أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم
قراءة في التجربة الإسلامية الإيرانية
محمد توفيق
ارتكزت التجربة الإسلامية الإيرانية المعاصرة في الأساس على قواعد المذهب الشيعي الاثني عشري، ومعلوم هو المنطلق السياسي -عقيدة الإمامة- الذي تمايز به المذهب الشيعي عن الخط العام لجمهور مذاهب المسلمين، حيث مثلت قضية الإمامة الركن الأساسي والأول من ثوابت العقائد الشيعية، وكانت حوادث مقتل عثمان وعلي والحسين -رضي الله عنهم- هي الشرارة التي قامت على إثرها نبتة هذه العقيدة.
وإذا سلمنا بهذه المقدمة، فإننا من خلالها نحاول أن نثبت فرضية تتعلق ببنية التجربة الإسلامية الإيرانية المعاصرة، ألا وهي: أن الأساس السياسي/الأيديولوجي "المقدس" الذي قام عليه المذهب وكذا التجربة قد أكسب الثانية منعة وثباتًا -نسبيين - وركيزة قوية أطالت من عمر التجربة وزادت من تماسكها، ولكن كان ذلك على حساب نوعية التأثير الديني في وجدان وحياة الناس.
تمثل نظرية "ولاية الفقيه" الخصوصية التي تميز النظام السياسي الإيراني عن غيره من النظم السياسية في العالم، وبالتالي فواقع إيران السياسي الحالي يتأثر بعوامل كثيرة ومتشابكة، تأتي نظرية "ولاية الفقيه" في مقدمتها؛ وفضلًا عن ذلك تعد "ولاية الفقيه" من وجه آخر القطب الذي تدور عليه دوائر الصراع الأيديولوجي المحتدم في إيران بين الموالين والمعارضين لها، ومن وجه ثالث تعد "ولاية الفقيه" آخر الأشكال التي طورها الإسلام السياسي الشيعي الساعي للوصول إلى السلطة.
"ولاية الفقيه" إذن حمالة أوجه، وهي لذلك لا تعدم وجوهًا أخرى إضافية، من حيث كونها أيضًا استحضارًا لا يتوقف للمظلومية التاريخية التي مر بها الشيعة -حسب ما يعتقدون- على مدار التاريخ، كما أنها تجسد -حسب مؤيديها- الثأر التاريخي للشيعة أتباع نهج آل البيت من مضطهديهم، ووصولهم لإقامة دولة الشيعة الإثني عشرية لأول مرة في التاريخ، وبذلك تصير النظرية التي طورها الخميني امتدادًا فكريًّا وسياسيًّا لعقيدة الإمامة، وتطبيقًا عمليًّا للمسلك التأويلي -التأويل الباطني تحديدًا- الذي اتخذه فقهاء الشيعة مطية لتجاوز كل ما يطرأ على فقههم وفتاويهم من تعارضات.
ومن ثم يصبح الفقيه المناب بأمر الله -حسب زعمهم- للقيام بأمر الدين ومصالحه وتطبيق شرائع الإسلام وأحكامه له الولاية المطلقة على المسلمين، كما أن له مقامات لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقد اعتملت الآلة الفقهية الشيعية التأويلية على جبر الغياب التام للنصوص الشرعية الصريحة التي تدلل على هذه النظرية.
ارتبط مبدأ ولاية الفقيه، على المستوى التطبيقي بشخصية آية الله الخميني التي أهلته لتَبَوء مكانة الولي الفقيه الأول في إيران؛ فقد اشترط الخميني في مقومات الولي عددًا من الخصائص تتوافر فيه بالأساس، بحيث انطبقت شروط الولي الفقهية والسياسية عليه، وبناءً على ذلك قام الخميني بإدراج مبدأ ولاية الفقيه في الدستور الإيراني عام 1979، مما أدى إلى دمج أكبر سلطة سياسية ودينية في يد فقيه شيعي أعلى، هو الخميني نفسه.
وطبقاً لـ(ويلفريد بوختا) أنشأ الخميني بموجب المادة 107 في دستور عام 1979 مؤسسة تتجاوز سلطاتها بكثير، تلك التي كانت ممنوحة للشاه بموجب دستور 1906م، وتؤسس المادة 110 من الدستور صلاحيات الولي الفقيه وحقوقه، وتفوضه في الاضطلاع بمسؤولية العمل كقائد عام للقوات المسلحة بأفرعها، وإعلان الحرب أو السلم، وتعبئة القوات المسلحة، وتعيين وعزل الأفراد التاليين: ستة أعضاء من علماء الدين في مجلس صيانة الدستور، المكوَّن من 12 عضو، والمسؤول عن تحديد مدى توافق مواد الدستور والقوانين مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ ورئيس السلطة القضائية؛ ورئيس مؤسسة الإذاعة والتليفزيون؛ والقائد الأعلى لقوات الحرس الثوري الإسلامي؛ والقيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن.
ويمارس المرشد الجديد عمله من خلال مكتب الإرشاد الأعلى، بمساعدة أربعة من علماء الدين، فضلًا عن شبكة من الممثلين في كل الوزارات والمؤسسات الحكومية الهامة، ومعظم الهيئات الثورية والدينية.
وقد واجهت إيران الدولة وولاية الفقيه النظرية اختبارًا صعبًا بعد وفاة الخميني، فلم يعد الدمج بين السلطات السياسية والدينية واقعيًّا، حيث انفرط عقد المقومات الدينية والسياسية المطلوب توافرها في الولي الفقيه؛ فمن جانب أخفق علي خامنئي [معلوم أن المرشد الحالي علي خامنئي قد تحصل على رتبة الاجتهاد بأطروحته التي ترجم فيها كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب رحمه الله للغة الفارسية، وهو الأمر الذي عُدّ تساهلًا في الترقي لهذه الرتبة الشيعية] المرشد الأعلى الجديد في توكيد ذاته كسلطة دينية، مما أبقى له فقط السلطة السياسية العليا، ومن جانب آخر ابتعد معظم آيات الله العظمى الذين يتفوقون على خامنئي في مؤهلات العلوم الدينية عن السياسة والحكم، إما قسرًا كما حال آية الله العظمي حسين منتظري، أو رفضًا لفكرة حكم رجال الدين للدولة.
وقد كان علي خامنئي "حجة الإسلام"، وهي درجة علمية أقل من آية الله، حتى وفاة الخميني عام 1989م، إلا أنه كان الشخص المفضل لدى مجلس الخبراء المسؤول عن تعيين خليفة للخميني، ولم تفلح خطوة المجلس في ترقية خامنئي درجة في هرم العلم الديني، ورفع رتبته إلى "آية الله"، ومنحه سلطة الإفتاء، في منحه القبول لدى جماهير الشيعة. ويتشكك الكثيرون منهم في قدرته على الإفتاء.
وبالتالي تقوضت شرعية خامنئي إلى حد كبير، ومن ورائها أركان مبدأ ولاية الفقيه الأكثر قدرة سياسيًّا وغزارة علميًّا، وقد كان من المفترض أن يكون آية الله العظمى حسين علي منتظري خليفة الخميني، إلا أن الخلافات السياسية بينهما في أعقاب انتقاد الأول لعمليات الإعدام الجماعية عام 1988 والتي طالت المساجين السياسيين من مناهضي الثورة أدت إلى استبعاد الخميني لمنتظري من خلافته وإرغامه على الاستقالة في مارس 1989م، وخلق هذا الاستبعاد أزمة خلافة؛ حيث تنص المادة 109 من الدستور على ضرورة أن يكون الولي الفقيه مرجع تقليد قادرًا على الإفتاء، وباستبعاد منتظري لم يعد هناك خلفاء مناسبون من بين رجال الدين المنخرطين في السياسة، ولذلك أمر الخميني بإلغاء هذه المادة بصورة قانونية، ولم يعد الدستور المعدل عام 1989م ينص على ضرورة كون الولي الفقيه مرجع تقليد.
واستنادًا إلى هذا التعديل الدستوري انفصلت المرجعية عن القيادة بدل إلزام دمج الاثنين، كما أعطيت القيادة السياسية مزيدًا من السلطات التنفيذية والحكومية، وفي المقابل تركت شؤون الحوزات العلمية لمراجع التقليد، مع احتفاظ المرشد الأعلى الجديد بموقعه ومرتبته الدينية، ويتناقض هذا الفصل بين القيادة الدينية في الجمهورية الإسلامية عن قيادة الجمهورية مع الأفكار المؤسسة لنظرية "ولاية الفقيه"، ويعتبر المراقبون أن هذا الفصل يبدو وكأنه انتقص من المكانة الروحية والدستورية لمرشد الجمهورية، بينما غلب السياسي على المذهبي في إيران عن طريق الاستقواء بالدولة في مواجهة المنافسين الدينيين.
ولذلك، وعلى الرغم من السلطات الدستورية التي يتمتع بها مكتب المرشد الأعلى، إلا أن الضعف أصاب المؤسسة بعد وفاة الخميني بصورة ملحوظة، ويعني هذا الفصل عمليًّا انتهاء مبدأ "ولاية الفقيه"؛ حيث لعب مبدأ ولاية الفقيه دورًا في تثبيت الدولة الدينية في إيران، مقترنًا بشخصية الخميني، بينما ساهم في المرحلة التالية في تسويغ هذه الدولة والاحتفاظ بسلطاتها، ولكن بشروط السياسة الدنيوية، وبالإضافة إلى صعوبات اختيار الولي الفقيه المناسب يواجه مبدأ ولاية الفقيه تحديات فكرية وعملية جمة في داخل إيران وخارجها، وتتركز هذه التحديات في جانبين: الرفض الفكري لمبدأ ولاية الفقيه، كليًّا أو جزئيًّا، وتزايد الفعالية السياسية للجماهير الشيعية، وتبرز هذه التحديات على الصعيدين الداخلي والخارجي.
والخلاصة أن مبدأ ولاية الفقيه يضرب بجذوره التاريخية قبل آية الله الخميني؛ فقد اجتهد عدد من فقهاء الشيعة لإيجاد أدوار سياسية بدرجات متفاوتة للفقهاء الشيعة، فضلًا عن قيادتهم الروحية للجماهير. كما تواجدت في الستينيات والسبعينيات بيئة سياسية وفكرية مواتية لدى شيعة إيران في ظهور أطروحات تجسد محورية الزعيم الفرد في قيادة الأمة، سواء كان فقيهًا أو مفكرًا ملتزمًا.
واستطاع الخميني بلورة هذه الاجتهادات الفقهية التاريخية واستثمار البيئة المواتية بفضل مكانته الفقهية عند الشيعة وشخصيته الكاريزمية ليخرج بمبدأ الولاية المطلقة للفقيه، وارتكزت أطروحة الخميني على الإطلاق في صلاحيات الولي الفقيه مقابل تهميش الأدوار السياسية للجماهير والمثقفين، وغياب المحاسبة والشفافية في سلطات الولي وممارساته، إلا أن التحولات السياسية في المراحل اللاحقة قبيل وفاة الخميني وبعدها ساهمت في تقويض أركان مبدأ ولاية الفقيه؛ فقد أدت الاعتبارات السياسية المحضة إلى استبعاد آية الله منتظري المرشح الأكثر ملائمة من خلافة الخميني، ليحل محله علي خامنئي، ونتيجة لافتقاد المرشد الحالي للمقومات الفقهية الضرورية كمرجع تقليد أعلى انفصلت القيادة السياسية عن القيادة الروحية، ويتناقض هذا الفصل بين القيادة الدينية في الجمهورية الإسلامية عن قيادة الجمهورية مع الأفكار المؤسسة لنظرية "ولاية الفقيه"، ويعني هذا الفصل عمليًّا انتهاء مبدأ "ولاية الفقيه".
وبرغم البقاء النظري لمبدأ ولاية الفقيه إلا أن الممارسات السياسية والدينية لقيادات وجماهير الشيعة داخل إيران وخارجها خلقت تحديات فكرية وعملية له؛ فقد تنامت المعارضة لمبدأ الولاية المطلقة للفقيه على الجوانب السياسية والروحية، مستندة إلى افتقار المرشد الحالي للمقومات الفقهية الواجبة للولاية الروحية، مما استلزم تعدد مراجع التقليد. كما تنامت الفعالية السياسية للجماهير الإيرانية وتعقدت التوازنات السياسية الداخلية لدى شيعة الخارج، في لبنان على سبيل المثال. وبالتالي، تبلورت اجتهادات مختلفة تجاه المواقف السياسية لجماهير الشيعة في داخل إيران وخارجها، تتناسب بالأساس مع المطالب السياسية والمصالح الوطنية، ولا تتبع بالضرورة إرشادات الولي الفقيه. ويتضح مما سبق أن مبدأ ولاية الفقيه ارتبط إلى حد كبير بشخصية آية الله الخميني، والذي رسم ملامح ومقومات الولي كأقرب ما يكون إليه شخصيًّا، وأدى هذا إلى نجاح تطبيق مبدأ الولاية في أثناء حياة الخميني، إلا أن تغليب الاعتبارات السياسية على المقومات الدينية في اختيار خليفة الخميني برغم افتراض تأسيس مبدأ الولاية على عكس ذلك قوَّض أركان ولاية الفقيه؛ فعندما افتقر الولي الفقيه لمقومات الإرشاد الديني والقيادة الروحية ضعفت سلطاته السياسية، بل واضطر لعقد تحالفات سياسية مع المستفيدين من هيراركية الجمهورية الإيرانية بوضعها الراهن، أي أن مبدأ ولاية الفقيه بات يحتاج الكثير من المراجعات النظرية، في ضوء التطبيقات العملية والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهه، وإلا اندثرت دولته.
ثمة مفارقة في صلب التجربة الإسلامية الإيرانية؛ فعلى الرغم من التأكيد الدائم من جانب رجال الثورة الإيرانية وصانعي القرار في إيران على الطبيعة الأيديولوجية للنظام السياسي، والتي كانت من الطبيعي أن تنسحب على شكل وممارسات مؤسسات الدولة، إلا أن "اللامتوقع" قد حصل لبعض المؤسسات؛ حيث اقتصر الطابع الإسلامي على أسمائها دون ممارساتها الداخلية، وتبرز مفارقة كتلك في قطاع البنوك على سبيل المثال والتي اتخذت أشكالًا إسلامية دون المضامين والممارسات المرجوة. وللطبيعة السياسية الواضحة للتجربة الإيرانية لم تكن هذه المفارقة حاجزًا جوهريًّا أمام مسار التجربة وأهدافها، بل كان المستهدف بشكل أساسي هو الحفاظ على صلابة واستقرار النظام السياسي الجديد، ومثلت وفاة الخميني -المنظر الرئيس لقواعد التحاكم السياسي- تحديًّا مهمًّا في نهاية الثمانينيات أمام التجربة الإيرانية، وبات غياب ملهم الثورة وزعيمها مشكلًا عقديًّا أمام ثابت "ولاية الفقيه"، وواجه النظام خطر الانقسام وعدم الاستقرار، بيد أن "حجة الإسلام علي خامنئي" استطاع تجاوز هذا الخطر عقب خلافته للخميني؛ حيث أبقى هذه الانقسامات التي ظهرت بالفعل ضمن حدودها الدنيا، وقد تجمعت حينها جملة من الأسباب التي ساعدت على ذلك، منها:
• مؤسسات الثورة التي أسسها الخميني وراح يثبتها في مفاصل الدولة، والتي ارتبطت بأيديولوجية الثورة بشكل أكبر نسبيًّا من ارتباطها بالقيادة.
• التوازن الذي استطاع الخميني أن يحفظه بدقة بين القوى الإيرانية المختلفة، ومن أهمها الفقراء، والتجار، ورجال الدين.
• عمل الخميني ونظامه على ايجاد كوادر فاعله من الصفوف الثانية والثالثة؛ بغية دفع عملية الإحلال والتجديد في مفاصل الدولة نحو البناء الأيديولوجي المرجو، وقد نجح بقدر كبير في تحقيق ذلك، خاصة في قطاعات الجيش والشرطة والجامعات والمدارس.
ولعله من الممكن أن نقارب التجربة عبر مستويين تحليليين، أحدهما كمي والآخر نوعي؛ حيث نرى في المستوى الكمي -مستصحبين دومًا البعد السياسي- للتجربة جملة من المؤشرات التي تستنطق التقييم من خلال هذا المستوى:
القدرات العسكرية والتكنولوجية والصناعية الإيرانية بلغت درجات عالية من التطور والكفاءة، الأمر الذي خلق جاهزية للنظام الإيراني لمواجهة المحور الأمريكي-الأوروبي الذي يسعى بضراوة لكسر شوكة المشروع الإيراني، ولا شك أن النظام الإيراني استطاع -حتى الآن- أن يضمن نفوذه في المنطقة العربية بشكل عام، وكذا مناطق التوتر بالداخل الإيراني بشكل خاص، معتمدًا على صلابة موقفه بشأن برنامجه النووي، والذي ضمن له الحصول على قدر جيد من التنازلات التي قدمتها الولايات المتحدة.
خريطة التأثير والنفوذ الإقليمي التي تطالها يد المشروع الإيراني تمثل درجة متوسطة على المستوى الكمي للتجربة، بيد أن هذا التأثير والنفوذ يترتب في ثلاثة مستويات أساسية:
المستوى المرتفع: حيث يتمثل في محور سوريا – العراق – لبنان، مدعومًا بكلّ من روسيا والصين، وقد بات هذا المستوى مهددًا بالانهيار بعد الثورة السورية وبوادر الانتفاضة العراقية، فالحليف السوري/العلوي مثَّل عمقًا استراتيجيًّا أساسيًّا للمشروع الثوري الإيراني؛ بل كان ضمن مرتكزات الأمن القومي الإيراني. بينما تمثل السلطة الحاكمة في العراق عمقًا إستراتيجيًّا مستحدثًا للمشروع التوسعي الإيراني؛ حيث يهمين الشيعة على جل المناصب الفاعلة في الحكومة والجيش والشرطة العراقية [لا يمكن الجزم بالولاء الكامل من قبل النظام العراقي تجاه المشروع الإيراني؛ حيث تتفرع الاتجاهات الشيعية في العراق إلى اتجاهين بارزين: الاتجاه الصدري، وتيار آل الحكيم، وبينهما مشتركات ومختلفات سياسية]، أما لبنان فيعتبر "حزب الله" هو الممثل والوليد الشرعي والرسمي للمشروع الإيراني في المنطقة؛ حيث يصرح في أدبياته على مرجعيته الشيعية، واعتبار قائده الروحي هو "الولي الفقيه".
المستوى المتوسط: ويتمثل هذا المستوى في أنوية المشاريع الإيرانية الموجودة تحديدًا في الجزيرة العربية؛ حيث تمتد أذرع ظاهرة "حزب الله" في اليمن والبحرين بشكل قوي ومؤثر، بينما تحاول القوى الشيعية حراك جماعات الضغط لتوسيع نطاق تأثيرها في السعودية والكويت والأردن.
المستوى المنخفض: وهو متمثل في المشاريع التبشيرية للمذهب الشيعي؛ حيث تبذل إيران مجهودان مضنية لنشر الفكر الشيعي في مصر وتركيا والسودان، كما أنها اخترقت الغابة الأفريقية، وراحت تقوم على مشروعات تنموية ودعوية وتعليمية وخيرية (دبلوماسية القوة الناعمة) في عدد من دول أفريقيا.
في قضية تصدير الثورة الإسلامية تم الخلط بين الجانب الثقافي والجانب العسكري والأمني، مما أثار حولها التوجسات العسكرية والأمنية، وكانت سببًا مباشرًا في قيام الحرب العراقية - الإيرانية وتوتر العلاقات العربية - الإيرانية، وباتت العلاقات الإيرانية بجل دول الجزيرة العربية وخاصة السعودية في غاية التوتر والخصومة السياسية والعقائدية، الأمر الذي يضفي على المشروع الإيراني صبغة انتهازية؛ فتحاول أن تخترق ثغرات خصومها لبسط مشروعها وتسويقه.
يحاول المشروع الإيراني تجاوز العقبة الثقافية التي تواجه أي مشروع إسلامي معاصر؛ حيث تمثل الأدوات العولمية منطلقًا له لإثبات تجاوبه مع مستجدات العصر، ومن ذلك الحضور الفني للسينما الإيرانية في المحافل الفنية العالمية؛ حيث استطاعت السينما الإيرانية خلال العقود الأخيرة فرض نفسها علي الساحة العالمية، حتى احتلت المركز الثاني عشر عالميًّا، وحازت "الأوسكار" (أرفع جائزة سينمائية على مستوى العالم).
وجاءت السينما الإيرانية لتحطم الصورة التقليدية الجامدة المأخوذة عن إيران كدولة إسلامية شيعية متشددة, وأكدت للعالم أجمع أن لديها من الفكر والانفتاح والنضوج العقلي ما يؤهلها لمسايرة السينما العالمية، بل يجعلها في المقدمة على مستوى "النضج الفكري والإبداعي".
وعلى صعيد المستوى النوعي، نلمح جملة من المؤشرات:
• الخلافات السياسية القائمة بين الحوزتين العلميتين في قُم والنجف تمثل شكلًا من أشكال الصراع السياسي بين القطبين.
• سيطرة إيران على زعامة المذهب الإثني عشري وغلبة النزوع للإرث الفارسي، الأمر الذي يمثل عائقًا صلبًا أمام مشاريع التوسع ومحاولات تصدير الثورة والفكرة الإيرانية؛ فحكومة إيران تتعمد عدم نشر إحصائية رسمية بالتوزع العرقي، بسبب سياستها القائمة على تفضيل العرق الفارسي، والحقيقة أنها تنتهج سياسيات إقصائية لباقي الفصائل المكونة من:
الفرس 63% - الأتراك (الأذر والتركمان) 20% - العرب 8% - الأكراد 6% - البلوش 2% - جماعات أخرى 2%. [(CIA World Factbook) على موقع وكالة الإستخبارات الأميركية.]
كما أن طهران أحد أندر العواصم العالمية التي تخلو من مسجد للسُّنة، وتتضارب المعلومات بشأن الحجم الحقيقي للسنة في إيران؛ فالإحصاءات شبه الرسمية لحكومة إيران تقول أنهم يشكلون 10 % من السكان، إلا أن بعض مصادر السنة تؤكد أنهم يشكلون 30%، وهو يوافق -كما يقولون- الإحصائية القديمة التي أجريت أثناء حكم الشاه، كما أن مصادر مستقلة تقول إن السنة يشكلون من 15 إلى 20% من سكان إيران.
• يتخذ المشروع الإيراني مدخلًا سوسيو - ثقافي لبسط السيطرة على عقول الأتباع والمبشرين، حيث إنه يعمد إلى تصوير "الولي الفقيه" في مخايلهم بصورة الزعيم المقدس والخارق للعادة؛ حيث تنتشر صور الخميني وخامنئي في أماكن كثيرة من إيران، وفي العروض العسكرية وفي الاحتفاليات والمناسبات، تمامًا كما الحال في المشروع الناصري الذي استخدم هذا المدخل بصور جمال عبد الناصر وتصويره كزعيم ملهم ومنقذ للعروبة والعرب.
• الفساد الذي يطال قطاعات من الرموز الدينية المنتفعة من "الخمس"، حيث تنخلع الصورة الكهنوتية واليوتيوبية وتهتز القدسية التي يتلبس بها رجل الدين من العقل الشيعي.
وبقراءة المستويين التحليليين الكمي والنوعي، يظهر لنا صحة الفرضية التي طرحناها في البداية، فالبعد السياسي للمشروع غلَّب جانب التوسع والدعوة للفكر الشيعي على نوعية الأتباع والمؤيدين، وهو نوع من "الفصام" الذي يشق شخصية الإنسان بين ظاهر وباطن متناقضين، وغدت الممارسات الإسلامية صورًا تُؤدى اضطرارًا من قبل قطاعات واسعة من الناس هروبًا من رقابة رجالات تطبيق الشريعة، فضلًا عن صورة أحكام الشريعة في الفكر الشيعي، والتي اتسمت بمرونة لا متناهية نتيجة الصلاحيات التأويلية الباطنية التي تتاح لرجال الدين.
كما أن الناظر في الممارسات الدينية الموسمية، وموقعها في خريطة الفرق الإسلامية، يراها تتماهى وتتطابق بل وتفوق في كثير من الأحيان ممارسات غلاة الصوفية؛ فالحسينيات واللطميات والزيارات المقدسة تحوي جملة من الطقوس العنيفة والقربات المبتدعة، ما يشكل مانعًا من قبول نموذج إسلامي مرتكز على مثل هذه الممارسات، وكيف يمكن لمشروع يراد له أن يكون حضاريًّا ومنافسًا للنماذج الغربية المعاصرة في الحكم والعلم والتقدم، وهو يحمل في مسالكه التعبدية بدعًا وخرافات، لم يستطع رموزه أن يحرروا أدلتهم ويحققوا مناهجهم الاستدلالية إلا من حصرية تفسير النصوص الدينية لرجال الدين.
ويبدو أن المطرد في فلسفة التوسع والدعوة للمذهب والمشروع الإيراني الشيعي، هو استخدام الأبواب الخلفية والمسالك الخفية؛ فدول الجوار وخاصة دول الخليج العربي تعاني من التدخل الإيراني المؤثر سلبًا في الشؤون الداخلية، وذلك من خلال العائلات والطوائف الشيعية؛ حيث مثلت احتجاجات مدينة "القطيف" ومثيلاتها في البحرين امتدادًا للمحاولات الإيرانية المستمرة لمد نفوذها إلى الجزيرة العربية، ولا شك أن هذه الطريقة في نشر النموذج الإيراني تمثّل مصدر استعداء ومخاصمة لجاراتها في المنطقة.
محمد توفيق
مقال من مجلة "حُراس الشريعة" - العدد الثالث: رجب 1434هـ