أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


الشيخ المحدّث العلامة شعيب الأرنؤوط وأثره في القواعد الحديثية/
القواعد الستة الأولى

المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد فإن من حق الشيخ على تلميذه - بعد إذ رباه بالعلم والفهم - أن يجله ويقدره، ويخدمه آناء الله وأطراف النهار، وأن يكون له كالولد للوالد، والخادم للسيد، كيف لا وهذا الشيخ له بعد الله كل منة، فإن الشيخ قد منَّ بعد الله عز وجل بالعلم، والفهم، والتسديد، والنصيحة لهذا التلميذ وكم أمضى هذا الشيخ مع تلميذه من وقته وعلمه وصبره وعقله ليجعل من هذا التلميذ عالماً، ومفكراً، وقاضياً، الشيء الكثير (فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وكيف لا يحسن التلميذ الذي يعرف لشيخه كل منة وحق ؟ بكل معاني الإحسان والإكرام، وبكل جميل جليل، فهو صاحب يد طولى، وصاحب كل جميل طوق به رقبة تلميذه، فعلى التلميذ النجيب أن يلازم شيخه محبة وصدقا وتعظيما وتوقيرا.
فلولا الله ثم الشيخ ما ذهب ولا جاء هذا التلميذ، ولا عُدَّ من أهل العلم، ولا في مصاف أهل التحقيق، فمن كان هذا صنيعه جزي بأجمل منه.
فكيف إذا كان هذا الشيخ مثل إمامنا وشيخنا العلامة النحرير الأصولي الفقيه المحدث أسد السنة شعيب بن محرم بن علي الأرنؤوط مهابة وعلماً، وورعاً، وتقي (ولا نزكيه على الله) وكيف أنه شملنا كلنا تلاميذه بكل رعاية وعناية ومحبة، يفرح لفرحنا، وينزعج لألمنا، ويرفع عنا - ما استطاع إلى ذلك سبيلاً - همومنا سواء كانت فكرية أو اجتماعية.
فلك يا شيخنا ويا أبانا أجزل الشكر وأعظمه، ونعترف لك بعد الله بكل منة لك في رقابنا، فلقد قلدت هذه الرقاب أطواقاً من المنن العلمية وغيرها ما لا تستطيع معها إلا الدعاء لك بطول العمر، وحسن العمل، فلولا الله ثم أنت ما رحنا ولا جئنا، ولا كنا من أهل التحقيق، ولا كتبنا مداداً على ورق،وكم من وقتكَ الثمين أعطيتني طوال ملازمتي لك ثلاث عشرة سنة رأيتُ فيها العلم والسمت والهدي على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن لا نملك إلا دعاءنا لك بأن يجزيك الله كل جميل، ويشملك بكل خير، ويمتعنا الله بعلمك ولا أعدمنا الله موجهاً وأباً وأستاذاً شيخنا.
ولدك وتلميذك:
عماد بن حسن المصري

القاعد ة الأولى:
كيفية نقده للحديث:
قال حفظه في (المسند 1: 145): وغير خاف على طلبة العلم الحذاق أن صحة السند وحدها لا تكفي لصحة المتن فإن جواز وقوع الخطأ من الثقة لا خلاف فيه، وهو جائز عقلاً وعادة، وواقع فعلاً وحقيقة، فقد ذكره الخطيب في (كفايته ص 144 - 155) عن الأئمة، سفيان الثوري، والشافعي، وشعبة، أنه إذا كان الغالب على الراوي الحفظ فهو حافظ، فإنه لا يكاد يفلت من الغلط أحد، ويقوى ذلك ويؤكد ما قال الترمذي، وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم. ولهذا اشترط في الحديث سلامته من الشذوذ والعلة، وهما يقعان في أحاديث الثقات. وقال حفظه الله: وقد قال أهل الفن: إن قول المحدث في حديث ما إسناده صحيح هو دون قولهم صحيح لأنه قد يصح السند ولا يصح المتن.
قال العلامة ابن القيم في (الفروسية ص 64): وقد عُلم أن صحة الإسناد من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحة الحديث فإن الحديث يصح بمجموع أمور منها ؛ صحة سنده (وانتفاء علته وعدم شذوذه ونكارته).



كيفية إدراكه للعلل حفظه الله ؟
قال حفظه الله في (المسند 1: 164): وتدرك العلة بتفرد الراوي أو بمخالفة غيره له مع قرائن تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم، وغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث أو يتردد أو يتوقف فيه. ولا يتفطن لعل الحديث ويكشف عنها إلا العالم بهذا الفن الماهر فيه الذي قضى معظم وقته في دراسة كتبه ومعرفة أقاويل أهل العلم الذين اختصوا به وصاروا أعلاماً فيه.

كيف تفاعل العلامة شعيب مع هذه القاعدة ؟
قال في (شرح مشكل الآثار 5: 111 حديث رقم 1862) من حديث ابن عباس الحمى من فيح جهنم فأبردوها بماء زمزم قال حفظه الله معلقاً على هذا الحديث: إسناده صحيح على شرط الشيخين إلا أن تقيد الماء بزمزم قد انفرد به همام [1] ولم يتابع عليه فهو من أوهامه في غالب ظني فإنه وإن احتج به الشيخان قد قال أبو حاتم في حفظه شيء وقال يحيى القطان لا يرضى حفظه والصواب رواية الجماعة فابردوها بالماء، ورواه البخاري (3261) من طريق همام به فقال فابردوها بالماء أو قال بماء زمزم شك همام وقال الحافظ في (الفتح 10: 186) وقد تعلق به من قال بأن ذكر ماء زمزم ليس قيداً لشك راويه ثم نقل حفظه الله عن ابن القيم قال ابن القيم قي (زاد المعاد 4: 29): وقوله بالماء فيه قولان: أحدهما أنه كل ماء وهو الصحيح، والثاني: أنه ماء زمزم، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال: أبردها عنك بماء زمزم فإن رسول الله قال: إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء، أو قال بماء زمزم.
وراوي هذا قد شك فيه ولو جزم به لكان أمراً لأهل مكة بماء زمزم إذ هم متيسر عندهم ولغيرهم بما عندهم من ماء. قال العلامة شعيب: وقد روى الحديث ابن حبان في (صحيحه 6068) من طريق عفان عن همام به بلفظ (فابردوها بماء زمزم) وقد فاتني أن أنبه على وهم همام هناك فليؤخذ من هنا.





القاعدة الثانية:
النقد عند المتقدمين كان للمتن مع عدم إغفال السند، وعند المتأخرين النقد للسند والاشتغال بكلام المتأخرين في الجرح والتعديل وإغفال المتن:
وقبل الدخول بنقل كلام المحدث الكبير في أطوار النقد الحديثي أقول: إن المحدث شعيباً الأرنؤوط قد استفاد من تعليل الحديث في كلام المتقدمين واستخدمه بطلاقة في مصنفاته وأبدع في ذلك، وذلك لوقوفه على كلام كثير من المعللين النقاد للنصوص، منهم: أبو حاتم، والدارقطني والترمذي، والبيهقي وغيرهم. أضرب مثلاً من (المسند 4: 356) عن حديث ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأيت ربي تعالى) قال: صحيح موقوفاً وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح وحماد بن سلمه وهو من رجال مسلم، قال ابن سعد في (الطبقات 7: 282): ثقة كثير الحديث وربما حدَّث بالحديث المنكر، وقال البيهقي في الخلافيات فيما نقله الحافظ الذهبي في (السير 7: 452): لما طعن في السن ساء حفظه فالاحتياط أن لا يُحتج به فيما يخالف الثقات، وقال الذهبي: كان بحراً من بحار العلم وله أوهام في سعة ما روى وهو صدوق حجة إنشاء الله وليس هو في الإتقان كحماد بن زيد. قلنا وفي هذا الحديث عند ابن عدي ومن طريقه البيهقي زيادة ألفاظ منكرة في صفة الرب تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً تمنع القول بصحته من هذا الطريق، وإنما صححنا وقف هذا الحرف الذي أورده المؤلف لاختلافهم في رفعه ووقفه، ولأنه ثبت عن ابن عباس من قوله من غير طريق أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه أولاً.

النقد الحديثي بين المتقدمين والمتأخرين:
لقد شاع بين الناس أن النقد الحديثي يقوم على الإسناد والنظر قيما قرره النقاد الجهابذة من أحوال الرواة جرحاً أو تعديلاً وهو أمر يحتاج إلى دراسة وإيضاح فالنقد الحديثي فيما نرى مر بمراحل متعددة:

المرحلة الأولى: وتقوم على نقد المتون وعلى أساسها تم الكلام في الرواة جرحاً أو تعديلاً، وهي مرحلة تمتد من عصر الصحابة حتى نهاية النصف الأول من القرن الثاني الهجري، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يرد بعضهم على بعض حين يستمعون إلى متون الأحاديث المروية والأحكام المتصلة بها، فترد عائشة مثلاً على أبي هريرة، وابن عمر وأبيه، ويرد عمر على عائشة وعلى فاطمة بنت قيس وهلم جراً، ويظهر ذلك من العديد من الأحاديث التي ساقاها البخاري ومسلم في (صحيحيهما).

المرحلة الثانية: وهو طور التبويب والتنظيم وجميع أحاديث كل محدث والحكم عليه من خلال دراستها، ويتبدى ذلك في الأحكام التي أصدرها علي ابن المدني، ويحيى ابن معين، وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان، والبخاري، ومسلم، وأبو داود واضرابهما.
وغير أنه يخالجنا شك أن بعض العلماء المتقدمين قد تكلموا في الرجال جرحاً أو تعديلاً لمعاصرتهم لهم أو اجتماعهم بهم مثل مالك بن أنس، والسفيانين، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، والأوزاعي، ووكيع بن الجراح، وأن الطبقة التي تلت هؤلاء تكلموا في الرواة الذين أخذوا عنهم واتصلوا بهم، لكن كيف نفسر كلام كبار علماء الجرح والتعديل ممن عاشوا في المائة الثالثة في رواة لم يلحقوهم من التابعين ومن بعدهم، ولم يؤثروا للمتقدمين فيهم جرحاً أو تعديلاً، فندعي أنهم اعتمدوا أقوال من سبقهم في الحكم عليهم بيان ذلك في الأمثلة التالية الموضحة.
قال ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن إبراهيم الحلبي [2]: (سئلت أبي عنه وعرضت عليه حديثه فقال لا أعرفه، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول، يدل حديثه على أنه كذاب) وقال في ترجمة أحمد بن المنذر بن الجارود القزاز [3] : (سألت أبي عنه فقال: لا أعرفه وعرضت عليه حديثه فقال حديث صحيح).
وقال أبو عبيد الآجري في مسلمة بن محمد الثقفي البصري [4]: (سألت أبا داود عنه قلت قال يحيى يعني (ابن معين) ليس بشيء) قال حدثنا عنه مسدد أحاديثه مستقيمة. قلت حدث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة إياكم والزنج فإنهم خلق مشود قال من حدث بهذا فاتهمه [5] ! فهذه الأمثلة الثلاثة واضحة الدلالة على أن أبا حاتم الرازي وأبا داود لم يعرفا هؤلاء الرواة إلا عن طريق تفتيش حديثهم المجموع وأنهما أصدرا أحكامهما استناداً إلى ذلك.
ومثل ذلك قول البخاري (ت 256) في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي المدني (83: 165) منكر الحديث وقول أبي حاتم الرازي (ت 5277) فيه شيخ ليس بقوي يكتب حديثه، ولا يحتج به منكر الحديث وقول النسائي (ت 5303) فيه ضعيف فهؤلاء العلماء الثلاثة لم يدركوه ولا عرفوه عن قرب ولا نقلوا عن شيوخهم أو آخرين ما يفيد ذلك فكيف تم لهم الحصول على هذه النتائج والأقوال ؟ واضح أنهم جمعوا حديثه ودرسوه واصدروا أحكامهم اعتماداً على هذه الدراسة، وحينما يذكر المتقدمون أن النقد إنما يقوم على العلماء الجهابذة فليس معنى ذلك أنه يقوم على دراسة الإسناد: يقول ابن أبي حاتم [6]: (فإن قيل فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والسقيمة) ؟ قيل بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر وزمان ثم قال: قيل لابن المبارك: وهذه الأحاديث المصنوعة ؟ قال يعيش لها الجهابذة ولعل الرواية الآتية أبين دليل على أن العلماء الذين تمرسوا بهذا العلم في هذه المرحلة إنما كانوا ينقدون المتون أكثر من نقدهم الأسانيد قال أبو حاتم الرازي [7]: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه علي، فقلت: في بعضها هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه هذا حديث باطل، وقلت في بعضه هذا حديث منكر، وقلت في بعضه هذا حديث كذب وسائر ذلك أحاديث صحاح، فقال: من أين علمت أن هذا خطأ ؟ وأن هذا باطل ؟ وأن هذا كاذب ؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا ؟ فقلت: لا ما أدري هذا الجزء من رواية من هو، غير أني أعلم أن هذا خطأ وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب، قال قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول ؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت إنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن ؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت ! قلت: نعم، قال: هذا عجب فأخذ فكتب في كاغدٍ ألفاظي في تلك الأحاديث ثم رجع إلي وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة، في تلك الأحاديث فما قلت: إنه باطل قال أبو زرعة هو كذب. قلت الكذب والباطل واحد، وما قلت أنه كذب قال أبو زرعة هو باطل وما قلت أنه منكر قال هو منكر كما قلت، وما قلت أنه صحاح قال أبو زرعة هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا تتفقان من غير مواطاة فيما بينكما فقلت: فقد تبين لك إنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا والدليل على صحة ما نقول بأن ديناراً نبهرجاً يحمل إلى الناقد فيقول هذا دينار بنهرج ويقول لدينار هو جيد فإن قيل له من أين قلت أن هذا نبهرج ؟ هل كنت حاضراً حين بهرج ؟ قال: لا، فإن قيل له فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار ؟ قال: لا، قيل فمن أين قلت أن هذا نبهرج ؟ قال: علماً رزقت. وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك قلت له فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين، فيقول هذا زجاج، ويقول لمثله هذا ياقوت، فإن قيل له من أين علمت أن هذا زجاج وأن هذا ياقوت ؟ هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج ؟ قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً قال: لا، قال: فمن أين علمت ؟ قال: هذا علم رزقت، وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهبأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كذب وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه.
وهذه المرحلة هي المرحلة الأكثر أهمية في تاريخ الجرح والتعديل وهي التي ينبغي أن تتبع اليوم لا سيما في المختلف فيهم ن إذ يتعين جمع حديثهم، ودراسته من عدة أوجه:
أولها: أن ينظر في الراوي إن كان له متابع على روايته ممن هو بدرجته، أو أكثر اتفاقاً منه.
والثاني: أن يعرض حديثه على المتون الصحيحة التي هي بمترلة قواعد كلية، وهي القرآن الكريم وما ثبت من الحديث، فإن وافقها اعتبرت شواهد لها يتقوا بها، أما الشواهد الضعيفة فلا غيرة بها.

المرحلة الثالثة: الجمع بين أقوال المتقدمين في الرواة وبين جمع حديث الراوي وسبره وإصدار الحكم عليه، كما نراه واضحاً عند علماء القرن الرابع الهجري مثل ابن حبان (345 هـ) وابن عدي الجرجاني (ت 365 هـ) والدراقطني (385 هـ) ولعل أبرز من يمثل هذه المرحلة هو ابن عدي في كتابه (الكامل في ضعفاء الرجال) كان ابن عدي يعتمد أقوال المتقدمين , فيوردها عادة في صدر الترجمة , ثم يفتش حديث الرجل وهذا يقتضي أن يجمع حديثه ويسوق منه أحاديثه المنكرة , أو ما أنكر عليه أو الأحاديث التي ضعف من أجلها فيدرسها ويبين طرقها إن كانت لها طرق أخرى ويصدر حكما في نهاية الترجمة ويبين فيها نتيجة دراسته هذه ويعبر عن ذلك بأقوال دالة نحو قوله (لم أجد له حديثا منكر , أو لا أعرف له حديثا إلا دون عشرة) أو هذه الأحاديث التي ذكرتها أنكر ما رأيت له ونحو ذلك من الأقوال والأحكام التي تشير إلى أن الأساس فيه الحكم على شخص جرحاً أو تعديلاً هي الأسانيد التي ساقها , و المتون التي رواها لا ما قاله أهل الجرح والتعديل فقط. وقد دفعه هذا المنهج إلى أيراد رجال لم يتكلم فيهم أحد , لكنه وجد لهم أحاديث استنكرت عليهم لمخالفتها ما هو معروف متداول من الأسانيد والمتون , وهو ما يعبر عنه بعدم متابعة الناس له عليها , أو أنها غير محفوظة نحو قوله في ترجمته سعد بن سعيد [8] بن أبي سعيد المقبري بعد أن ساق له جملة الأحاديث غير محفوظة (ولسعد غير ما ذكرت وعامة ما يرويه غير محفوظ ولم أرى للمتقدمين فيه كلاما إلا أني ذكرته لأبين أن رويته عن أخيه عن أبيه عن أبي هريرة عامتها لا يتابعه أحد عليها) وقضية سعد هذا بينها ابن حبان في (المجروحين) بشكل أوضح[9], فقال: يروى عن أخيه وأبيه عن جده صحيفة لا تشبه حديث أبي هريرة , يتخايل إلى المستمع لها أنها موضوعة أو مقلوبة أو موهومة لا يحل الاحتجاج بخبره.

المرحلة الرابعة: التأكيد على نقد السند استنادا إلى أقوال أئمة الجرح والتعديل بعد جمعهم لها والموازنة بينها , ووضع القواعد الخاصة بهذا الأمر مما ظهر في كتب المصطلح , فصححوا الأحاديث التي أتصل إسنادها برواية الثقات العدول , وخلت من الشذوذ والعلة , وحسّنوا الأحاديث التي اتصلت إسنادها وأختلف النقاد في واحد أو أكثر من رواتها , وضعفوا الأحاديث التي لم تتصل أسانيدها أو ضعف واحد أو أكثر من رواتها , وعلى اختلاف بينهم , بين متشدد ومتساهل بحسب مناهجهم التي ارتضوها , وما أدى إليه اجتهادهم , وقد ظهر هذا الاتجاه منذ عصر أبي عبدالله الحاكم النيسابوري (ت 405) وإلى عصور متأخرة.

المرحلة الخامسة: وهي المرحلة التي سادت بين أوساط المشتغلين بهذا العلم - على قلتهم في العصور المتأخرة وإلى يوم الناس هذا.
وهي التي تعتمد أقوال المتأخرين في نقد الرجال ولا سيما الأحكام التي صاغها الحافظ ابن حجر في (التقريب) حيث صار دستورا للمشتغلين في هذا العلم فيحكمون على أسانيد الأحاديث استناداً إليه ولا يرجعون في الأغلب الأعم - إلى أقوال المتقدمين ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يعتمدون تصحيح أو تضعيف المتأخرين للأحاديث , مثل الحاكم , والمنذري , وابن صلاح , والنووي , والذهبي , وابن كثير , والعراقي , وابن حجر , وغيرهم ,, مع أن هؤلاء لم ينهجوا منهج المتقدمين في معرفة حال الراوي من خلال مروياته وإنما اعتمدوا أقوال المتقدمين في نقد الحديث.

القاعدة الثالثة:
قواعد المصطلح والحكم على الرواة اجتهادية:
يرى حفظه الله أن القواعد الحديثة التي وضعها مؤلفوا كتب الحديث اجتهادية، منها ما هو مبني على استقراء تام، ومنها وهو أغلبها ما هو مبني على استقراء غير تام، فقال في (تحرير التقريب 1: 25): وكذلك الحكم على الرواة في الغالب لم يُبن على الاستقراء التام، فالأحكام الصادرة عن الأئمة النقاد تختلف باختلاف ثقافاتهم وقدراتهم العلمية والذهنية والمؤثرات التي أحاطت بهم، وبحسب ما تراءى لهم من حال الراوي تبعاً لمعرفتهم بأحاديثه ونقدهم مروياته، وتبينهم فيه قوة العدالة أو الضبط أو الضعف فيهما، وقد رأينا منهم من ضعف محدثاً بسبب غلط [10] يسير وقع فيه لا وزن له بجانب العدد الكثير من الأحاديث الصحيحة التي رواها، ووجدنا منهم من يوثق محدثاً على الرغم من كثرة أوهامه وأخطائه قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب سبل السلام في رسالته (إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد) قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد وفي الحديث الواحد فيضعف هذا حديثاً وهذا يصححه، ويرمي هذا رجلاً من الرواة بالجرح وآخر يعدله، وذلك مما يشعر أن التصحيح ونحوه من مسائل الاجتهاد التي اختلفت فيه الآراء.

كيف طبق هذه القاعدة حفظه الله ؟
وكغيره من المحدثين ممن سبقوه أو في عصره فلقد نظر وسبر أقوال من سبقه في الراوي ووازن بين آرائهم وسبر أحاديث الراوي فأطلق عليه ما رآه مناسباً من ألفاظ التوثيق والتجريح، دون عصبية أو هوى أو تقديم المذهب، مثال ذلك قال في (التقريب 2518): سلمه الليثي مولاهم المدني لين الحديث من الثالثة د. ق. قال في التحرير: وهو مجهول تفرد بالرواية عنه ابنه يعقوب بن سلمة وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. وقال: الذهبي لا يعرف.
قلت عماد: فكانت نتيجة القاعدة منطبقة مع مقدمتها فالمحدث حفظه الله نظر فوجد ما يلي:
1. ليس لهذا الراوي راو غير ابنه يعقوب.

2. له من الحديث حديث واحد، حتى هذا الحديث الواحد الذي رواه له أبو داود وابن ماجة أخطأ فيه، كما قال ابن حبان وقال الذهبي لا يعرف. فاستقراء المحدث حفظه الله كان سليماً، متماشياً مع القواعد الصحيحة، فلم يوثق هذا الراوي، بل لم يوافق الحافظ على حكمه بقوله لين (أي حيث يتابع) لأنه ليس له متابع يخرجه عن كونه ضعيفاً، وليس له روايات متعددة تسبر لنستطيع من خلالها إعطاءه توثيقاً معتبراً، ونقل حفظه الله عن الحافظ المنذري في جوابه عن أسئلة في (الجرح والتعديل ص 83): واختلاف المحدثين في الجرح والتعديل كاختلاف الفقهاء، كل ذلك يقتضيه الاجتهاد، فإن الحاكم إذا شُهد عنده بجرح شخص اجتهد في أن ذلك القدر مؤثر أم لا ؟ وكذلك المحدث إذا أراد الاحتجاج بحديث شخص، ونقل إليه فيه جرح، اجتهد فيه هل هو مؤثر أم لا ؟ ويجري الكلام عنده فيما يكون جرحاً في تفسير الجرح وعدمه. وفي اشتراط العدد في ذلك كما يجري عند الفقيه. ومن ثم جاءت ألفاظهم في الحكم على الراوي متفقة حيناً ومختلفة حيناً آخر تبعاً لاختلاف اجتهادهم في الحكم على الراوي.


القاعدة الرابعة:
هل رواية العدل الثقة تعد توثيقاً للمروي عنه ؟
يرى شيخنا حفظه الله أن رواية العدل الثقة عن المروي عنه يُعدُّ توثيقاً على الأعم الأغلب، فيمن عرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة كمالك، وأبي داود.
فقال: يرى بعض من ينتحل صناعة الحديث أن رواية العدل الثقة عن غيره يعد توثيقاً له، وحجته: إن العدل لو كان يعلم فيه جرحاً لذكره.
قال الخطيب في (الكفاية ص 89): وهذا مذهب باطل، لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، فلا يكون روايته عنه تعديلاً، ولا خبراً عن صدقه، بل يروي عنه لأغراض يقصدها.
كيف وقد وجد جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية، وبفساد الآراء والمذاهب.
وقال الإمام الغزالي في (المستصفي 1: 163): إذا روى العدل الثقة عن غيره هل ذلك تعديل ؟ على روايتين، والصحيح أنه إن عرف من عادته أو تصريح قوله: أنه لا يستجيز الرواية إلا عن العدل، كانت الرواية حينئذ تعديلاً له، وإلا فلا، إذ من عادة أكثر المحدثين الرواية عن كل من سمعوا منه، ولو كلفوا الثناء عليه، لسكتوا وما فعلوا، فليس في مجرد الرواية عن الراوي دون التزام عادة أو شرط فيها، تصريح بالتعديل له أو التزام بذلك.
فإن قيل: لو عرفه بالفسق، ثم روى عنه كان غاشاً في الدين. قلنا: هو لم يوجب على غيره العمل بروايته، بل قيل: سمعت فلاناً قال كذا، وقد صدق فيها، ثم لعله لم يعرفه بفسق ولا عدالة، فروى عنه، ووكل البحث إلى من أراد قبول خبره.
قلنا: واستثناء الغزالي من عرف من عادته أو حاله أنه لا يروى إلا عن ثقة، ليس على إطلاقه، وإنما هو في الأعم الأغلب، فقد روى هؤلاء الذين قيل فيهم ذلك عن بعض الضعفاء والواهيين.
فقد روى شعبة عن سيف بن وهب التميمي، ومحمد بن عبدالله العرزمي، وإبراهيم بن مسلم الهجري، وجابر بن يزيد الجعفي، وغير واحد ممن يضعفون في الحديث. ويحيى بن سعيد القطان، وهو المعروف بتشدده في الرجال روى عن قوم ضعفاء، ومالك بن أنس روى عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، وهو ضعيف.
وروى أحمد عن نصر بن باب الخرساني المروزي وهو متروك، وعن مؤمل بن إسماعيل، وعمرو بن مجمع السكوني وكلاهما ضعيف، وعن محمد بن قاسم الأسدي، وهو ضعيف جداً، وبعضهم اتهمه، ويستثنى من ذلك: أبو داود السجستاني صاحب السنن، فإنه قد عرف بالاستقراء أنه لا يروي في السنن خاصة إلا عن من هو ثقة.



القاعدة الخامسة:
هل مجرد تخريج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث أي راوٍ توثيق منهما ؟
قال شيخنا حفظه الله في (التحرير 1: 28): قال ابن حجر في (هدى الساري 2): ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ كان، مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولا سيما ما أنضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهم بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما، هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إذا خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعناً، فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسراً بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي.
وفي ضبطه مطلقاً، أو في ضبطه لخبر بعينه، لأن الأسباب الحاملة للأمة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح، ومنها ما لا يقدح وقد كان الشيخ أو الحسين المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: هذا جار القنطرة، يعني بذلك أن لا يلتفت إلى ما قيل فيه، قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره: وهكذا نعتقد وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة، وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمنا من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما.
قلت (القائل ابن حجر): لا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح، لأن أسباب الجرح مختلفة، ومدارها على خمسة أشياء: البدعة، أو المخالفة، أو الغلط، أو جهالة الحال، أو دعوى الانقطاع في السند. بأن يدعي في الرواية أنه كان يدلس أو يرسل.
ثم بين الحافظ ابن حجر هذه الأسباب فيما يتصل بصحيح البخاري ودافع عنه، وقد قيل ذلك عن (صحيح مسلم) أيضاً، لأنهما اشترطا الصحة فيه، فإنه لا فرق بين أن يقول المحدث: هذا حديث صحيح، وبين أن يقول عن فلان: هذا ثقة.

كيف طبق شيخنا حفظه الله القاعدة ؟
قال مستخلصاً من كلام الحافظ ما يلي:
1. إن كل من روى عنه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) واحتجا به في الحلال والحرام والأصول، فهو ثقة عندهما.

2. أنهما انتقيا من رواية بعض المتكلم فيهم أحاديث يعلمان أنهم قد حفظوها، وهي غالباً في غير الحلال والحرام، كالتفسير والمغازي والأدب والرقائق الفضائل.

3. إنهما لم يلتزما الشروط المعتبرة في الثقة فيما خرجاه من الأحاديث في المتابعات والشواهد.

4. أنهما لم يلتزما ذلك في التعليق.

ويتعين اعتبار هذه الأمور عند الحكم على كل راو ممن أخرج له الشيخان في صحيحيهما أو أحدهما، وبه أخذنا في (تحرير أحكام التقريب).












القاعدة السادسة:
الجرح بسبب المخالفة:
الجرح بسبب المخالفة في العقائد، وهو ما يعرف عند أهل السنة بالبدعة غير المكفِّرة، كالخوارج، والشيعة، والقدرية، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والواقفية ونحوهم، قال الحافظ ابن حجر في (نزهة النظر شرح نخبة الفِكر): والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته لأن كل طائفة تدعى أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها، فلو أخذ ذلك على الإطلاق، لاستلزم تكفير جميع الطوائف فالمعتمد أن الذي ترد روايته: من أنكر أمراً متواتراً من الشرع، معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله.
وقال في (هدى الساري): وإما البدعة فالموصوف، بها إما أن يكون ممن يكفر بها أو يفسق فالمكفر بها لا بد أن يكون ذلك التفكير متفقاً عليه من قواعد جميع الأئمة، كما في غلاة الروافض من دعوى بعضهم حلول الإلهية في عَليِّ أو غيره أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة أو غير ذلك..... والمفسق بها كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون ذاك الغلو، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافاً ظاهراً لكنه مستند إلى تأويل ظاهره سائغ. فقد اختلف أهل السنة في قبول حديث من هذا سبيله إذا كان معروفاً بالتحرز من الكذب مشهوراً بالسلامة من خوارم المروءة، موضوعاً بالديانة والعادة، فقيل: يقبل مطلقاً، وقيل: يرد مطلقاً، والثالث: التفصيل بين أن يكون داعية أو غير داعية، فيقبل غير الداعية، ويرد حديث الداعية، وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة، وادعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه، لكن في دعوى ذلك نظر.
ثم اختلف القائلون في هذا التفصيل فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم زاده تفصيلاً، فقال: إن اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيد بدعته ويزينه ويحسنه ظاهراً، فلا تقبل، وإن لم تشتمل فتقبل. وطرد بعضهم هذا التفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال: إن اشتملت روايته على ما يرد بدعته قبل، وإلا فلا.
وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدع، سواء كان داعية أم لم يكن على ما لا تعلق له ببدعته، وإطفاء لناره، وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرره من الكذب، واشتهاره بالدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته، فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث، ونشر تلك السنة على مصلحة أهانته، وإطفاء بدعته، والله أعلم.
أما المتقدمون، فوجدنا أكثرهم لا يعد ببدعة الراوي إن كان صادقاً أميناً، فقد أخرج الشيخان في (صحيحيهما) عن كثير ممن رمي بالبدعة، كالخوارج، والشيعة، والقدرية ونحوهم، ومنهم من كان داعية لمذهبه.
وكان كثير من جهابذة الجرح والتعديل يوثق الراوي مع ذكر بدعته إشارة منه إلى أن بدعته لا تؤثر في وثاقته وصحة روايته، فقد سئل يحيى بن معين عن سعيد بن خثيم الكوفي، فقال: كوفي ليس به بأس، ثقة. فقيل ليحيى: شيعي ؟ فقال: وشيعي ثقة، وقدري ثقة. وقال في الحارث بن حصيرة الأزدي أبي النعمان الكوفي: خشبي ثقة، وقال أبو داود: شيعي صدوق.
والحارث هذا قال فيه ابن عدي: وهو أحد من يعد من المحترقين في الكوفة في التشيع ! وكان عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي شيعياً جلداً، ومع ذلك فقد كان ابن خزيمة يقول: حدثنا الثقة في روايته، المتهم في دينه عباد بن يعقوب ! ووثقه أبو حاتم الرازي، وقال الدارقطني: شيعي صدوق. وكان يعقوب هذا كما قال ابن عدي: فيه غلو في التشيع.
ومن الأمثلة القوية على عدم اعتبار السلف المتقدمين للعقائد في توثيق الرواة هو عبد الرحمن بن صالح الأزدي العتكي، فقد ذكر عنه أنه كان يروي أحاديث سوء في مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، وهو شيعي محترق كما قال ابن عدي، ومع كل ذلك فقد قيل لأحمد: إنه رافضي، فقال أحمد: سبحان الله، رجل أحب قوماً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم نقول له: لا تحبهم ؟ هو ثقة. وقال ابن معين: ثقة صدوق شيعي، لأن من يخر من السماء أحب إليه من أن يكذب في نصف حرف. وقال موسى بن هارون: كان ثقة، وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فإذا كان الأمر في هذا الشيعي المحترق، الغالي في شيعته، فما بالك بمن رمي بشيء يسير منه، كالأعمش، وعبد الرزاق، والحسن بن صالح بن حي وإضرابهم من ثقات المحدثين ؟
ولا نعلم في النقاد أكثر تشدداً من يحيى بن سعيد القطان، وهو يقول في ترجمة عباد بن منصور الناجي البصري الذي اتهم بالقدر: عباد بن منصور ثقة، ولا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه، يعني القدر .
وكان حريز بن عثمان ناصبياً محترقاً، وقال عمرو بن علي: كان ينتقص علياً وينال منه، كان حافظاً لحديثه، وقال في موضع آخر: ثبت شديد التحامل على علي، ووثقه جمهور الأئمة، وأخرج له الشيخان في (صحيحيهما) وقال الذهبي في (الميزان): كان متقناً ثبتاً، ولكنه مبتدع، وقال في (الكاشف): ثقة وهو ناصبي، وقال في (الديوان): ثقة لكنه ناصبي مبغض.

كيف يتفاعل شيخنا مع القاعدة ؟

وكما نقلنا لك أخي المسلم قول المحدث في التحرير والتفصيل فيه، إليك نصاً عزيزاً رائعاً، هو خلاصة تفكير الشيخ وتجربته الكبيرة وسبره لأقوال النقاد من أهل الفن المحققين ممن سبقوه، مما يدلك على غزارة علمه، وسعة إطلاعه، واتساع عطن تفكيره، فهو فقيه المحدثين في هذا العصر.
يقول حفظه الله في (شرح السنة 1: 249) بعدما نقل قول ابن حبان في (الثقات) قال: فالحق في هذه المسألة كما قال العلامة محمد بخيت المطيعي في حاشيته على (نهاية السول 3: 544) قبول رواية كل من كان من أهل القبلة يصلي بصلاتنا، ويؤمن بكل ما جاء به رسولنا مطلقاً حتى كان يقول بحرمة الكذب، فإن من كان كذلك لا يمكن أن يبتدع بدعة إلا وهو متأول فيها، مستند في القول بها إلى كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأول رآه باجتهاده , وكل مجتهد مأجور , وإن أخطأ , نعم إذا كان ينكر أمراً متوتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة أو أعتقد عكسه كان كافراً قطعاً لأن ذلك ليس محلاً للاجتهاد , بل هو مكابرة فيما هو متواتر من الشريعة , معلوم من الدين بالضرورة فيكون كافراً مجاهراً فلا يقبل مطلقاً أحرم الكذب أم لم يحرمه.

حفظ الله شيخنا الإمام المحدث أسد السنة أبا أسامة شعيب بن محرم الأرنؤوط , ومتعنا الله بعلمه , وأبقاه سنداً وذخراً وناصراً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وقامعاً لرؤوس أهل البدع والضلالة.

وإلى القاعدة السابعة في المقال القادم.

والحمد لله رب العالمين

[1]. قلت (عماد): وحديث همام المنفرد بهذه اللفظة عند أحمد في المسند (1: 192) والحاكم في المستدرك (4: 223) والطبراني في الكبير (12: 229) وأبو يعلى في مسنده (5: 118) وابن أبي شيبة في مصنفه (23672) والنسائي في الكبرى (4: 380) دون هذا التردد، من طريق عفان ثنا همام به قاله الحافظ في الفتح (10: 176).

[2]. الجرح والتعديل (2: 40) (ت 5).

[3]. الجرح والتعديل (2: 78) (ت 170).

[4]. تهذيب الكمال (27: 573).

[5]. حديث موضوع: أخرجه الدارقطني في السنن (3: 299) ولم ينفرد به مسلمة بل تابعه أبو أمية بن يعلى وهو ممن يتفرد بالمعضلات عن الثقات حتى إذا سمعها من العلم مناعته لم يشك أنها موضوعة لا يحل الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للخواص من الاعتبار. أنظر المجروحين لابن حبان (1258).

[6]. الجرح والتعديل (1: 2).

[7]. الجرح والتعديل (1: 349).

[8]. الكامل في الضعفاء (3: 354).

[9]. المجروحين (1: 357).

[10]. بل تعداه إلى ترك حديث إمام الدنيا بلا منازع، وسيد الحفاظ وذلك في مسألة اللفظ (وهو الإمام محمد بن إسماعيل البخاري) والتارك لحديثه هما أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان كما في الجرح والتعديل (7: 191).
ومسألة اللفظ هي قوله (لفظي بالقرآن مخلوق) وهذه المقالة منسوبة زوراً وبهتاناً على البخاري رحمه الله فلقد كذبها بنفسه كما في اعتقاد أهل السنة للالكائي بسند صحيح عن أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري الخفاف ببخاري فيقول: كنا يوماً عند أبي إسحاق القرشي ومعنا محمد بن نصر المروزي فجرى ذكر محمد بن إسماعيل فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كاذب فإني لم أقله، فقلت له: يا أبا عبدالله فقد خاض الناس في هذا واكثروا فيه، فقال: ليس إلا ما أقول وأحكي لك عنه. قال أبو عمرو الخفاف فأتيت محمد بن إسماعيل فناظرته في شيء من الحديث حتى طابت نفسه فقلت له: يا أبا عبدالله هاهنا رجل يحكي عنك أنت قلت هذه المقالة، فقال لي: يا أبا عمرو احفظ ما أقول: من زعم من أهل نيسابور، وقومس، والري، وهمذان، وحلوان، وبغداد، والكوفة، والمدينة، ومكة، والبصرة، أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كاذب، فإني لم أقل هذه المقالة إلا إني قلت: أفعال العباد مخلوقة.
قلت عماد: فمن ذا الذي جرأ على الكبش النطاح ؟ ووصفه بهذه المقالة الشنعاء الصلعاء ؟ إن هي إلا مقالة محمد بن يحيى الذهلي، والله إن البخاري لأعلم من محمد بن يحيى، وأبي زرعة، وأبي حاتم، سئل أبو عبدالله بن الأخرم عن حديث فقال: إن البخاري لم يخرجه فقال السائل: قد خرجه مسلم فقال أبو عبدالله: إن البخاري كان أعلم من مسلم، ومنك، ومني، وقال الفضل بن عباس: رجعت مع محمد بن إسماعيل مرحلة وجهدت الجهد على أن أجيء بحديث لا يعرفه فما أمكني وأنا أغرب على أبي زرعة عدد شعر رأسه.
قلت عماد: فأنّى لأبي حاتم، وأبي زرعة، وإسحاق، ومحمد بن يحيى، وغيرهم مناطحة هذا الكبش (أنظر ذلك كله في تهذيب التهذيب (9: 6) . فسبحان الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) (حديث صحيح، أخرجه ابن حبان في صحيحه نسخه شيخي شعيب بن محرم (13: 73) برقم (5761) والبخاري في الأدب المفرد (1: 207) وقال العلامة الألباني صحيح مرفوعاً، والقضاعي في مسنده (1: 256) وصححه الشيخ ناصر أيضاً مرفوعاً كما في الترغيب (2331).