واضمحـل الـمحـل

بعــد ذا آخــر مـا حـمى جــور مـاه

يشــيل الشجـر في مـسـيـل الـفحـل

كلـــمـا ازدجــر وانـدجــر وانـفـجـر

ماه حط الحجر في جــروف المحـل

ثم يصف "محسن الهزاني" مباهج الأرض بعد هطول الأمطار، وكيف أن الصحاري والبيد تصبح بأمر الله سبحانه مروجاً خضراء، وخمائل غنّاء، وهو يقول:

والفياض اخصبت والريـاض اعـشـبت

والـركـايــا ارعـجـت والمقـل اسـفـهـل

والـحـزوم اربـعـت والجــوازي سعــت

والطـيـور اسجـعـت فـوق زهـر النـفـل

كن وصف اختلاف الزهـر في الرياض

اخـتـــلاف الـفــرش والــزوالي تــفــل

بـعــد ذا عـــلـــه مــرهــــش قـــالـــط

بـبـاقي اربـع مـن " سـمـاك " العــزل

ثـــم بــــعــــد ذا لــــــه زلال بـــــدلال

ربـع شـهـر ســقى راسـيـات الـنـخــل

راســيـات الـمـثــاني طـوال الـحـظـور

مـنـصـلات الـمـقــادم جـــريـد مــظــل

حــيــثـــهـن الـذخــايـر إلى مــا بــقــا

بـالـدهــر مـا يـديــر الهـديـر الـجـمــل

تـغـتــني بـه رجـال بـوادي الـحـريــق

هــم قــروم كـــرام إلى جــاء الـمـحـل

مواسم الغيث
ولطيب مواسم الغيث والأمطار عند الأجداد، وحرصهم على مقارنة مواسم السيول عن بعضها البعض، فقد لجأ الرواة والمؤرخون والمعنيون بتدوين الأيام والأحداث، بتسمية السنوات وفقاً لمواسم الأمطار ومواسم الجدب، وعليه فكثيراً ما تسمع عن عام "ساحوت" أو "مويقة" أو "بوهان"، وكلها من أعوام الجدب والقحط، إلاّ أن أعوام الخير والرخاء كانت بفضل الله أكثر وأعم، فالأجداد ما زالوا ينقلون لنا قصصهم وقصص أجدادهم في سنوات: (صباب، الهدام، الغرفة، جبار، بعاج، الستعاوي، الزبيدي، سحبه)، وكلها كانت من مواسم الخير والبركة، التي ما زالت ذكرياتها محفوظة في قصص الأقدمين وقصائد الأولين.



تجمع مياه الأمطار بقي محدوداً لسرعة تصريفه إلى الوادي

محظورات السيول
لم تكن فرحة الأهالي بالمطر والربيع حينذاك لتنسيهم مخاطر السيول والأودية، حيث كان الجميع يستشرفون مواسم الغيث وهطول الأمطار، ويستشعرون خطر السيل فلا يتعدون على مجراه الطبيعي في الأرض، أو تحويله إلى مزارعهم، ولا رعي حين نزوله ولا حصاد، ولا سفر، بل حتى الزواجات ومناسبات الأفراح تؤجل في مثل هذه المواسم، وقلما يحدثنا التاريخ عن حروب ومعارك في جزيرة العرب دارت رحاها تحت زخات المطر والبرد، بل تجد الجميع يستبشرون بقطرات الغيث، ويسعون لتخزين مايمكن تخزينه من المياه الصافية النقية، عبر تنقية مساراتها نحو "القلبان" والآبار، وحفظ بعضها لسقيا "الحلال"، وما أن يُسمع صوت الرعد إلاّ وتجد المسافر يحتاط لذلك؛ فيلجأ -بعد طلب العون من الله تعالى- إلى التلال والهضاب العالية، كما يسارع الراعي في القفول بأغنامه، لا سيما إذا سالت الشعاب وفاضت الأودية واستمر المطر، فحينذاك يمكث الناس في منازلهم وغرفهم المعزولة بالحجر والبعيدة عن أشجار الأثل والنخيل والنباتات طويل الساق، التي يخشى في أوقات العواصف والأمطار سقوطها كما يراعي الجميع ذلك في بناء المساجد والدواوين العامة.


مجرى وادي حنيفة في الرياض قبل إعادة تأهيله

أفراح ومخاوف!
تظل فرحة مواسم المطر والأجواء الربيعية مصدر غبطة وسرور لدى كثير من الأهالي، وتحديداً أبناء وسط الجزيرة العربية التي تعتبر الصحراء منبع تراثهم واقتصادهم، بل إنهم يرون فيها حياة أجدادهم وأصالة أنسابهم وميثاق شرفهم واعتزازهم، لمَ لا؟، وهي ميدان مراحهم وساحة أفراحهم وأتراحم، التي ما أن تستقبل خيرات الله إلاّ وتحيا بعد موتها وتورق بعد جدبها؛ لتنبت في حقولها ومروجها "البكر" آيات من النباتات والثمار، ولا يقف ذلك عند أبناء البوادي والأرياف بل يتعداه إلى المدن العامرة، التي يرى أبناؤها في خيرات الله خلاصاً من دوامة الحياة المدنية، من خلال العودة إلى منابع الطبيعة البكر، وهناك حيث لا يسلم الجميع من الأخطاء والمخاطر المحدقة بالمتنزهات والبراري التي وللأسف يغامر في خوضها كثير من المتنزهين، رغم ضراوة التحذيرات والحملات التوعوية من مخاطر السيول وارتياد الأودية والشعاب، وهو ما يدفع البعض - للأسف - فاتورته في فقد بعض الأحباب والأصحاب، خاصة عند المغامرة بالنزول إلى الأودية والأراضي المنخفضة؛ بحثاً عن مقطع "يوتيوب" يمنح البعض دور البطولة، ناهيك عن ما تُظهره لنا مواسم الأمطار الغزيرة من مشاكل إنشائية وضعف في تنفيذ الطرق والمباني والبُنى التحتية التي هي من صنع بني الإنسان .



شارع الوزير في الرياض في بداية الثمانينيات حيث تجمع مياه الأمطار محدود



مياه السيول على مركز جلاجل شمال العاصمة الرياض في بداية التسعينيات الهجرية



وادي البطحاء وسط الرياض عام 1374ه تقريباً



بيوت الطين بقيت صامدة في وقت المطر رغم تواضع البناء



مجرى السيل يخترق كل عوامل الطبيعة ويتجه إلى نهاية مصبه في الوادي



سيول جدة في بداية الثمانينيات هجرية حيث كانت بعض الشوارع خالية من مجاري تصريف المياه