أهل - الحديث - حديث شريف - محمد - صلى الله عليه وسلم - قرأن كريم


كثيرا ما يردد شيخ الإسلام ابن تيمية في ردوده على أهل الكلام والنفاة أن اكثرهم قليل المعرفة بما جاء به الرسول- (- والسلف!، وقد أورد اعتراضا على قوله هذا ثم أجاب عنه. فقال: " فإن قيل: قلت: إن اكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك. قيل: هؤلاء أنواع:
نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن
والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه، وهذه حال مثل أبي حاتم البستى وأبي سعد السمان المعتزلي، ومثل أبى ذر الهروي ، وأبي بكر البيهقى، والقاضى عياض وأبي الفرج بن الجوزي ، وأبي الحسن على بن المفضل المقدسى وأمثا لهم.
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا يكون له من الخبرة
بكلام السلف والأئمة في هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما، وهذه حال أبي محمد بن حزم ، وأيى الوليد الباجي، والقاضي أبى بكر بن العريى وأمثالهم، ومن هذا النوع بشر المريسى ، ومحمد بن شجاع الثلجى
ونوع ثالث: حمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفةوالتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض، وهذه حال أو بكر بن فورك ، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وغيرهم،
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل؟ فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار، وتارة يفوضون معانيها ويقولون تجرى على ظاهرها كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك، وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله.
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع ولا يعرفون أنه موضوع، وما له لفظ يدفع الاشكال مثل أن يكون رؤيا منام فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج.
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة من الجهمية وغيرهم وقد شاركهم في بعض أصولها، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة، كمسألة القرآن والرؤية فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث، وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه والحديث وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة والحديث، فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض، وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه كالقاضي أبى بكر ،أهل السنة والحديث على وجه الإجمال ويحكيه بحسب ما يظنه لازما، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفاصيلها، وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغرهم، ومعرفة فساد أقوالهم، وأما في معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة والتابعون فمعرفتهم بذلك قاصرة.
وإلا فمن كان عالما بالآثار، وما جاء عن الرسول وعن الصحابة والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء. إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع الخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال، كأكثر أهل الحديث. أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك... [عدد جمهرة من أئمة أهل السنة ثم قال،: ومن لا يحصى عدده إلا الله من أئمة الإسلام وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة، كا تواترت الآثار عنهم وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك، من غير خلاف بينهم في ذلك"
إن هذا التقسيم المبني على الاستقراء الجيد لأقوال وكتب هؤلاء يجيب عن كثير من الأسئلة التي ترد في نفس المسلم- المتمسك بمذهب السلف- وفي قوله، ومن أهمها: كيف وقع هؤلاء العلماء في حبائل علم الكلام ومسائله وقالوا بها؟ وكيف يجمع بين اهتمامهم بالسنة وروايتها، وبين اعتقادهم لأقوال أهل البدع وكثير منها حرب على السنة وما جاء فيها؟. ثم لماذا يتردد بعض هؤلاء في هذه المسائل فتارة يرجحون مذهب السلف، وتارة يميلون إلى أقوال أخرى مخالفة له؟. هذه الأسئلة وغيرها يتضح الجواب عنها من خلال حكم ابن تيمية على هؤلاء العلماء والمعرفة بأحوالهم والاعتراف لهم بما عندهم من العلم والنية الصادقة، " ومن المعلوم- بعد كمال النظر واستيفائه- أن كل من كان إلى السنة وإلى طريقة الأنبياء أقرب- كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح، لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تتناقض وتتعارض ".
وإذا كان هذا تقسيما للعلماء فإن ابن تيمية أحيانا ينظر نظرة فاحصة إلى الكتب بفنونها- من غير نظر إلى مؤلفيها فيقول: " والمقصود هنا أن يعلم أنه لم يزل في أمة محمد- (- من يأمر بالمعروف وينس عن المنكر، وأن أمته لا تبقى على ضلالة، بل إذا وقع منكر من لبس حق بباطل أو غير ذلك فلابد أن يقيم الله تعالى من يميز ذلك فلابد من بيان ذلك ولابد من إعطاء الناس حقوقهم، كا قالت عائشة- رضي الله عنها- أمرنا رسول الله- (- أن ننزل الناس منازلهم، رواه أبو داود وغيره . وهذا الموضع لا يحتمل من السعة
وكلام الناس في مثل هذه الأمور التي وقعت ممن وقعت منه، بل المقصود التنبيه على حمل ذلك لأن هذا محتاج إليه في هذه الأوقات: فكتب الزهد والتصوف فيها من جنس ما في كتب الفقه والرأي وفي كليهما منقولات صحيحة وضعيفة بل وموضوعة ومقالات صحيحة وضعيفة بل وباطلة، وأما كتب الكلام ففيها من الباطل أعظم من ذلك بكثير، بل فيها أنواع من الزندقة والنفاق، وأما كتب الفلسفة فالباطل غالب عليها، بل الكفر الصرج كثير فيها ".