البذال السديري
يتكرس الانطباع وقد يكون صحيحا أن مشاهير شعراء الماضي القريب ينحصر تميزالفرد منهم في مبعث شعري محدد أو في مبعثين على الأكثر ’كأن ينطوي الشاعر على الجانب الفلسفي أو الاجتماعي أو العاطفي.
بيد أن الشاعر الكبير الراحل مرشد سعد البذال المتوفى عام 1990 بدا محموعة شعراء متميزين يتانصون في شاعر واحد أكثر تميزا في نطاق الأسلوب الكلاسيكي الحي وفق أدوات الطرح في أجواء تلك المرحلة الزمنية
يتنفس النتاج الشعري ل مرشد البذال أصالة العبارة وكثافة التناول وحيوية التهافت التعبيري.
لم يتدثر شعره بلمحات الفصحى كما هو جل قصائد شعراء العامية الأقدمين أمثال محمد القاضي وسليم عبد الحي ومحمد العوني وغيرهم،على الرغم أن من المرجح اطلاعه على قصائدهم.
كذلك لم يتمحور شعره نسخة مكررة’ مقررة كقصائد شعراء جيله اللذين أمعنوا في الطرح التقليدي الفج’
ولا نقول انه بين’بين,كون ابداعية النص لاتعترف بجغرافيا الكلمات’ إنما تجلى شعره كينونة تعبيرية مستقله بذاتها, يتراءي أسلوب (السهل الممتنع) أفضل أدواتها ، ووهج الصدق أجلى سماتها، إذ أن للجزالة الشعرية ومضها الاسطوري وتدفقها الشعوري ان أسميناها كلاسيكية أو حداثية تبعاً للمقياس النقدي النظري.
عاش البذال طويلا فجاء نتاجه المنشور في كتابين كبيرين موسوعة شعرية معرفية رصدت أطوار البيئة الكويتية سياسيا واجتماعيا منذ بساطة الحياة وهو في مطلع عمره إلى تعقيدات النهضة في أواخر حياته’
وقد كرمته الدولة ومنحته وسام شاعر الكويت الكبير وأطلق اسمه على إحدى المدارس الثانوية.
مرشد البذال ‘الانسان‘عانى أشد المعاناة بفقد ثلاثة من أبنائه وكان صابرا محتسبا يقتطع من ايمانه الفطري ضمادا لجراح الحزن النازف والفراق المتضاعف,
هاهو يرثي آخر أبنائه:
وادعت يوم السبت تالي عيالي
أتلى العهد به يوم للقبر ينشال
وقفت عنده موقفٍ حس بالي
والرمل فوقه ينسفونه بالأشبال
صفقت بالكف اليمين الشمالي
وونيت ونة من عليه الدهر مال
بين البذال والسديري
نشأت صداقة حميمة بين الراحلين مرشد البذال والأمير محمد السديري المتوفي عام 1978 م على الرغم من أنهما نادرا مايلتقيان حيث يقطن كل منهما في بلد آخر ’ بيد أن الرسائل الشعرية أو مانسميها (المساجلات) ظلت تتوالى بين الشاعرين الكبيرين من خلال عمير بن زبن الصديق المقرب للأمير السديري
..ولم تكن تلك المساجلات الا قصائد تُعدّ من عيون الشعر الشعبي الأصيل تتضمن أبلغ الحكم وأعمق العبارات.
ومنها قول السديري:
وبانذرك عن دنياك ياجاهلٍ بها
ترى الشر بين الناس تنشر حبايله
ويجئ الرد من البذال مماثلا في الفكرة والقافية ومساحة القصيدة’ إذ يومئ إلى خداع الدنيا متوافقا مع رأي صاحبه:
تزخرقت في منظر العين كنّها
كما رونق الطاووس يعطي شكايله
وحين سرت اشاعة غير صحيحة بوفاة السديري المكنى ب أبو زيد اشتعل الهلع في قلب البذال قصيدةً حائرة
تتلمس مسارب الحقيقة لما يحمله لصديقه من ود شديد الصدق عضّد قوته الاحترام المتبادل بينهما وربما احساسهما غير المعلن بأنهما أبرز شاعرين في عصريهما.وبعد أن عبّر البذال عن صدمته وتعذّر استبانة الخبر ’برّر ذلك الود الكامن في أعماقه :
ماني في حبي لبو زيد لفّاف
محبةٍ ترجع لكسب المصاريف
انا غرامي ربعة الناس الأشراف
فهود الرجال اللي عليهم تحاسيف
والطيب لو انّه على الغير ينشاف
لازم تجي له في المجالس سواليف
في تضاريس هذا المشهد المؤثر شعرا ومشاعرا لا يمكن أن تصل الأبيات الخلجات إلى السديري من دون أن يرد على صاحبه الوفي مؤكدا الشعور الوجداتي المتبادل بينهما’ ومنهيا حيرة البذال بكلمات تطمينية
تبعثر أشباح الخبر / الاشاعة:
الناس يامرشد هالايام بخلاف
وانا ومثلك للفضيله مواليف
وانا بفضل منزّل آيات الاحقاف
لاجي بظلّه عن هبوب العواصيف
وايضاٍ ونا من قول من كان ماخاف
أرقد بامان الله ولو مامعي سيف
.